مناقشة مقالة (الناس على دين دساتيرهم) للكاتب محمد المختار الشنقيطي
02-4-2010
وأستغرب وقوع الأستاذ الشنقيطي في مغالطات علمية جلية يفترض فيه، كمهتم بالسياسة الشرعية والفقه السياسي، أن يكون الصواب فيها لديه من الأوليات! وبما أن المقال ليس بحثا علميا في مفهوم المواطنة الذي ينشده الأستاذ الشنقيطي، إنما هو أقرب ما يكون للخاطرة، فلن أتكلف عرض جميع مغالطات المقال، بل أذكر بعضا منها:
قرأت مقال الباحث الأستاذ محمد المختار الشنقيطي المنشور في مجلة العصر الإلكترونية يوم الأربعاء 15 ربيع الآخر.1431هـ الموافق 31 مارس2010م، بعنوان (الناس على دين دساتيرهم)، وأعدت قراءته غير ما مرة لأستوعب فكرته ومراده؛ فنشطت همتي لنقاش مقال الأستاذ الشنقيطي راجيا المولى جل في علاه أن يوفقني وإياه والمسلمين لكل خير، وأن يشرح صدورنا لهداه والعمل في رضاه. وأقول:
* من هو الشنقيطي؟
ليس من لازم نقاش الأفكار أن نتطرق إلى أشخاص قائليها، مدحا أو قدحا، فالأصل أن العبرة هي بصواب القول أو خطئه بغض النظر عن قائله، لكن قد انتشر في هذه الأزمنة المتأخرة كإحدى ظواهر الضعف العلمي، أن يتوجه النقاش غالبا إلى شخص القائل دون فكرته، ومن هنا ارتأيت أن أعرف القراء الكرام بالأستاذ الشنقيطي لكي يعلموا أن نقاش رأيه، على غرابته، مجد وذا فائدة؛ فليس كل فكرة ورأي تستحق النقاش: فبعض الآراء يجب نقاشها لحساسيتها ومدى تأثيرها، وبعضها لواسع انتشارها، والبعض منها لشخص قائلها حتى وإن كانت ظاهرةً في مجانبتها للصواب.
عرفت الأستاذ الشنقيطي من بضع سنين من خلال الإطلاع على بعض مؤلفاته ومقالاته، والتي يغلب عليها الشأن السياسي، فقها وتاريخا، ومنها مقاله الذي بين أيدي القراء والذي نحن بصدد نقاشه، فالأستاذ الشنقيطي، كما قرأت في سيرته، قد طلب العلم الشرعي، كسائر الشناقطة في مورتانيا، ودرسه على بعض الشيوخ، ثم تخصص في الشريعة الإسلامية في مرحلة البكالوريس ليكون تخصصه الدقيق في الدراسات العليا في تاريخ الأديان، وهو حاصل على شهادتي بكالوريس، وشهادتي ماجستير، وعلى أبواب دكتوراة واحدة حتى الآن!
الذي أرمي إليه أن الأستاذ الشنقيطي باحث أكاديمي ذو إطلاع على تراث الفكر الإسلامي، لكن لا يمكن وصف مقاله المشار إليه أعلاه على أنه بحث علمي، بل أقصى ما يمكن وصفه هو أنها محاولة ’’خجولة’’ لطرح فكرة يمكن وصفها بالشذوذ الفكري عن الفقه الإسلامي.
* ماهية المقال:
تتلخص فكرة المقال في أن نظام أهل الذمة، كصورة سياسية لعلاقة المواطنين غير المسلمين بالدولة الإسلامية، هو نظامٌ مرحلي قد استدعته الظروف التاريخية، وأن هذا النظام طبقيٌ يجعل مواطني الدولة الإسلامية غير المسلمين مواطنين من الدرجة الثانية، وليدلل على فكرته أشار إلى نظام الجزية، وإلى اشتراط الإسلام لتولي الولايات العامة. وأشار في مقاله إلى أن التأصيل لنظام الذمة بشكل خاص وللسياسة الشرعية بشكل عام في التراث الإسلامي إنما هو وليد حالة الفكر السياسي لتلك الأزمنة وليس مستمداً من هدي النبوة على صاحبها أزكى الصلاة والسلام.
وطالب في مقاله بإلغاء تنظيم علاقات الدولة الإسلامية بمواطنيها على أساس تقسيمهم إلى أهل إسلام وأهل ذمة، وإبدال هذه الصيغة التاريخية بصيغة أكثر حداثة تنسجم مع الفكرة الإسلامية أن الدين لله والوطن للجميع كما فهمتُ من مقاله!!
أما نقاشي للمقال، فأعرض له من خلال التالي:
* جوانب الاتفاق:
لا أجد في مقال الأستاذ الشنقيطي ما أتفق وإياه عليه سوى ما أشار إليه من وثيقة المدينة، على ضعف فيها من الناحية الحديثية، وقوله: (إن القرآن الكريم يعلمنا أن غاية كل الرسل والرسالات هو القيام بالقسط ’’لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط’’ (سورة الحديد 25). والعدل قيمة مطلقة وقانون أزلي لا يَخرمه اختلاف المعتقد أو الأوطان أو الأجناس، كما أكد ابن تيمية ببلاغة في قوله ’’إن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح بحال’’ (ابن تيمية: منهاج السنة 5/126). فمن التناقض الأخلاقي والمنطقي أن ندعو إلى دولة الحرية والمساواة والعدل، ونحن نحرم مخالفينا في المعتقد أو العرق أو الوطن من هذه القيم) اهـ.
* مغالطات علمية:
وأستغرب وقوع الأستاذ الشنقيطي في مغالطات علمية جلية يفترض فيه، كمهتم بالسياسة الشرعية والفقه السياسي، أن يكون الصواب فيها لديه من الأوليات! وبما أن المقال ليس بحثا علميا في مفهوم المواطنة الذي ينشده الأستاذ الشنقيطي، إنما هو أقرب ما يكون للخاطرة، فلن أتكلف عرض جميع مغالطات المقال، بل أذكر بعضا منها:
1 ـ قوله عن الدولة الإسلامية التي حكمها وأسسها نبي الهدى عليه أفصل الصلاة وأزكى التسليم: (لم تأخذ الدولة من اليهود ضريبة الجزية التي أخذها المسلمون من المواطنين غير المسلمين فيما بعد)، فصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب على يهود المدينة الجزية، لكن غير الصحيح هو أن المسلمين هم من أخذوا الجزية فيما بعد من المواطنين غير المسلمين!
فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من أهل البحرين كما في حديث عمرو بن عوف والمسور بن مخرمة، رضي الله عنهما، المتفق عليه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين، يأتي بجزيتها). وأخذ صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل الكتاب في اليمن، كما في الثابت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما كما عند البيهقي في السنن الكبرى، أن النبي صلى الله عليه وسلم (كتب إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه أن من أسلم من المسلمين فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أقام على يهودية أو نصرانية فعلى كل حالم دينارا أو عدله من المعافر..)، ويشهد له حديث مسروق بن الأجدع رضي الله عنه الذي رواه ابن عبدالبر في التمهيد وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في قصة بعثه إلى اليمن المروي في كتب السنن. وكذلك أخذ صلى الله عليه وسلم الجزية من نصارى نجران، ومجوس هجر، وأهل أيلة، وأذرح، وأهل أذرعات وغيرهم.
2 ـ لماذا لم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من يهود المدينة حين قدم إليها وأسس دولة الإسلام؟ هل لأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات مع المسلمين كما يلمح الأستاذ الشنقيطي؟ بالتأكيد أن الجواب لا، ولماذا كل هذه الثقة في خطأ الشنقيطي ومغالطته الكبرى؟! الجواب على السؤالين السابقين هو أن الجزية لم تفرض في الشريعة إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة!! ولهذا السبب لم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من يهود المدينة، لا بسبب المواطنة!!
3 ـ ذكر الأستاذ الشنقيطي في مقدمة استشهاده بوثيقة المدينة أن دستور الدولة النبوية قد أسس (الأمة السياسية التي يدخل فيها المسلم وغير المسلم على قدم المساواة)، ولا شك لدي أن وثيقة المدينة قد أسست الأمة السياسية التي يدخل في المسلم وغير المسلم لكن ليس على (قدم المساواة)، كما عبر الشنقيطي، بل على (أساس العدل)، وإن كان الأستاذ يقصد بقدم المساواة خضوع جميع أفراد الدولة الإسلامية للشريعة الإسلامية فصحيح تعبيره، لكن الأستاذ الشنقيطي كما يتضح من مقاله يقصد بقدم المساواة تساوي المسلم وغير المسلم في الحقوق والواجبات، وهو مما لا شك في خطأه؛ فوثيقة المدينة تنص على أن (لا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا يَنصُر كافراً على مؤمن) فما هو تأويل الأستاذ الشنقيطي لهذا النص الواضح في عدم المساواة بين المواطن المسلم والمواطن غير المسلم؟!
4 ـ يقول الأستاذ الشنقيطي: (تشترط العديد من دساتير الدول العربية أن يكون رأس الدولة مسلما. وهو أمر يثير إشكالا حول المساواة السياسية بين المواطنين)، ولست أدري ما وجه الإشكالية المثارة؟ فكل الدول العربية يشكل المسلمون فيها غالب السكان؛ فأين هي المشكلة إذا حفظ الدستور حق الأكثرية في الحكم؟! أم أن الأستاذ يريد حذف شرط الإسلام في حال تغير ديموغرافية سكان الدول العربية، فيصبح غير المسلمين هم الأكثرية؟ أم يريد أن يحفظ حق الأقلية في أن تحكم الأكثرية؟ في رأيي الشخصي أن هذه الإشكالية المزعومة ليست مغالطة أكثر من كونها جدل بيزنطي كما تقول الأسطورة!!
وأكتفي بهذه الأمثلة الأربع لمغالطات الأستاذ الشنقيطي، والتي سار على نهجها في جل مقاله.
* هل كان فعلا وضع أهل الذمة في التاريخ الإسلامي سيئا وفق معايير المواطنة والإنسانية التي نطمح لها في زمننا المعاصر؟
لا أظن أن أي قارئ سيجد صعوبة في معرفة جواب الأستاذ الشنقيطي، من خلال مقاله، عن هذا السؤال؛ وإجابته هي (نعم)!! وأسوق لك جملا من مقال الأستاذ الشنقيطي تبيّن لنا جوابه:
ـ (كان تركيز فقهائنا في الماضي على هذا ’’المواطن الحر’’ وما يتسم به من صفات ـ أهمها الإسلام ـ أكثر من تركيزهم على ركام العبيد المحيطين به!!)..
(الشعوب المغلوبة... تُمنح مواطنة من الدرجة الثانية مقابل ضريبة مالية، مع فتح الباب لها للمساواة إذا اعتنقت ديانة الشعب الفاتح ’’كما هو الحال في الفتوحات الإسلامية!!)..
ـ (الإمبراطورية الإسلامية ـ شأنها شأن كل إمبراطورية ـ لم تتأسس على عقد اجتماعي يسوي بين مواطنيها، وما كان فيها من تسامح ديني وسياسي ـ يستحق الفخر والإشادة في سياقه التاريخي ـ ليس قريبا مما نطمح له اليوم من تحقيق مفهوم المواطنة المعاصر!!!!)..
لا أظن أنني أملك القدرة في التعبير عن قبح هذه العبارات أكثر من قبحهها الظاهر..!! لكن دعوني أنقل لكم جزءا من بحث بعنوان الجزية في الإسلام للدكتور منقذ السقار؛ تبين صور وضع أهل الذمة في التاريخ الإسلامي لتجيبوا بأنفسكم وبقناعة عن السؤال أعلاه، يقول الدكتور السقار: (روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم).
وحين قام أهل الذمة بالمشاركة في الذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية رضي الله عنه مع الأرمن، يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه ’’أرمينية بين بيزنطة والإسلام’’: ’’إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ماداموا راغبين فيه، وفي جملته: ((أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلا من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينا أمراء ولا قادة ولا خيلا ولا قضاة... وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدات. وأشهد معاويةُ الله على ذلك))’’.
ولا يتوقف حق أهل الذمة على دفع العدو عنهم، بل يتعداه إلى دفع كل أذى يزعجهم، ولو كان بالقول واللسان، يقول القرافي: ’’إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام’’.
وواصل المسلمون بهدي من دينهم عطاءهم الحضاري حين تحولوا من آخذين للجزية إلى باذلين للمال رعاية وضماناً للفقراء من أهل الذمة، فقد روى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً من أهل الجزية يسأل الناس، فقال: ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير. وكان مما أمر به رضي الله عنه: ’’من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه’’.
وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: ’’وانظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه’’.
ما إذا امتنع الذمي عن دفع الجزية مع القدرة عليها، فإنه يعاقب، من غير أن تنقض ذمته، يقول القرطبي: ’’وأما عقوبتهم إذا امتنعوا عن أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه، ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء’’.
لقد أدرك فقهاء الإسلام أهمية عقد الذمة وخطورة التفريط فيه، وأنه لا ينقض بمجرد الامتناع عن دفع الجزية، يقول الكاساني الحنفي: ’’وأما صفة العقد (أي عقد الذمة)، فهو أنه لازم في حقنا، حتى لا يملك المسلمون نقضه بحال من الأحوال، وأما في حقهم (أي الذميين) فغير لازم’’. اهـ
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين..
فيصل بن فالح الميموني / باحث شرعي سعودي
*العصر
02-4-2010
وأستغرب وقوع الأستاذ الشنقيطي في مغالطات علمية جلية يفترض فيه، كمهتم بالسياسة الشرعية والفقه السياسي، أن يكون الصواب فيها لديه من الأوليات! وبما أن المقال ليس بحثا علميا في مفهوم المواطنة الذي ينشده الأستاذ الشنقيطي، إنما هو أقرب ما يكون للخاطرة، فلن أتكلف عرض جميع مغالطات المقال، بل أذكر بعضا منها:
قرأت مقال الباحث الأستاذ محمد المختار الشنقيطي المنشور في مجلة العصر الإلكترونية يوم الأربعاء 15 ربيع الآخر.1431هـ الموافق 31 مارس2010م، بعنوان (الناس على دين دساتيرهم)، وأعدت قراءته غير ما مرة لأستوعب فكرته ومراده؛ فنشطت همتي لنقاش مقال الأستاذ الشنقيطي راجيا المولى جل في علاه أن يوفقني وإياه والمسلمين لكل خير، وأن يشرح صدورنا لهداه والعمل في رضاه. وأقول:
* من هو الشنقيطي؟
ليس من لازم نقاش الأفكار أن نتطرق إلى أشخاص قائليها، مدحا أو قدحا، فالأصل أن العبرة هي بصواب القول أو خطئه بغض النظر عن قائله، لكن قد انتشر في هذه الأزمنة المتأخرة كإحدى ظواهر الضعف العلمي، أن يتوجه النقاش غالبا إلى شخص القائل دون فكرته، ومن هنا ارتأيت أن أعرف القراء الكرام بالأستاذ الشنقيطي لكي يعلموا أن نقاش رأيه، على غرابته، مجد وذا فائدة؛ فليس كل فكرة ورأي تستحق النقاش: فبعض الآراء يجب نقاشها لحساسيتها ومدى تأثيرها، وبعضها لواسع انتشارها، والبعض منها لشخص قائلها حتى وإن كانت ظاهرةً في مجانبتها للصواب.
عرفت الأستاذ الشنقيطي من بضع سنين من خلال الإطلاع على بعض مؤلفاته ومقالاته، والتي يغلب عليها الشأن السياسي، فقها وتاريخا، ومنها مقاله الذي بين أيدي القراء والذي نحن بصدد نقاشه، فالأستاذ الشنقيطي، كما قرأت في سيرته، قد طلب العلم الشرعي، كسائر الشناقطة في مورتانيا، ودرسه على بعض الشيوخ، ثم تخصص في الشريعة الإسلامية في مرحلة البكالوريس ليكون تخصصه الدقيق في الدراسات العليا في تاريخ الأديان، وهو حاصل على شهادتي بكالوريس، وشهادتي ماجستير، وعلى أبواب دكتوراة واحدة حتى الآن!
الذي أرمي إليه أن الأستاذ الشنقيطي باحث أكاديمي ذو إطلاع على تراث الفكر الإسلامي، لكن لا يمكن وصف مقاله المشار إليه أعلاه على أنه بحث علمي، بل أقصى ما يمكن وصفه هو أنها محاولة ’’خجولة’’ لطرح فكرة يمكن وصفها بالشذوذ الفكري عن الفقه الإسلامي.
* ماهية المقال:
تتلخص فكرة المقال في أن نظام أهل الذمة، كصورة سياسية لعلاقة المواطنين غير المسلمين بالدولة الإسلامية، هو نظامٌ مرحلي قد استدعته الظروف التاريخية، وأن هذا النظام طبقيٌ يجعل مواطني الدولة الإسلامية غير المسلمين مواطنين من الدرجة الثانية، وليدلل على فكرته أشار إلى نظام الجزية، وإلى اشتراط الإسلام لتولي الولايات العامة. وأشار في مقاله إلى أن التأصيل لنظام الذمة بشكل خاص وللسياسة الشرعية بشكل عام في التراث الإسلامي إنما هو وليد حالة الفكر السياسي لتلك الأزمنة وليس مستمداً من هدي النبوة على صاحبها أزكى الصلاة والسلام.
وطالب في مقاله بإلغاء تنظيم علاقات الدولة الإسلامية بمواطنيها على أساس تقسيمهم إلى أهل إسلام وأهل ذمة، وإبدال هذه الصيغة التاريخية بصيغة أكثر حداثة تنسجم مع الفكرة الإسلامية أن الدين لله والوطن للجميع كما فهمتُ من مقاله!!
أما نقاشي للمقال، فأعرض له من خلال التالي:
* جوانب الاتفاق:
لا أجد في مقال الأستاذ الشنقيطي ما أتفق وإياه عليه سوى ما أشار إليه من وثيقة المدينة، على ضعف فيها من الناحية الحديثية، وقوله: (إن القرآن الكريم يعلمنا أن غاية كل الرسل والرسالات هو القيام بالقسط ’’لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط’’ (سورة الحديد 25). والعدل قيمة مطلقة وقانون أزلي لا يَخرمه اختلاف المعتقد أو الأوطان أو الأجناس، كما أكد ابن تيمية ببلاغة في قوله ’’إن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح بحال’’ (ابن تيمية: منهاج السنة 5/126). فمن التناقض الأخلاقي والمنطقي أن ندعو إلى دولة الحرية والمساواة والعدل، ونحن نحرم مخالفينا في المعتقد أو العرق أو الوطن من هذه القيم) اهـ.
* مغالطات علمية:
وأستغرب وقوع الأستاذ الشنقيطي في مغالطات علمية جلية يفترض فيه، كمهتم بالسياسة الشرعية والفقه السياسي، أن يكون الصواب فيها لديه من الأوليات! وبما أن المقال ليس بحثا علميا في مفهوم المواطنة الذي ينشده الأستاذ الشنقيطي، إنما هو أقرب ما يكون للخاطرة، فلن أتكلف عرض جميع مغالطات المقال، بل أذكر بعضا منها:
1 ـ قوله عن الدولة الإسلامية التي حكمها وأسسها نبي الهدى عليه أفصل الصلاة وأزكى التسليم: (لم تأخذ الدولة من اليهود ضريبة الجزية التي أخذها المسلمون من المواطنين غير المسلمين فيما بعد)، فصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب على يهود المدينة الجزية، لكن غير الصحيح هو أن المسلمين هم من أخذوا الجزية فيما بعد من المواطنين غير المسلمين!
فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من أهل البحرين كما في حديث عمرو بن عوف والمسور بن مخرمة، رضي الله عنهما، المتفق عليه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين، يأتي بجزيتها). وأخذ صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل الكتاب في اليمن، كما في الثابت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما كما عند البيهقي في السنن الكبرى، أن النبي صلى الله عليه وسلم (كتب إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه أن من أسلم من المسلمين فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أقام على يهودية أو نصرانية فعلى كل حالم دينارا أو عدله من المعافر..)، ويشهد له حديث مسروق بن الأجدع رضي الله عنه الذي رواه ابن عبدالبر في التمهيد وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في قصة بعثه إلى اليمن المروي في كتب السنن. وكذلك أخذ صلى الله عليه وسلم الجزية من نصارى نجران، ومجوس هجر، وأهل أيلة، وأذرح، وأهل أذرعات وغيرهم.
2 ـ لماذا لم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من يهود المدينة حين قدم إليها وأسس دولة الإسلام؟ هل لأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات مع المسلمين كما يلمح الأستاذ الشنقيطي؟ بالتأكيد أن الجواب لا، ولماذا كل هذه الثقة في خطأ الشنقيطي ومغالطته الكبرى؟! الجواب على السؤالين السابقين هو أن الجزية لم تفرض في الشريعة إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة!! ولهذا السبب لم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من يهود المدينة، لا بسبب المواطنة!!
3 ـ ذكر الأستاذ الشنقيطي في مقدمة استشهاده بوثيقة المدينة أن دستور الدولة النبوية قد أسس (الأمة السياسية التي يدخل فيها المسلم وغير المسلم على قدم المساواة)، ولا شك لدي أن وثيقة المدينة قد أسست الأمة السياسية التي يدخل في المسلم وغير المسلم لكن ليس على (قدم المساواة)، كما عبر الشنقيطي، بل على (أساس العدل)، وإن كان الأستاذ يقصد بقدم المساواة خضوع جميع أفراد الدولة الإسلامية للشريعة الإسلامية فصحيح تعبيره، لكن الأستاذ الشنقيطي كما يتضح من مقاله يقصد بقدم المساواة تساوي المسلم وغير المسلم في الحقوق والواجبات، وهو مما لا شك في خطأه؛ فوثيقة المدينة تنص على أن (لا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا يَنصُر كافراً على مؤمن) فما هو تأويل الأستاذ الشنقيطي لهذا النص الواضح في عدم المساواة بين المواطن المسلم والمواطن غير المسلم؟!
4 ـ يقول الأستاذ الشنقيطي: (تشترط العديد من دساتير الدول العربية أن يكون رأس الدولة مسلما. وهو أمر يثير إشكالا حول المساواة السياسية بين المواطنين)، ولست أدري ما وجه الإشكالية المثارة؟ فكل الدول العربية يشكل المسلمون فيها غالب السكان؛ فأين هي المشكلة إذا حفظ الدستور حق الأكثرية في الحكم؟! أم أن الأستاذ يريد حذف شرط الإسلام في حال تغير ديموغرافية سكان الدول العربية، فيصبح غير المسلمين هم الأكثرية؟ أم يريد أن يحفظ حق الأقلية في أن تحكم الأكثرية؟ في رأيي الشخصي أن هذه الإشكالية المزعومة ليست مغالطة أكثر من كونها جدل بيزنطي كما تقول الأسطورة!!
وأكتفي بهذه الأمثلة الأربع لمغالطات الأستاذ الشنقيطي، والتي سار على نهجها في جل مقاله.
* هل كان فعلا وضع أهل الذمة في التاريخ الإسلامي سيئا وفق معايير المواطنة والإنسانية التي نطمح لها في زمننا المعاصر؟
لا أظن أن أي قارئ سيجد صعوبة في معرفة جواب الأستاذ الشنقيطي، من خلال مقاله، عن هذا السؤال؛ وإجابته هي (نعم)!! وأسوق لك جملا من مقال الأستاذ الشنقيطي تبيّن لنا جوابه:
ـ (كان تركيز فقهائنا في الماضي على هذا ’’المواطن الحر’’ وما يتسم به من صفات ـ أهمها الإسلام ـ أكثر من تركيزهم على ركام العبيد المحيطين به!!)..
(الشعوب المغلوبة... تُمنح مواطنة من الدرجة الثانية مقابل ضريبة مالية، مع فتح الباب لها للمساواة إذا اعتنقت ديانة الشعب الفاتح ’’كما هو الحال في الفتوحات الإسلامية!!)..
ـ (الإمبراطورية الإسلامية ـ شأنها شأن كل إمبراطورية ـ لم تتأسس على عقد اجتماعي يسوي بين مواطنيها، وما كان فيها من تسامح ديني وسياسي ـ يستحق الفخر والإشادة في سياقه التاريخي ـ ليس قريبا مما نطمح له اليوم من تحقيق مفهوم المواطنة المعاصر!!!!)..
لا أظن أنني أملك القدرة في التعبير عن قبح هذه العبارات أكثر من قبحهها الظاهر..!! لكن دعوني أنقل لكم جزءا من بحث بعنوان الجزية في الإسلام للدكتور منقذ السقار؛ تبين صور وضع أهل الذمة في التاريخ الإسلامي لتجيبوا بأنفسكم وبقناعة عن السؤال أعلاه، يقول الدكتور السقار: (روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم).
وحين قام أهل الذمة بالمشاركة في الذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية رضي الله عنه مع الأرمن، يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه ’’أرمينية بين بيزنطة والإسلام’’: ’’إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ماداموا راغبين فيه، وفي جملته: ((أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلا من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينا أمراء ولا قادة ولا خيلا ولا قضاة... وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدات. وأشهد معاويةُ الله على ذلك))’’.
ولا يتوقف حق أهل الذمة على دفع العدو عنهم، بل يتعداه إلى دفع كل أذى يزعجهم، ولو كان بالقول واللسان، يقول القرافي: ’’إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام’’.
وواصل المسلمون بهدي من دينهم عطاءهم الحضاري حين تحولوا من آخذين للجزية إلى باذلين للمال رعاية وضماناً للفقراء من أهل الذمة، فقد روى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً من أهل الجزية يسأل الناس، فقال: ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير. وكان مما أمر به رضي الله عنه: ’’من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه’’.
وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: ’’وانظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه’’.
ما إذا امتنع الذمي عن دفع الجزية مع القدرة عليها، فإنه يعاقب، من غير أن تنقض ذمته، يقول القرطبي: ’’وأما عقوبتهم إذا امتنعوا عن أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه، ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء’’.
لقد أدرك فقهاء الإسلام أهمية عقد الذمة وخطورة التفريط فيه، وأنه لا ينقض بمجرد الامتناع عن دفع الجزية، يقول الكاساني الحنفي: ’’وأما صفة العقد (أي عقد الذمة)، فهو أنه لازم في حقنا، حتى لا يملك المسلمون نقضه بحال من الأحوال، وأما في حقهم (أي الذميين) فغير لازم’’. اهـ
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين..
فيصل بن فالح الميموني / باحث شرعي سعودي
*العصر