مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
بين طريقي السلامة والندامة
هويدي 15-4-2002

بعدما صرح المتحدث باسم البيت الابيض بأن ارييل شارون رجل يعمل من أجل السلام، وان الرئيس الامريكي يعمل بشكل مباشر مع رئيس الوزراء الاسرائيلي لتحقيق السلام في المنطقة، هل يبقى ثمة أمل يمكن أن نعلقه على الولايات المتحدة في امكانية الوصول الى حل يلبي الحد الادنى من الحقوق الفلسطينية؟ وما جدوى انتظار نتائج رحلة كولن باول، أو التعديل على دور يقوم به الجنرال زيني، أو الرجوع الى تقرير ميتشيل وتفاهمات تينيت، بل ما قيمة التعلق باشارة ديباجة قرار مجلس الامن الى الدولة الفلسطينية؟
نعم وصلتنا الرسالة مبكرة حين وقف الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول في يومين متتاليين يتحدثان عن «تفهم» الاجراءات الاسرائيلية، ويوجهان اصابع الاتهام ويلقيان بكل المسؤولية عما جرى على كاهل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات المحاصر في مكتبه برام الله. هذه الرسالة فهمنا مضمونها ـ ليس كلنا بطبيعة الحال ـ لكني احد الذين حين قرأوا تصريحات المتحدث باسم البيت الابيض، واستوقفهم فيها ثلاثة امور، أولها التوقيت، اذ تجيء بعد المذابح التي جرت في جنين ونابلس، والبشاعات التي ارتكبت بحق الفلسطينيين العزل، ولم تفهم الا بحسبانها انتقاما وحشيا عمد الى الابادة والترويع. اما ثانيها فهو مضمون الرسالة التي اطلقت على ارييل شارون وصف «رجل السلام»، وهي صفة أشك في ان احدا حتى في اسرائيل ذاتها يمكن ان يطلقها عليه، من ثم فان اطلاق هذه الصفة على الرجل لا يعني جهلا فاضحا بسجله فحسب، ولكنه يعني ايضا احتقاراً وازدراء للفلسطينيين والعرب تجاوزا كل الحدود التي عرفناها.
الامر الثالث يتمثل في الاشارة الى ان الرئيس بوش يعمل بشكل مباشر مع شارون لتحقيق السلام في المنطقة، وهي عبارة غامضة تفتح الباب لتصور العديد من الاحتمالات بدءا باعطاء واشنطن الضوء الاخضر لشارون واطلاق يده كي يتصرف كيفما شاء في الشأن الفلسطيني، وانتهاء باشتراك الولايات المتحدة «المباشر» في ترتيب عملية احتلال المدن الفلسطينية وابادة وتهجير الفلسطينيين.
هل يضيف ذلك جديدا الى معلوماتنا؟ أرى ان هناك اضافة، لا ريب، لكنها في الدرجة وليست في النوع. اعني اننا نعرف جيدا ان الادارة الامريكية تقف دائما في خندق واحد مع اسرائيل، لكني احد الذين لم يتخيلوا ان يصل التحيز الى تلك الدرجة، ولا ان يبلغ ازدراء العرب والفلسطينيين ذلك الحد، وان يمارس التحيز في العلن بتلك الصورة الفجة التي ذهبت الى أبعد مما يتصور أي عاقل.
وهي مصادفة لا ريب ان صدر ذلك الكلام المذهل عن المتحدث باسم البيت الابيض في واشنطن يوم 4/12 بعد يومين فقط من الحوار الذي نشرته في 4/10 صحيفة «برلين تسايتونج» الالمانية، مع احد كبار الشخصيات اليهودية الامريكية، وتحدث فيه عن الرئيس بوش وعلاقاته باليهود والاسرائيليين، الرجل الذي اجرى معه الحوار هو روبرت جولدمان، عضو لجنة الرئاسة العليا للمنظمات اليهودية الامريكية والمعلق الصحافي المعروف، ومستشار الحكومة الالمانية لشؤون العلاقات الامريكية اليهودية. في الحوار اشارات مفيدة تهمنا في تصور المشهد الذي نحن بصدده، وتستدعي منا اعادة التفكير في كيفية تناول ملف القضية برمته، وابرز تلك الاشارات في تصريحاته التي قال فيها ما يلي:
* الاوضاع المالية تثير مخاوف اليهود، وذلك يدفعنا للالتفاف اكثر واكثر حول بعضنا بعضاً، فذلك هو الضمان الوحيد لبقائنا، ثم ان ما يجري الان يدفعنا اكثر واكثر الى تنشيط تذكير العالم «بالهولوكوست»، وتوظيف الاعتداءات التي توجه ضد المراكز اليهودية في فرنسا وبلجيكا لخدمة ذلك الغرض.
* ورد الفعل لدى اليهود الامريكان أكبر وأشد من مثيله في اسرائيل، لأنهم في اسرائيل لا يعيشون عذاب الضمير الذي نعيشه نحن في المهجر، فنحن خارج اسرائيل نعاني من شعور اقرب الى الخيانة وذلك يدفعنا لان نفعل ما بوسعنا للاعراب عن تضامننا مع اسرائيل.
* نعم نحن نعتبر أي انتقاد لاسرائيل بمثابة عداء للسامية، ولا نفرق بين الاثنين، ويجب الا نفعل ذلك، لاننا بذلك ندافع عن وجودنا ذاته.
* ليس صحيحا ان اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة يضغط على الرئيس بوش، لان السياسة التي يتبعها تحقق لنا كل ما نريد، ولا تستدعي من جانبنا أي ضغط، ولا بد ان يكون معلوما ان الدعم السياسي والمادي الحالي الذي تقدمه الادارة الامريكية اكبر من أي دعم سبق أن قدمته ادارة امريكية من قبل، خاصة ان بوش بعد احداث سبتمبر (ايلول) يتصرف بتلقائية شديدة ومعبرة في مناصرته لاسرائيل، ويدافع عنها الى اقصى حد، وهو يفهم جيدا أن دفاعه عن اسرائيل ومناصرته لها مهما فعلت هو دفاع عن وجوده نفسه واستمراره رئيسا للولايات المتحدة، وهو في سياسته الحالية يصير اكثر حرصا على اسرائيل وشارون، اكثر مما فعل أي رئيس امريكي آخر.
* تصريحات الرئيس بوش التي دعا فيها الى انسحاب اسرائيل من المدن التي احتلتها تم فهمها من جانبنا جيدا، واستقبلناها بهدوء، وقد طمأننا فيها انها تركت مخارج كبيرة وواسعة لشارون، واعطته الوقت الكافي لانهاء ما بدأ في الوقت نفسه ادانة العمليات «الارهابية» في اسرائيل، حيث اعتبرها ارهابا يجب مقاومته كأي ارهاب اخر تقاومه امريكا في أي مكان في العالم، وقد جاء نقده لشارون مفهوما وفي حدود انه قد فعل ما عليه امام اصدقائه وحلفائه العرب، خاصة المملكة العربية السعودية التي لا يريد خسارتها وتحالفها معه من اجل التخلص من صدام حسين.
* سئل الرجل: هل لهذا السبب تحديدا لم يأخذ شارون كلام بوش وسريعا على محمل الجد ولم ينسحب من الاراضي التي اعاد احتلالها بالسرعة المطلوبة، فرد قائلا: انه «التكتيك» المتفق عليه بين الطرفين، فالرئيس الامريكي بتصريحاته يكون قد سدد ما عليه اعلاما لاصدقائه العرب، ووفقا لنفس الكلمات يكون قد منح شارون بعض الوقت للتصرف بسرعة وانهاء ما بدأه ثم ينسحب بعد ذلك، وهو ما كان سيفعله سواء صرح الرئيس بوش أو لم يصرح، وربما تتوافق الخطوات الاسرائيلية الجديدة في الانسحاب الحقيقي مع بداية وصول باول للمنطقة وليس قبل ذلك، ولهذا فقد اراد باول اضاعة بعض الوقت في بلدان اخرى قبل وصوله الى اسرائيل، وبالقطع فإن اسرائيل تحتاج الولايات المتحدة حاجة الانسان للتنفس، فالمال من امريكا والسلاح ايضا، لكن امريكا ليست اقل في حاجتها لاسرائيل من حاجة اسرائيل لها، وهي تفهم ذلك جيدا وتعمل على اساس ذلك.
* أخيرا سئل عن مستقبل اسرائيل، فقال: هو مظلم للأسف، لأن العالم العربي يرفضها الآن أكثر من أي وقت مضى، وحتى لو انتهت العمليات العسكرية الحالية وعادت الأوضاع الى ما كانت عليه فإن العمليات الارهابية الفلسطينية حتى الصغيرة منها كفيلة بدفع اليهود أكثر وأكثر الى الهجرة المعاكسة خارج اسرائيل، حتى ابنتي وعائلتها تريد العودة والعيش في الولايات المتحدة، وذلك فإنه اذا لم يظهر بين العرب أنور سادات جديد يمهد الطريق والأرض بين العرب واسرائيل، فإن اسرائيل ستتحلل بمرور الوقت وطريقها الى زوال.
اذا أمعنا في كلام السيد روبرت جولدمان، وقرأناه مرة ثانية خصوصا فقراته الأخيرة، سنكتشف أننا نتعامل مع سيناريو متفق على تفاصيله، بمقتضاه يلقي الرئيس الامريكي بوش كلمات مجاملة لترطيب جوانح العرب، وفي الوقت ذاته يتركون الحرية للاسرائيليين لكي يفعلوا ما يعن لهم، بصرف النظر عما اذا كان ذلك اهانة واذلالا للرئيس عرفات، أو ابادة للفلسطينيين أو ترك جرحاهم ينزفون في الشوارع لأسبوع أو أكثر أو تهديم بيوتهم عليهم ومساوتها بالأرض.
نحن لا نتحدث عن مؤامرة وتخطيط خفي، لكننا نصف واقعاً حدث بالفعل، وشاهدنا وقائعه على الهواء مباشرة عبر شاشات التليفزيون، وقد وصفه روبرت جولدمان بأنه «تكتيك» متفق عليه بين الاسرائيليين والامريكيين بالتحيز، وبانهم يغامرون بمصالح الولايات المتحدة ولا يقفون الى جوار اصدقائهم في المنطقة. وابعد من ذلك ان يظن أحد انني آخذ على الاسرائيليين انهم يقومون بما عليهم ازاء طموحاتهم حتى ان كانت شريرة وغير مشروعة، انما الذي تمنيته من ذلك كل انه نوقف المراهنة على الولايات المتحدة ودورها ووساطتها أولا ، وان نفكر مليا في اجابة السؤال التالي: لماذا صغر شأن العرب والمسلمين الى ذلك الحد الذي دفع خصومهم الى الاستهانة والازدراء بهم؟
إننا في اللحظة الراهنة في أمس الحاجة الى أن نطالع صورتنا جيدا في المرآة، وان نبحث في واقعنا عن مواطن الضعف التي أغرت الاخرين بالاطاحة بنا والاجتراء علينا واخراجنا من حسابات المعادلة السياسية، ومن ثم تحويلنا الى متفرجين لا حول لهم ولا قوة.
ولنتصارح، فالذي فعلناه بأنفسنا أكثر مما فعله الآخرون بنا، حتى الذي فعلوه بنا ما كان له أن يحقق مراده من دون أن يخترق صفوفنا مستثمرا هشاشتها ومستفيدا من ثغراتها ومستقوياً بضعفنا. لم يعد في التقدم سر، وقوة الشعوب لم تعد لغزا يستعصى على الحل، ولكن للتقدم قوانين وللعافية شروطا، من استوفاها فاز بما يريد، ومن تقاعس عنها فهو من أهل الخسران وسوء العاقبة، وعلينا ان نختار بين الطريقين: السلامة أو الندامة!
أضافة تعليق