مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
«الأردن أولا».. شعار انتهى عمره الافتراضي
هويدي 14-10-2002

قدر الاردن ان يكون في قلب الحدث الفلسطيني، ولذلك فان رفع شعار «الاردن اولا» يبدو امرا عصيبا على الفهم، ناهيك من انه مستحيل في التطبيق، اما لماذا اقول هذا الكلام فلدي ثلاثة اسباب، اولها ان الشعار رفع بالفعل في الساحة الاردنية أخيرا، وانضاف الى قاموس خطابه السياسي. اما السبب الثاني فهو ان الاستاذ صالح القلاب، الكاتب الاردني ووزير الاعلام السابق، تصدى لتحرير الشعار في مقالة له نشرتها «الشرق الأوسط» في 10/10، واجتهد في ذلك على نحو كاد يفرغ الشعار من مضمونه، رغم ان ما ساقه من حجج اراد بها الدفاع عنه.
السبب الثالث ان الشعار كان قد رفع في مصر قبل اكثر من عقدين من الزمان، في عهد الرئيس السابق انور السادات، ومن ثم فان لنا تجربة معه تستحق ان تروى خلاصتها، وسأبدأ بهذه النقطة الاخيرة، لانها قد تفيدنا في مناقشة النقطتين السابقتين. ذلك أن السادات حين تحدث عن مصر اولا فانه كان محكوما بعاملين اساسيين، اولهما الاصداء العربية السلبية العنيفة التي ترددت بعد صدمة زيارته للقدس، وثانيهما تحوله صوب السياسة الامريكية، بعد ان طرد الخبراء السوفيات من مصر، ونفض يديه منهم. والخطوة الاولى كانت خروجا علنيا على الاجماع العربي، اما الخطوة الثانية فقد كان تكريس ذلك الخروج من شروطها، لان الامريكيين تمسكوا دائما في اتصالاتهم مع مصر بان ينحصر البحث فيما يهم مصر وحدها، والا يتطرق الى الوضع الفلسطيني، الا اذا كانت للامريكيين مصلحة في ذلك.
إن شئت فقل ان الرئيس المصري السابق قالها في اجواء استثنائية، ولهذا السبب فان الشعار سرعان ما توارى في الخطاب السياسي المصري، بعدما تبين انه كان يمثل دعوة لانعزال مصر وانكفائها، وتخليها ليس فقط عن منظومة التضامن العربي. ولكن ايضا عن جانب من مقومات امنها القومي. وكاد يختفي الشعار نهائيا بعدما عادت الجامعة العربية الى مصر، واعيدت العلاقات بين القاهرة وكل العواصم العربية التي قاطعتها.
قلت ان الشعار كاد يختفي، لان هناك اصواتا لا تزال تحاول احياءه من خلال كتابات تبثها وسائل الاعلام بين الحين والاخر. لكن اللافت للنظر ان اصحاب تلك الاصوات اما انهم من جماعة كوبنهاجن، الداعين الى اقامة سلام مع اسرائيل قفزا فوق القضية الفلسطينية، أو انهم من العناصر وثيقة الصلة بالولايات المتحدة، التي تلعب على اذكاء العصبية الوطنية الضعيفة. وتسوق لمقولة التضحيات التي دفعتها مصر لاجل فلسطين، وضرورة التخفف من اعباء القضية للانصراف الى الشأن الداخلي. وكأن مصر في الشأن الفلسطيني لم تكن تدافع عن امنها الخاص في الوقت ذاته وكأنه لم تكن امامها الفرصة خلال العقدين الاخيرين لتحقيق التنمية التي تصبو اليها. وهما العقدان اللذان كانت الجبهة المصرية الاسرائيلية ساكنة تماما، لم تطلق خلالهما رصاصة واحدة، الامر الذي يخلي تماما مسؤولية القضية الفلسطينية عن أي تعثر في خطط التنمية.
لم يتم تجاوز الشعار لاسباب مصرية أو اقليمية فحسب، ولكن الهم الدولي اختلف الان تماما عنه في الثمانينات، لانه بعد سقوط جدار برلين وفي ظل الاتصال المتنامي يوميا، ومع الحديث عن العولمة، فان العمر الافتراضي للشعار قد انتهى، وما عاد بمقدور دولة في أي مكان بالعالم ان تقول انا اولا، نعم هناك مصالح وطنية لابد من الدفاع عنها والاعلاء من شأنها باستمرار، وهو امر لا ينكره احد على أي احد. لكن هذه المصالح الوطنية الداخلية صارت الآن متشابكة مع مصالح اخرى كثيرة خارج حدودها بحيث يتعذر الفصل بين هذه وتلك. ينسحب ذلك بوجه اخص على دول العالم الثالث، لان بعض الدول الكبرى تتصرف احيانا مدفوعة برغبة في تقديم مصالحها الخاصة على مصالح غيرها، كما حدث في الولايات المتحدة بالنسبة للضرائب التي فرضتها على منتجات الصلب الواردة من اوروبا، وبالنسبة لمشاركتها في قمة الارض وموقفها من قضية البيئة، ورغم ان الولايات المتحدة تصدر عنها تصرفات من ذلك القبيل، الا ان ذلك قوبل بادانة عالمية في كل مكان، اضافة الى انها، وهي تعرف على ذلك النحو، لم ترفع في أي مرة شعار نحن اولا، أعني ان ما أقدمت عليه كان من قبيل الاستثناء على القاعدة المستقرة في النظام الدولي.
حتى في هذا الاطار، فان الاستثناء والشذوذ لهما شروط، اذ يتعين على الدولة التي تريد ان تشهر في وجوه الجميع شعار «انا أولا» ان يكون بمقدورها ان تقف وحدها بمواردها المادية والبشرية، وان تتمتع بوضع جغرافي يسمح لها بأن تدير ظهرها للاخرين، وتنكفئ على ذاتها، لا ترى الا احتياجاتها وهمومها وتطلعاتها.
لاول وهلة لا يكاد المرء يرى ان ايا من هذه الشروط متوافر في المملكة الاردنية، لا على صعيد الموارد، ولا على صعيد السكان، ولا على المستوى الجغرافي، فالوضع الاقتصادي للمملكة يعرفه الجميع، واقل ما يمكن ان يقال في حقه ان الاردن لا يستطيع ان يستغني عن الاخرين في مسيرته الاقتصادية وهو في نفطه يعتمد على العراق، وفي تجارته على منطقة الخليج.
الوضع السكاني للاردن الذي تمثل نسبة الفلسطينيين فيه اكثر من 40%، لا يسمح له بان يقول انه لا شأن بالوضع الفلسطيني. ثم ان الوضع الجغرافي للاردن، الذي جعلها بين اسرائيل والدول العربية الاخرى في منطقة الشام، جعل للمملكة مركزا شديد الحساسية في المنطقة، يتعذر في ظله ان يحدث اي تطور على المسرح المحيط بها من دون ان يكون له صداه في الاردن، هذا اذا لم يكن طرفا فيه، رضي أم كره.
ولن نذهب بعيدا، فها هي التقارير التي تتحدث عن خطط ضرب العراق لا تفتأ تذكر الاردن كاحدى قواعد العمليات أو عند الحد الادنى كأحد مراكز الاستطلاع، بل ان الصحف الانجليزية تحدثت عن تحرك وحدات استطلاعية عبر الحدود الاردنية الى داخل الاراضي العراقية، ولا اريد ان اتطرق الى احتمالات مشاركة اسرائيل في الحملة على العراق أو في قصفه، لكن هذا الاحتمال حتى ان كان بعيدا لا يمكن أن يتحقق الا عبر الاجواء الاردنية كحد ادنى.
لقد كتب الاستاذ صالح القلاب في تحرير مفهوم «الأردن أولا» يقول انه ليس المقصود منه ان الاردن فوق الجميع ولا ان الاردن ليست له علاقة بقضايا امته العربية ولا أنه تخلى عن هذه القضايا التي دفع من اجلها الكثير وعرض بسببها كيانه اكثر من مرة للاخطار دائما، المقصود هو ان الاردن لا يسمح لنفسه بالتدخل في شؤون الاخرين حتى الاشقاء الاقرب اليه ولا يسمح للاخرين ان يتدخلوا في شؤونه الداخلية حتى اخوته وابناء عمومته.
في موضع اخر قال ان «الأردن أولا» تعني ان واجب الاردنيين ان يحافظوا على هذا الكيان وعلى هذا الوطن وان تكون اولى اولوياتهم ألا تحل مشكلة الشرق الاوسط على حسابه لا في صيغة كونفيدرالية ثنائية ولا فيدرالية ثلاثية بعد اضافة العراق الى هذه الكونفيدرالية الثنائية.
ان نفي مسألة الكونفيدرالية أو الفيدرالية مع العراق لا علاقة له بكون الأردن أولا أو اخيرا، لكنه نوع ايضا من الالتباس الذي قر في اذهان البعض من جراء الشائعات التي ترددت حول الموضوع، اثر مشاركة الامير الحسن في اجتماع المعارضة العراقية بلندن، خارج هذا الاطار فان ما قيل في تفسير مفهوم الأردن أولا هو اجتهاد من جانب الاستاذ القلاب اعتمد فيه على ابداء بعض المبادئ العامة التي لا يختلف عليها احد، اذ طالما ان الاردن لن يتخلى عن قضايا امته، وسيحافظ على كيانه، ولن يتدخل في شؤون الاخرين ولن يسمح لاحد ان يتدخل في شؤونه، فان احدا لا يطالبه باكثر من ذلك، ولن يستطيع احد ان يقول في حقه كلمة نقد واحدة، واذا كان الامر بهذه البراءة وتلك الدرجة من الوضوح، فليس مفهوما ان نوضح تلك المعاني تحت عنوان يثير الالتباس ويبعث على الشك والارتياب!
انه مما يؤسف له ان عنوان «الأردن أولا» فضفاض وحمال اوجه، اذ مثلما اتسع للتفسير الذي اورده الكاتب، فانه يحتمل تفسيرات اخرى على النقيض مما اورده، حتى يغدو من قبيل الحق الذي يراد به باطل. واذا كان البعض حين رفع الشعار في مصر يوما ما قد استبد بهم الانفعال والغضب فخرج منهم من رفع لافته تقول: لا فلسطين بعد اليوم، فان اخشى ما اخشاه ان تكون استعادة الشعار مرة اخرى الان بداية لفتنة جديدة، نسأل الله ان يسلم الاردن من تداعياتها.
إن الاردن في الوقت الراهن اشد ما يكون حاجة لان يصبح مع الاخرين، لا قبلهم ولا بعدهم، لانه بالاخرين تتعزز مكانته ويكبر حجمه، وبغيرهم فان خسارته لا تعوض وكيانه كله في خطر.
أضافة تعليق