في دورة رائعة مع مدرِّب متمكِّن وبارِع في عادات النجاح، سُئِل في آخرها سؤالاً مُفاده: لماذا ندعو إلى عادات النجاح ولا نربط الأمر بالصلاح؟ ولماذا الحديث عن النجاح في الحياة وفي جميع المجالات، ولم يكن الحديث عمَّا هو أعم وأقرب وآكَد شرعًا وهو الصلاح؟ ولماذا الناجحون وليس الصالحين؟
وباختصار: لماذا النجاح وليس الصلاح؟
مع أن الصلاح مصطلح شرعي، والنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، التي تربِط الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بالعمل الصالح وليس بالعمل الناجح - كثيرة وواضحة.
كانت إجابة المدرِّب - من وجهة نظري - دبلوماسية وذكية؛ فقد رمى بالكرة - كما يُقال - في مرمى المتدرِّبين، حيث كان الحضور شريحة من الدعاة وطلاَّب العلم والمهتمِّين بالعمل التربوي والدعوي، فقال ما ملخَّصه: هذا دوركم - أيها الدعاة - وتوَسَّع في شرح هذا المتن المختصر الواضح، وكان آخر كلام له في تلك الدورة الرائعة.
وبالفعل، إن هذا هو دور الدعاة، وهو ربط الدنيا بالآخرة، ودعوة الناس للعمل الصالح، لكن لماذا لا يكون الدور تكامليًّا، وخاصة أن دورات النجاح خصوصًا، ودورات التنمية البشرية عمومًا، وصلت إلى شرائح عديدة، ولها انتشار واسع وتأثير ملحوظ، هذا أولاً.
ثانيًا: النجاح أصلاً أمر محمود ومرغوب شرعًا وعقلاً، ولكن التركيز على مصطلح النجاح، وكثرة الحديث عنه بعيدًا عن استخدام مصطلح الصلاح أوَّل ما يُصرَف إليه الذهن النجاح الدنيوي، وإهمال النجاح الأخروي، وبالتأكيد دون قصد المدرب مع التهاون - غير المقصود أيضًا - بمهمَّة المسلم الرئيسة في هذه الدنيا.
الحديث عن النجاح تشعَّب في جميع مجالات الحياة، حتى وصل إلى النجاح في شراء حذاء، أو إجراء اتِّصال هاتفي، أو كسب ’’زبون’’ جديد؛ بمعنى شمل جوانب الحياة، وبإهمال واضح للنجاح الأخروي، فانتشرت أفكار حول تحقيق الثراء، والوصول إلى مكانة اجتماعية مرموقة، وتوسيع دائرة العلاقات، والحصول على الرضا الوظيفي، والقدرة على الإلقاء والتأثير في الآخرين، وكيف تكون مديرًا ناجحًا، ورجلاً مشهورًا... وهكذا.
لا شكَّ أن الأمر كما ذكرت ليس مقصودًا من المدربين - هذا ما نحسبهم عليه - ولكن الدندنة حول النجاح وترك مصطلح الصلاح له آثار أخطرها: تعميق التعلُّق بالدنيا وتوسيع الفجوة بين العمل للدنيا والعمل للآخرة.
نعم، الأمة تعيش في حالة ضعف عام في سياق الحضارة المادية القائمة اليوم؛ وهذا جعَلَها آخِر الأمم مكانة وحديثًا وحياة، لكن ما هي مشكلتنا الرئيسة؟
الحضارة الإسلامية في الأندلس لمَّا سقطت لم يكن سقوطها بسبب رفضها أو تركها للحضارة المادية، بل بالعكس فقد كانت مدرستها وموطن تصديرها للغرب أهم ما أسقط الحضارة الإسلامية في الأندلس؛ هو انشغال الناس بالدنيا وتعلُّقهم بالملذَّات على حساب الآخرة، وتركهم للجهاد وبُعْدُهم عن التديُّن والصلاح، سقطت لمَّا تحوَّلت الأخوَّة الإيمانية إلى عصبيَّات جاهلية ومطامع شخصية، والتي تدلُّ بمجملها على ضعف الإيمان في عموم الأمَّة.
إن الذي أريد قوله: إن مشكلتنا الرئيسة أننا نلمس ضعفًا عامًّا في التديُّن والبعد عن الصلاح، وعندما حاولنا البحث عن الخروج من حالة الوَهَن العام بالتركيز على النجاح في الدنيا، فإننا اخترنا طريقًا طويلاً ونتائجه غير مؤكَّدة، هذا إن لم تكن نتيجة غير مطمئنة؛ لأننا باختصار أمَّة عزُّها ومجدها ونجاحها وتميُّزها حُدِّد مسبقًا وبمنهج معصوم في مثل قوله - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96].
إن حالة الضعف والتدهور في التعبُّد والنظر إلى الآخرة التي تعيشها الأمَّة، مع الانبهار غير الطبيعي بالغرب - يجعل التعلُّق بالآخرة في تدهور مستمر؛ لذا فنحن بحاجة ماسَّة إلى دورات مكثَّفة وجهود مترادفة لإحياء روح الإيمان فيها، وإعادتها إلى تذكُّر الآخرة والسعي لها، واستخدام الدعوة إلى النجاح وكثرة الاهتمام به يُقوِّي التركيز على الدنيا على حساب الآخرة فيزداد الأمر سوءًا.
إن الدعوة إلى الصلاح والتركيز عليه في التغيير إلى جانب أنه مصطلح شرعي، فإنه أيضًا يحافظ على التوازن بين الدنيا والآخرة، كما أنه يضبط عملية النجاح بضوابط شرعية تحفظها من التحوُّل إلى نظرة قاصرة تظهر بمثل السعي إلى تحقيق الثراء ولو من الربا أو الرشوة، ومن التفاخر بالكماليات ولو كانت الروح في جفاف حادٍّ، وتنتشر في المجتمع روابط وعلاقات غير سليمة قائمة على تعامل مادي بحت دون النظر إلى ميزان التقوى والصلاح، ويصبح لسان حال الناس: إذا جاءكم مَن ترضون ماله ومركزه فزوِّجوه، وإن لم ينطقوا بها، وعلى ذلك فقِس في سائر تعاملات الناس.
إننا بحاجة إلى مقوِّمات الحضارة لكننا على يقين أننا لن نصل إلى حضارة الدنيا إلا من طريق ديننا وبقدر صلاحنا.
أيها السادة المدربون، لو استخدمتم مصطلح ’’الصلاح’’ لأشعلتم في المسلم جذوة الفوز في الدنيا والآخرة، وخفَّفتم من اللهث وراء الدنيا ونسيان الآخرة، فهل يمكن أن نسمع عن دورة في عادات الصالحين؟! أرجو ذلك.
أخيرًا:
تأمَّلوا قول الله - سبحانه وتعالى - : {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، وقوله - تعالى -: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
*الألوكة
وباختصار: لماذا النجاح وليس الصلاح؟
مع أن الصلاح مصطلح شرعي، والنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، التي تربِط الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بالعمل الصالح وليس بالعمل الناجح - كثيرة وواضحة.
كانت إجابة المدرِّب - من وجهة نظري - دبلوماسية وذكية؛ فقد رمى بالكرة - كما يُقال - في مرمى المتدرِّبين، حيث كان الحضور شريحة من الدعاة وطلاَّب العلم والمهتمِّين بالعمل التربوي والدعوي، فقال ما ملخَّصه: هذا دوركم - أيها الدعاة - وتوَسَّع في شرح هذا المتن المختصر الواضح، وكان آخر كلام له في تلك الدورة الرائعة.
وبالفعل، إن هذا هو دور الدعاة، وهو ربط الدنيا بالآخرة، ودعوة الناس للعمل الصالح، لكن لماذا لا يكون الدور تكامليًّا، وخاصة أن دورات النجاح خصوصًا، ودورات التنمية البشرية عمومًا، وصلت إلى شرائح عديدة، ولها انتشار واسع وتأثير ملحوظ، هذا أولاً.
ثانيًا: النجاح أصلاً أمر محمود ومرغوب شرعًا وعقلاً، ولكن التركيز على مصطلح النجاح، وكثرة الحديث عنه بعيدًا عن استخدام مصطلح الصلاح أوَّل ما يُصرَف إليه الذهن النجاح الدنيوي، وإهمال النجاح الأخروي، وبالتأكيد دون قصد المدرب مع التهاون - غير المقصود أيضًا - بمهمَّة المسلم الرئيسة في هذه الدنيا.
الحديث عن النجاح تشعَّب في جميع مجالات الحياة، حتى وصل إلى النجاح في شراء حذاء، أو إجراء اتِّصال هاتفي، أو كسب ’’زبون’’ جديد؛ بمعنى شمل جوانب الحياة، وبإهمال واضح للنجاح الأخروي، فانتشرت أفكار حول تحقيق الثراء، والوصول إلى مكانة اجتماعية مرموقة، وتوسيع دائرة العلاقات، والحصول على الرضا الوظيفي، والقدرة على الإلقاء والتأثير في الآخرين، وكيف تكون مديرًا ناجحًا، ورجلاً مشهورًا... وهكذا.
لا شكَّ أن الأمر كما ذكرت ليس مقصودًا من المدربين - هذا ما نحسبهم عليه - ولكن الدندنة حول النجاح وترك مصطلح الصلاح له آثار أخطرها: تعميق التعلُّق بالدنيا وتوسيع الفجوة بين العمل للدنيا والعمل للآخرة.
نعم، الأمة تعيش في حالة ضعف عام في سياق الحضارة المادية القائمة اليوم؛ وهذا جعَلَها آخِر الأمم مكانة وحديثًا وحياة، لكن ما هي مشكلتنا الرئيسة؟
الحضارة الإسلامية في الأندلس لمَّا سقطت لم يكن سقوطها بسبب رفضها أو تركها للحضارة المادية، بل بالعكس فقد كانت مدرستها وموطن تصديرها للغرب أهم ما أسقط الحضارة الإسلامية في الأندلس؛ هو انشغال الناس بالدنيا وتعلُّقهم بالملذَّات على حساب الآخرة، وتركهم للجهاد وبُعْدُهم عن التديُّن والصلاح، سقطت لمَّا تحوَّلت الأخوَّة الإيمانية إلى عصبيَّات جاهلية ومطامع شخصية، والتي تدلُّ بمجملها على ضعف الإيمان في عموم الأمَّة.
إن الذي أريد قوله: إن مشكلتنا الرئيسة أننا نلمس ضعفًا عامًّا في التديُّن والبعد عن الصلاح، وعندما حاولنا البحث عن الخروج من حالة الوَهَن العام بالتركيز على النجاح في الدنيا، فإننا اخترنا طريقًا طويلاً ونتائجه غير مؤكَّدة، هذا إن لم تكن نتيجة غير مطمئنة؛ لأننا باختصار أمَّة عزُّها ومجدها ونجاحها وتميُّزها حُدِّد مسبقًا وبمنهج معصوم في مثل قوله - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96].
إن حالة الضعف والتدهور في التعبُّد والنظر إلى الآخرة التي تعيشها الأمَّة، مع الانبهار غير الطبيعي بالغرب - يجعل التعلُّق بالآخرة في تدهور مستمر؛ لذا فنحن بحاجة ماسَّة إلى دورات مكثَّفة وجهود مترادفة لإحياء روح الإيمان فيها، وإعادتها إلى تذكُّر الآخرة والسعي لها، واستخدام الدعوة إلى النجاح وكثرة الاهتمام به يُقوِّي التركيز على الدنيا على حساب الآخرة فيزداد الأمر سوءًا.
إن الدعوة إلى الصلاح والتركيز عليه في التغيير إلى جانب أنه مصطلح شرعي، فإنه أيضًا يحافظ على التوازن بين الدنيا والآخرة، كما أنه يضبط عملية النجاح بضوابط شرعية تحفظها من التحوُّل إلى نظرة قاصرة تظهر بمثل السعي إلى تحقيق الثراء ولو من الربا أو الرشوة، ومن التفاخر بالكماليات ولو كانت الروح في جفاف حادٍّ، وتنتشر في المجتمع روابط وعلاقات غير سليمة قائمة على تعامل مادي بحت دون النظر إلى ميزان التقوى والصلاح، ويصبح لسان حال الناس: إذا جاءكم مَن ترضون ماله ومركزه فزوِّجوه، وإن لم ينطقوا بها، وعلى ذلك فقِس في سائر تعاملات الناس.
إننا بحاجة إلى مقوِّمات الحضارة لكننا على يقين أننا لن نصل إلى حضارة الدنيا إلا من طريق ديننا وبقدر صلاحنا.
أيها السادة المدربون، لو استخدمتم مصطلح ’’الصلاح’’ لأشعلتم في المسلم جذوة الفوز في الدنيا والآخرة، وخفَّفتم من اللهث وراء الدنيا ونسيان الآخرة، فهل يمكن أن نسمع عن دورة في عادات الصالحين؟! أرجو ذلك.
أخيرًا:
تأمَّلوا قول الله - سبحانه وتعالى - : {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، وقوله - تعالى -: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
*الألوكة