مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
خاتمي خسر جولة.. لكن مكسبه كبير في المعركة
هويدي 14-8-2000

مجدداً أدعو إلى التريث في الحكم على ما يجري في إيران، مذكراً بأن محور الصراع الحاصل أمام الملأ هناك هو تصحيح مسار النظام والثورة، بعد مضي عقدين فقط على نجاحها، في حين أن أغلب التجارب التاريخية دلت على أن أمثال تلك الخطى التصحيحية لا تحدث إلا بعد مضي عدة عقود، وبتكلفة باهظة للغاية. ولا أريد أن أتحدث عن العالم العربي، لأن بعض «ثوراته» مضى عليها زمن يتراوح بين ثلاثة عقود وخمسة، ولم نلمس أثراً لأي تصحيح في مسارها، حتى أنها لم تشهد أي انتخابات ديمقراطية ونزيهة حتى الآن.
أقول ذلك بمناسبة الأصداء التي ترددت في أوساطنا السياسية والاعلامية، في أعقاب سحب مشروع تعديل الصحافة من جدول أعمال مجلس الشورى، بناءً على طلب مرشد النظام السيد علي خامنئي. وهو ما اعتبره البعض اجهاضاً لآمال الاصلاحيين وافشالاً لدورهم، وفسره آخرون بأنه تذكير لمجلس الشورى بأن مهنته ووظيفته الأساسية استشارية وليست تشريعية، واعتبره فريق ثالث تحدياً من جانب المرشد موجهاً إلى رئىس الجمهورية وجماعته من الاصلاحيين، وأن من شأن ذلك اضعاف موقف السيد خاتمي، بل اضعاف فرصته في الانتخابات الرئاسية المقبله.. إلى غير ذلك من الاستنتاجات والتحليلات التي تعاملت مع ما جرى بحسبانه انتصاراً للتيار المتشدد والمحافظ في مواجهة الاصلاحيين، وحسماً للصراع بين الجناحين، في حين أن الأمر لا يتجاوز كسباً لجولة في المعركة التي لم تحسم بعد، بل ازعم ان الاصلاحيين لم يخرجوا من الجولة خاسرين تماماً، وانما استفادوا منها بدورهم، وحققوا بعضاً من النقاط لصالحهم ـ أقول لكم لماذا؟
لقد كان احد المرتكزات المهمة لحملة السيد خاتمي الانتخابية (في عام 97) انه «سيد مظلوم» والعبارة حملتها ملصقات عدة غطت الجدران آنذاك، وهي تمس وتراً حساساً لدى الوجدان الشيعي، الذي تحتل فيه واقعة مقتل الامام الحسين والتمثيل به هو واسرته مكانة هامة ومساحة كبيرة. وهي الواقعة التي اعتبرت الامام الحسين أول سيد (من البيت النبوي الشريف) تعرض لأقصى درجات الظلم.
أراد خاتمي آنذاك أن يذكر الشعب الايراني أنه بما تعرض له من تضييق اضطره للاستقالة من منصب وزير الارشاد، ودفعه للاعتكاف في المكتبة الوطنية، انما يمضي على درب الامام الحسين، جده المظلوم، وبعد انتخابه رئيساً للجمهورية، فانه لم يسلم من الظلم، حيث لاحقته المؤسسة المتشددة، وسعت إلى إضعافه ووضع العقبات أمام التيار الاصلاحي، الأمر الذي كرس في الوجدان العام فكرة «المظلومية» التي يتعرض لها، حتى أصبح كثيرون في طهران يلتمسون له الأعذار، حين لا يرون انجازاً كبيراً على صعيد الحريات أو الاقتصاد مثلاً، فيقولون إنه يريد أن يفعل الكثير، لكن الآخرين لا يمكنونه من بلوغ مراده.
المشهد الأخير جاء نموذجياً في تجسيد هذه الحالة. فقد تقدم بعض النواب الاصلاحيين بمشروعهم لتعديل قانون الصحافة، لاتاحة فرصة أكبر لحرية التعبير وايقاف مسلسل مصادرة الصحف ومنعها من الظهور. وادرج المشروع بالفعل في جدول أعمال مجلس الشورى ولكن السيد علي خامنئي ـ المرشد ـ طلب رفع المشروع في رسالة وجهها إلى رئيس المجلس، وتم له ما أراد. ثم كانت للحدث أصداؤه المعروفة، إذا قرأت المشهد من الزاوية التي تتحدث عنها فستجد أن ما جرى ينطق بمقولة إن الرجل يريد أن يصلح وأن يدفع الأوضاع إلى الأمام وحينئذ سوف تلتمس له العذر، وستقتنع أكثر بأنه حقاً «سيد مظلوم».
إذا صح ذلك الاستنتاج فهو يعني أن خاتمي وفريقه خسروا جولة لكنهم كسبوا المعركة، أعني انهم لم يتمكنوا من اصدار التشريع في الوقت الراهن على الأقل، لكنهم كسبوا تأييد الرأي العام، وقطاعات المثقفين بوجه أخص ومن ثم فان الرصيد الشعبي للسيد خاتمي زاد ولم ينقص وفرصته في الانتخابات الرئاسية المقبلة قويت ولم تضعف.
غير أن المشهد الأخير حقق شيئاً آخر من الأهمية بمكان. فقد استدعى بعده ملف «ولاية الفقيه» وأعاد طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية من قبيل: هل الولاية مطلقة أم نسبية؟ وهل الفقيه فوق القانون أم أنه خاضع للقانون؟ وهل يمثل الأمة أم أنه يمثل قوى غيبية غير مرئية؟ ومن أين يستمد سلطته.. من الشعب أم من الله؟
قلت ان المشهد أعاد طرح هذه الأسئلة، وهي ليست جديدة في الواقع، وانما هي مثارة منذ تلبي الامام الحسين فكرة ولاية الفقيه، التي لم تكن محل اجماع بين مراجع الشيعة الاثنى عشرية. فمراجع قم تحدثوا عن الولاية النسبية وتحفظوا على الولاية المطلقة، وبعض مراجع علماء الشيعة في لبنان تبنوا فكرة ولاية الأمة بديلاً عن ولاية الفقيه.
غير أن الحضور القوي لشخص الامام الخميني لم يتح للحوار حول القضية أن يأخذ حيزاً كبيراً في خطاب النخبة. وقد انعكس ذلك الحضور أيضاً على الصلاحيات الواسعة التي منحت للقائد في أول دستور للجمهورية الاسلامية، الأمر الذي كرس عملياً فكرة الولاية المطلقة، وأن ينص الدستور عليها صراحة. وبعد رحيله اختلف الوضع، فقد ذهبت الشخصية العريضة للامام الخميني، بينما بقيت الصلاحيات الواسعة لخليفته السيد علي خامنئي. وفي سياق الحديث عن «الاصلاحات» أثار البعض مسألة صلاحيات المرشد ومدة ولايته وأهمية خضوعه للقانون. وقال آخرون ان تحديد تلك الصلاحيات وتصحيح بقية الأوضاع المتعلقة بها هو جوهر الاصلاح الديمقراطي في البلاد. إذ طالما ظل المرشد فوق القانون فسيظل بوسعه أن يجهض أي اصلاح، وأن يحجب نمو المؤسسات في ايران. وخلال السنوات الثلاث التي أعقبت انتخاب السيد محمد خاتمي لرئاسة الجمهورية، كان الموضوع يناقش بين الحين والآخر على صفحات الصحف وفي الحوارات والمنتديات المختلفة. ولم يحدث تعارض واضح بين موقف مؤسسات الدولة وبين رأي المرشد. وحين كان مثل ذلك التعارض يلوح في الأفق، فانه كان يعالج في هدوء ووراء الكواليس، على نحو يسعى إلى تسكين الموقف واحتواء المشكلة.
غير أن ما حدث في الأسبوع الماضي غير من المعادلة، وكشف عن التعارض بين موقف المرشد وبين رأي الأغلبية المنتخبة لمجلس الشورى، الأمر الذي أحدث مواجهة هي الأولى من نوعها بين المرشد وبين مجلس الشورى. وليس سراً أن موضوع تعديل قانون الصحافة كان مرشحاً للمناقشة في المجلس التشريعي في بداية الدورة البرلمانية، أي قبل عدة أسابيع، ولكن المرشد طلب تأجيل تلك المناقشة وعدم طرح التعديلات. وتم التأجيل بالفعل، في هدوء ودون اعلان. غير أن النواب الاصلاحيين الذين كانوا قد وعدوا قبل انتخابهم بتعديل قانون الصحافة والامتثال لرغبة الصحفيين لم يكونوا مستعدين للتراجع عن موقفهم، ورفض المرشد في أن يتحول التأجيل إلى استبعاد للموضوع. ومن ثم فانهم عادوا بعد أسابيع معدودة وقدموا مشروعهم، وحينئذ لجأ السيد علي خامنئي إلى توجيه خطاب مكتوب إلى رئيس مجلس الشورى يطلب فيه صراحة رفع المشروع من جدول الأعمال. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يلجأ فيها المرشد إلى ذلك الأسلوب.
بسبب من ذلك، فان القضية لم تعد تتمثل في تعديل قانون الصحافة، وانما انفتح الباب لمناقشة صلاحيات المرشد ذاته، وهي القضية الأكبر والأخطر. وشاءت المقادير أن تكون المناسبة هي تلك المسألة الحساسة المتعلقة بحرية الصحافة والصحفيين، الأمر الذي وضع المرشد في موقف حرج، حيث بدا مصطفاً في الجانب المؤيد للتضييق على الصحفيين ومصادرة الصحف. وهو ما يسحب من رصيده ويضعفه، بقدر ما يقوي من مكانة ورصيد السيد محمد خاتمي، الأمر الذي أزعم في ظله بأن ما جرى أفاد بدوره السيد خاتمي وعزز رصيده لدى الرأي العام.
لا يحتمل الموقف في ايران صداماً بين المرشد ومجلس الشورى، تماماً كما أن التطور الحاصل في ايران لم يعد يقبل فكرة أن يظل المرشد فوق القانون، بحيث يمكنه ذلك الوضع من تحدي رأي الأغلبية، لذلك فان العبور السلمي للأزمة يفرض على كل طرف أن يتراجع خطوة إلى الوراء، وإلا فالعواقب سيدفع ثمنها الجميع.
في اطار الوضع القائم في ايران، وفي ظل الدستور الذي يعتبر ولاية الفقيه مرتكزاً أساسياً للنظام، فان رأي المرشد ينبغي أن يحترم، كما أن رأي الأغلبية في مجلس الشورى لا يمكن تجاهله، وإلا فقدت الشورى مضمونها وجدواها. لذلك فان قراءة رسالة المرشد بحسبانها دفاعاً عن ضرورة الالتزام بالشرع الاسلامي، واجراء التعديل على نحو يؤكد الالتزام بضوابط الشرع واطاره، مثل هذا التفكير قد يشكل مخرجاً من المأزق الراهن. ولكنه سيكون بمثابة تأجيل وتسكين للمشكلة فقط، ولن يحلها بصورة جذرية.
وفي كل الأحوال فان الخطوة التي اتخذها المرشد ستظل مسؤولة عن استدعاء الملف القائم، وتحريك السكون الذي أحاط بها. وسيظل خاتمي يحصد النقاط لصالحه، ليس فقط لأن الآخرين يخطئون الحسابات، ولكن أيضاً لأن موقفه أكثر انسجاماً مع حركة التاريخ.
أضافة تعليق