معالم الحكمة في أساليب الدعوة
صالح بن حميد
السبت 06 ربيع الأول 1431 الموافق 20 فبراير 2010
يقصد بالأساليب هنا: ما يتعاطاه رجل الدعوة، من طرق وصيغ يتوصل من خلالها إلى إبلاغ الحق إلى الناس، وتبصيرهم بما ينفعهم ودفع ما يضرهم .
وهذه الأساليب في جملتها قولية كلامية، أو تعامل مباشر مع المدعوين في ترفق ولين، وغض عن الهفوات، وسلوك نهجي الترغيب والترهيب، والشدة واللين .
وهذا شيء من بسط لهذه الأساليب:
المعلم الأول: القول الحسن:
إذا أحكم صاحب الدعوة قوله وسدد لفظه؛ فقد أوتي من الحكمة بابا عظيما، يقول الله عز وجل: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } [ البقرة : 83] .
ويقول طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة؛ فأقول لهم بعض القول الغليظ؟ فقال: لا تفعل؛ يقول الله تعالى : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]. يقول عطاء: فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي!
وأورد القرطبي في تفسيره على هذه الآية حديثا عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ’’يا عائشة! لا تكوني فحاشة؛ فإن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء ’’[1].
ويعلق القرطبي -رحمه الله- فيقول: (وهذا حض على مكارم الأخلاق؛ فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطا طلقاً مع البر والفاجر، والقريب والغريب، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه... إلخ)[2].
والقول يكون حسنا وحكمة بقدر ما يعتني بأصول الكلام، ويبتعد عن فضوله، يتحرك بنبضات القلب الحي، وهواجس النفس الصادقة .
ويحسن الكلام حين يكون قصداً عدلاً، ليس بالإيجاز المخل ولا الطويل الممل، وقد كانت خطبه عليه الصلاة والسلام قصداً، كما في الحديث الصحيح عند مسلم من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه.
وتأملوا في هذا الحوار الهادئ، والقول الحسن في الجدال الحسن: « فهذا حصين الخزاعي والد عمران، كانت قريش تعظمه وتجله، فطلبت منه أن يكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في آلهتها؛ فقد كان محمد يذكرها ويسبها . فجاء حصين ومعه قريش حتى جلسوا قريباً من باب النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل حصين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’أوسعوا للشيخ’’، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ أنك تشتم آلهتنا. فقال: ’’يا حصين! كم تعبد من آله؟’’ قال سبعاً في الأرض، وواحداً في السماء. فقال: ’’فإذا أصابك الضر فمن تدعو؟’’ قال: الذي في السماء. قال: ’’فإذا هلك المال من تدعو؟’’ قال: الذي في السماء. قال: ’’يستجيب لك وحده وتشرك معه؟’’ يا حصين! أسلم تسلم’’. فأسلم، فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه.
فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’شيعوه إلى منزله’’[3].
عجباً! دخل كافراً ناقماً منتقماً، فخرج مسلماً صادقاً، ليت شعري كيف كان حال قريش مع صاحبها ووجيهها!!
ويدخل في ذلك: القول اللين، الذي يستثير النوازع البشرية ووشائج القربى، وعبارات الحنو والشفقة، فإبراهيم عليه السلام ينادي أباه بكلمات شفوقة، { يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا }{ يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا }{ يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا }{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا }{ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } [مريم: 42 – 47].
وكل نبي يقول لقومه: يا قوم! تذكيرا بأواصر القربى ومواطن الحب والشفقة .
ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول لقومه في كلمة رقيقة في دعوة رفيقة: ’’إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غششت الناس جميعاً ما غششتكم’’ .
المعلم الثاني : التصريح والتعريض:
ومن القول الحسن الجنوح إلى التعريض والتلميح دون التصريح؛ فالتصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم، والتبجح بالمخالفة، ويهيج على الإصرار والعناد .
أما التعريض فيستميل النفوس الفاضلة، والأذهان الذكية، والبصائر اللماحة .
قيل لإبراهيم بن أدهم: الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه أيقوله له؟ قال: هذا تبكيت، ولكن تعرض .
وكل ذلك من أجل رفع الحرج عن النفوس، واستثارة داعي الخير فيها، كيف والتعريض سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبة أصحابه: ’’ ما بال أقوام يفعلون كذا ويقولون كذا’’ .
المعلم الثالث: النصيحة لا الفضيحة :
أردت تخصيص النصيحة بالذكر هنا، وإن كانت داخلة في كل ما سبق، بل النصيحة مقصود أعظم في الدعوة . إن لم تكن هي الدعوة كلها .
ولكن المراد هنا الإشارة إلى آداب النصيحة، كمظهر من مظاهر الحكمة في الدعوة، وبخاصة إذا ما حاولنا البعد بالنصيحة عن أن تكون تشهيراً وفضيحة.
يوضح ذلك في ما رمناه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - حين يقول: (والنصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة والشفقة عليه، والغيرة له وعليه، فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة، مراد الناصح بها وجه الله ورضاه، والإحسان إلى خلقه . . . ) .
فهي دعوة إصلاح يجب أن يتمخض فيها الإخلاص لله، مع المحافظة على مشاعر المنصوح، على نحو ما سبق في المعالم السابقة؛ لئلا ينقلب النصح مخاصمة وجدالاً، وشراً ونزاعاً .
يؤكد جانب الدقة في هذا الأمر أن ذكر الإنسان بما يذكره هو على أصل التحريم . وقد قيل لبعض السلف: (أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال: إن كان يريد أن يوبخني فلا) .
ولا يكاد يفرق بين النصيحة والتعيير إلا النية والباعث والحرص على الستر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم السيد أن يثرب أمته – أي: يلومها على ذنبها - فقال عليه الصلاة والسلام: ’’إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب ...’’ الحديث[4] .
يقول الفضيل : ( المؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويعير ) وكانوا يقولون : ( من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره ) .
ذلك أن الناصح الصادق ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له ، وإنما غرضه إزالة المفسدة ، وإخراج أخيه من غوائلها .
وشتان بين من قصده النصيحة ، ومن قصده الفضيحة ، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى، وكما قالت أم الدرداء : ( من وعظ أخاه سرا فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد شانه ) .
المعلم الربع: أدب التعامل:
كان الكلام فيما سبق تنبيهاً على مواطن الحكمة في القول والمخاطبة، وحسن المجادلة.
وفي هذه الفقرات إشارات إلى بعض ما ينبغي من أدب التعامل مع المدعوين، وبخاصة حينما يرى عليهم ما يستحق التنبيه، ويستوجب الملاحظة والتغيير .
وسوف ينتظم هذا الحديث صوراً من اللين في التعامل، ثم المداراة وإقالة العثرات، ومواطن الترغيب والترهيب .
صورة من اللين في التعامل:
النفوس مجبولة على حب من يحسن إليها ويتلقاها باللين، ويبسط لها في المحيا .
والشدة قد تدفع إلى المكابرة والنفور والإصرار، فتأخذ النفس العزة بالإثم؛ فالتعامل المؤثر ما كان دمثاً يفتح القلوب، ويشرح الصدور، فمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمؤمنون رحماء بينهم .
يروي معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: ’’ صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم؛ فقلت: واثكل أماه! ما شأنكم تنظرون؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يصمتونني؛ فلما رأيتهم يسكتونني لكني سكت، قال : فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي وأمي- ما ضربني ولا سبني’’.
وفي رواية : ’’فما رأيت معلماً قط أرفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: ’’إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن’’ .
وفي مدلولها قصة الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد؛ فقام الصحابة لينهروه؛ فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلما فرغ دعاه عليه الصلاة والسلام قائلاً له: ’’إن المساجد لا تصلح لهذا إنما هي لذكر الله والصلاة ’’.
فولى الأعرابي وهو يقول: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يضحك-: ’’ لقد حجرت واسعاً’’ .
قال الحافظ -معلقاً على أمثال هذه الوقائع-: (والمراد من قرب إسلامه وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي، ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالباً الازدياد، بخلاف ضده، والله أعلم) .
وفي هذا يقول الإمام أحمد: ( كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: مهلاً رحمكم الله ) .
ودعي الحسن البصري - رحمه الله - إلى عرس فجيء بجام من فضة –أي: قدح أو إناء- عليه خبيص أو طعام –والخبيص: طعام من التمر والسمن- فتناوله فقلبه على رغيف؛ فأصاب منه، فقال رجل: هذا نهي في سكون .
ويروى أن الخليفة المأمون وعظه واعظ فأغلظ له في القول؛ فقال: يا رجل! ارفق؛ فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني؛ وأمره بالرفق. فقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }{ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه:43-44].
المعلم الخامس: المداراة:
المداراة صورة من صور التعامل الدال على الحكمة، والموصل إلى المقصود مع حفظ ما للداعي والمدعو من كرامة ومروءة .
وقد بوب الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه فقال: (المداراة مع الناس -ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها- أنه ’’استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: ’’ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة’’ . فلما دخل ألان له الكلام. تقول عائشة: فقلت: يا رسول الله! قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: ’’أي عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه’’ .
قال ابن بطال: (المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ، وذلك من أقوى أسباب الألفة، -قال-: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان: وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضى بما هو فيه من غير إنكار عليه .
والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه؛ حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك) ا.هـ
إذا تقرر هذا المعنى فهو الذي قد عناه الحسن البصري - رحمه الله - بقوله: (كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول هي كل العقل) .
ومن الطريف قول أبي يوسف - رحمه الله - في تعداد من تجب مداراتهم فعد منهم: (القاضي المتأول، والمريض، والمرأة، والعالم ليقتبس من علمه. وأكثر ما تجري المداراة في اتقاء الأشرار والمكاره) .
وقد جاء في حكم لقمان: (يا بني! كذب من قال: إن الشر بالشر يطفأ؛ فإن كان صادقا فليوقد نارين، ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى، وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار) .
وسلوك المداراة مأذون فيه؛ لأن الإنسان خلق للاجتماع لا للعزلة، وللتعارف لا للتناكر، وللتعاون لا للانفرادية.
والإنسان تعرض له عوارض نفسية وطبيعية من الحب والبغض، والرضى والغضب، والاستحسان والاستهجان، فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشئون في كل وقت وعلى أي حال لاختل الاجتماع، ولم يثبت التعارف، ولانقبضت الأيدي عن التعاون، فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به عما يحدث تقاطعا، أو يدعو إلى تخاذل، وهذه هي المداراة التي نعني .
إذن فالمداراة ترجع إلى حسن اللقاء، ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار، إلا في أحوال يكون الإشعار به خيرا من الكتمان وأرجح وأصلح .
ومن لطيف المنقول في سير المتقدمين المقتدى بهم، ما جاء في وصية سحنون لابنه محمد: (. . . وسلم على عدوك وداره؛ فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس) ويقول محمد بن أبي الفضل الهاشمي: (قلت لأبي: لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته؟ قال: أخبي نارا وأقدح وداً) .
فالنفوس المطبوعة على المداراة نفوس أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كجسد واحد، وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة متماسكة، على قدر ما فيها من حياة، ولا يقطع العضو المركب في الجسد، إلا أن يصاب بعلة يعجز الطب عن علاجه إلا بالبتر .
فالمداراة يقصد بها: جمع الناس على الرضا والتآلف في حدود ما ينبغي أن يكون . وهي لا تمنع قضاء بالعدل، ولا تحجب نصيحة بالرفق، وينبغي أن يعلم أن لذكاء الرجل وحكمته مدخلاً عريضاً في فقه المداراة، وحسن استخدامها وطريقة الإفادة منها .
وقد يكون للتنوع في طبقات الناس تنوع في مداراتهم؛ فمداراة المنحرف عن الحق لسوء فهم أو خطأ في ظن، أكبر من مداراة من يحارب الحق والفضيلة، إن صادفك واقتضى الحال مداراته .
ومداراة من يرجى رشده وصلاحه أكبر من مداراة من شب متمادياً في الانحراف ولؤم الطبع؛ حتى يوشك أن ينقطع أملك في إصلاحه واستقامة أمره .
ومن كل ذلك تعرف أن المداراة مسلك كريم، يتقنه الحكماء والأذكياء، ولا يتعدى حدوده الفضلاء .
إذا رغبت في كلمة عن المداهنة لتميزها عن المداراة فلتعلم أن المداهنة: إظهار الرضا عن الغلط، من الظلم والفسق، ومن قول باطل أو عمل ممنوع، والمداهنة مسلك ذميم، ينطوي تحت جناحيه الكذب، وخلف الوعد .
أما الكذب فلأن المداهن يصف الرجل بغير ما يعرفه عنه، ومن دخل الكذب من باب، سهل عليه أن يأتيه من أبواب متفرقة.
وأما إخلاف الوعد؛ فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال؛ فلا يبالي أن يعده بشيء وهو عازم على أن لا يصدق في وعده .
المداهنون يجعلون ألسنتهم طوع بغية الوجيه، ويعجلون إلى قول ما يشتهي إن يقولوه.
قال الماوردي - رحمه الله - : (إن الإنسان وإن كان مأموراً بتآلف الأعداء، ومندوباً إلى مقاربتهم، فإنه لا ينبغي أن يكون لهم راكناً، وبهم واثقاً، بل يكون منهم على حذر، ومن مكرهم على تحرز؛ فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبعاً لا يستحيل، وجبلة لا تزول، وإنما يستكفى بالتألف إظهارها، ويستدفع به أضرارها، كالنار يستدفع بالماء إحراقها، ويستفاد به إنضاجها، وإن كانت محرقة بطبع لا يزول، وجوهر لا يتغير، وقد قال الشاعر:
وإذا عجزت عن العدو فداره ... وامزح له إن المزاح وفاق
فالنار بالماء الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق
ومن كل ما تقدم يتبين واجب المصلحين من الدعاة والعلماء والمربين في هذا الباب . فواجب العناية بمحاربة المداهنة؛ حتى تنفى من الأرض، وتكون الأوطان ودور التربية منابت نشء يميزون المداهنة من المداراة؛ فيخاطبون الناس في رقة وأدب وشجاعة، ويحترمون من لا يلوث أسماعهم بالملق الكاذب، ولا يكتمهم الحقائق متى اتسع المقام لحديث المصارحة .
المعلم السادس: إقالة العثرات والغض عن الأخطاء:
وأسلوب المداراة المتقرر في الفقرة السابقة يقود إلى غض الطرف عن أخطاء المقصرين، ما دام طريقاً لاستصلاحهم، وإقالة عثرات العاثرين؛ إذا كانوا كراماً ذوي هيئات، أو كان ذلك سبيلاً إلى دفنها وتقليلها .
وإن شئتم برهاناً قريباً؛ فاستذكروا قصة حاطب بن أبي بلتعة، تلك الواقعة الصحيحة، فهي صورة حية من صور الضعف البشري، في لحظة من لحظات الزمن، مع أنه الصحابي البدري، ولكبر الزلة قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (دعني أضرب عنق هذا المنافق)، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل حاطباً وأجابه، قال عليه الصلاة والسلام : ’’لقد صدق ولا تقولوا إلا خيرا، أما علمت يا عمر! أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم’’ .
إن إقالة العثرة ليست إقراراً للباطل، ولكنها إنقاذ للواقع فيه .
حكي أن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه: (ألا تقطعه وتهجره؟ فقال: أحوج ما كان إلي في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده وأتلطف له في المعاتبة، وأدعو له بالعودة إلى ما كان عليه) .
حق لمن غلط أو ذل أن يسمع كلمة حانية، وأن يستضيء بشمعة أمل؛ من أجل أن يرجع إلى الجادة، ويسير مع الأخيار من الصحاب .
يمر أبو الدرداء - رضي الله عنه - على رجل قد أصاب ذنبا، والناس يسبونه؛ فأنكر عليهم صنيعهم، فقال لهم: (أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي .
المعلم السابع: الترغيب والترهيب ومواقف الشدة:
كل ما تقدم من التأكيد على مسالك اللين والرفق والمداراة، والغض عن الهفوات، وإقالة العثرات، ليس معارضاً لما هو معروف ومتقرر في مسالك الشرع، من ضرورة سير الدعاة والمربين بين حالي الرغبة والرهبة، والرخاء والشدة، لكن المقدم في التعامل هو الترغيب والرفق، كما قال الإمام أحمد: ( والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق بلا غلظة، إلا رجلاً مبايناً معلناً بالفسق والردى؛ فيجب نهيه؛ لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة، فالمعلن المصر لا حرمة له) .
وطريق أنبياء الله - عليهم السلام - المذكورين في القرآن مسلوك فيه النجدين : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ } إلى قوله : { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [نوح: 1-4].
وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ التغابن: 8 – 10] .
ترغيب فيما وعد الله من حسن الجزاء في الدنيا، وحسن العافية في الآخرة، { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [الصف: 13] .
وترهيب من وعيد الله وغيرته على حرماته، والخوف من أليم عقابه عاجلاً وآجلاً ، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [ هود: 102] .
[1] القرطبي (2/16) .
[2] المصدر نفسه الصفحة نفسها.
[3] أهل العلم مختلفون في إسلام حصين ، والأرجح القول بإسلامه كما ذكر الحافظ ابن حجر وغيره .
[4] متفق عليه .
*رسالة الإسلام
صالح بن حميد
السبت 06 ربيع الأول 1431 الموافق 20 فبراير 2010
يقصد بالأساليب هنا: ما يتعاطاه رجل الدعوة، من طرق وصيغ يتوصل من خلالها إلى إبلاغ الحق إلى الناس، وتبصيرهم بما ينفعهم ودفع ما يضرهم .
وهذه الأساليب في جملتها قولية كلامية، أو تعامل مباشر مع المدعوين في ترفق ولين، وغض عن الهفوات، وسلوك نهجي الترغيب والترهيب، والشدة واللين .
وهذا شيء من بسط لهذه الأساليب:
المعلم الأول: القول الحسن:
إذا أحكم صاحب الدعوة قوله وسدد لفظه؛ فقد أوتي من الحكمة بابا عظيما، يقول الله عز وجل: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } [ البقرة : 83] .
ويقول طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة؛ فأقول لهم بعض القول الغليظ؟ فقال: لا تفعل؛ يقول الله تعالى : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]. يقول عطاء: فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي!
وأورد القرطبي في تفسيره على هذه الآية حديثا عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ’’يا عائشة! لا تكوني فحاشة؛ فإن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء ’’[1].
ويعلق القرطبي -رحمه الله- فيقول: (وهذا حض على مكارم الأخلاق؛ فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطا طلقاً مع البر والفاجر، والقريب والغريب، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه... إلخ)[2].
والقول يكون حسنا وحكمة بقدر ما يعتني بأصول الكلام، ويبتعد عن فضوله، يتحرك بنبضات القلب الحي، وهواجس النفس الصادقة .
ويحسن الكلام حين يكون قصداً عدلاً، ليس بالإيجاز المخل ولا الطويل الممل، وقد كانت خطبه عليه الصلاة والسلام قصداً، كما في الحديث الصحيح عند مسلم من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه.
وتأملوا في هذا الحوار الهادئ، والقول الحسن في الجدال الحسن: « فهذا حصين الخزاعي والد عمران، كانت قريش تعظمه وتجله، فطلبت منه أن يكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في آلهتها؛ فقد كان محمد يذكرها ويسبها . فجاء حصين ومعه قريش حتى جلسوا قريباً من باب النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل حصين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’أوسعوا للشيخ’’، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ أنك تشتم آلهتنا. فقال: ’’يا حصين! كم تعبد من آله؟’’ قال سبعاً في الأرض، وواحداً في السماء. فقال: ’’فإذا أصابك الضر فمن تدعو؟’’ قال: الذي في السماء. قال: ’’فإذا هلك المال من تدعو؟’’ قال: الذي في السماء. قال: ’’يستجيب لك وحده وتشرك معه؟’’ يا حصين! أسلم تسلم’’. فأسلم، فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه.
فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’شيعوه إلى منزله’’[3].
عجباً! دخل كافراً ناقماً منتقماً، فخرج مسلماً صادقاً، ليت شعري كيف كان حال قريش مع صاحبها ووجيهها!!
ويدخل في ذلك: القول اللين، الذي يستثير النوازع البشرية ووشائج القربى، وعبارات الحنو والشفقة، فإبراهيم عليه السلام ينادي أباه بكلمات شفوقة، { يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا }{ يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا }{ يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا }{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا }{ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } [مريم: 42 – 47].
وكل نبي يقول لقومه: يا قوم! تذكيرا بأواصر القربى ومواطن الحب والشفقة .
ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول لقومه في كلمة رقيقة في دعوة رفيقة: ’’إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غششت الناس جميعاً ما غششتكم’’ .
المعلم الثاني : التصريح والتعريض:
ومن القول الحسن الجنوح إلى التعريض والتلميح دون التصريح؛ فالتصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم، والتبجح بالمخالفة، ويهيج على الإصرار والعناد .
أما التعريض فيستميل النفوس الفاضلة، والأذهان الذكية، والبصائر اللماحة .
قيل لإبراهيم بن أدهم: الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه أيقوله له؟ قال: هذا تبكيت، ولكن تعرض .
وكل ذلك من أجل رفع الحرج عن النفوس، واستثارة داعي الخير فيها، كيف والتعريض سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبة أصحابه: ’’ ما بال أقوام يفعلون كذا ويقولون كذا’’ .
المعلم الثالث: النصيحة لا الفضيحة :
أردت تخصيص النصيحة بالذكر هنا، وإن كانت داخلة في كل ما سبق، بل النصيحة مقصود أعظم في الدعوة . إن لم تكن هي الدعوة كلها .
ولكن المراد هنا الإشارة إلى آداب النصيحة، كمظهر من مظاهر الحكمة في الدعوة، وبخاصة إذا ما حاولنا البعد بالنصيحة عن أن تكون تشهيراً وفضيحة.
يوضح ذلك في ما رمناه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - حين يقول: (والنصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة والشفقة عليه، والغيرة له وعليه، فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة، مراد الناصح بها وجه الله ورضاه، والإحسان إلى خلقه . . . ) .
فهي دعوة إصلاح يجب أن يتمخض فيها الإخلاص لله، مع المحافظة على مشاعر المنصوح، على نحو ما سبق في المعالم السابقة؛ لئلا ينقلب النصح مخاصمة وجدالاً، وشراً ونزاعاً .
يؤكد جانب الدقة في هذا الأمر أن ذكر الإنسان بما يذكره هو على أصل التحريم . وقد قيل لبعض السلف: (أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال: إن كان يريد أن يوبخني فلا) .
ولا يكاد يفرق بين النصيحة والتعيير إلا النية والباعث والحرص على الستر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم السيد أن يثرب أمته – أي: يلومها على ذنبها - فقال عليه الصلاة والسلام: ’’إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب ...’’ الحديث[4] .
يقول الفضيل : ( المؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويعير ) وكانوا يقولون : ( من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره ) .
ذلك أن الناصح الصادق ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له ، وإنما غرضه إزالة المفسدة ، وإخراج أخيه من غوائلها .
وشتان بين من قصده النصيحة ، ومن قصده الفضيحة ، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى، وكما قالت أم الدرداء : ( من وعظ أخاه سرا فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد شانه ) .
المعلم الربع: أدب التعامل:
كان الكلام فيما سبق تنبيهاً على مواطن الحكمة في القول والمخاطبة، وحسن المجادلة.
وفي هذه الفقرات إشارات إلى بعض ما ينبغي من أدب التعامل مع المدعوين، وبخاصة حينما يرى عليهم ما يستحق التنبيه، ويستوجب الملاحظة والتغيير .
وسوف ينتظم هذا الحديث صوراً من اللين في التعامل، ثم المداراة وإقالة العثرات، ومواطن الترغيب والترهيب .
صورة من اللين في التعامل:
النفوس مجبولة على حب من يحسن إليها ويتلقاها باللين، ويبسط لها في المحيا .
والشدة قد تدفع إلى المكابرة والنفور والإصرار، فتأخذ النفس العزة بالإثم؛ فالتعامل المؤثر ما كان دمثاً يفتح القلوب، ويشرح الصدور، فمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمؤمنون رحماء بينهم .
يروي معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: ’’ صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم؛ فقلت: واثكل أماه! ما شأنكم تنظرون؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يصمتونني؛ فلما رأيتهم يسكتونني لكني سكت، قال : فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي وأمي- ما ضربني ولا سبني’’.
وفي رواية : ’’فما رأيت معلماً قط أرفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: ’’إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن’’ .
وفي مدلولها قصة الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد؛ فقام الصحابة لينهروه؛ فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلما فرغ دعاه عليه الصلاة والسلام قائلاً له: ’’إن المساجد لا تصلح لهذا إنما هي لذكر الله والصلاة ’’.
فولى الأعرابي وهو يقول: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يضحك-: ’’ لقد حجرت واسعاً’’ .
قال الحافظ -معلقاً على أمثال هذه الوقائع-: (والمراد من قرب إسلامه وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي، ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالباً الازدياد، بخلاف ضده، والله أعلم) .
وفي هذا يقول الإمام أحمد: ( كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: مهلاً رحمكم الله ) .
ودعي الحسن البصري - رحمه الله - إلى عرس فجيء بجام من فضة –أي: قدح أو إناء- عليه خبيص أو طعام –والخبيص: طعام من التمر والسمن- فتناوله فقلبه على رغيف؛ فأصاب منه، فقال رجل: هذا نهي في سكون .
ويروى أن الخليفة المأمون وعظه واعظ فأغلظ له في القول؛ فقال: يا رجل! ارفق؛ فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني؛ وأمره بالرفق. فقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }{ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه:43-44].
المعلم الخامس: المداراة:
المداراة صورة من صور التعامل الدال على الحكمة، والموصل إلى المقصود مع حفظ ما للداعي والمدعو من كرامة ومروءة .
وقد بوب الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه فقال: (المداراة مع الناس -ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها- أنه ’’استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: ’’ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة’’ . فلما دخل ألان له الكلام. تقول عائشة: فقلت: يا رسول الله! قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: ’’أي عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه’’ .
قال ابن بطال: (المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ، وذلك من أقوى أسباب الألفة، -قال-: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان: وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضى بما هو فيه من غير إنكار عليه .
والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه؛ حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك) ا.هـ
إذا تقرر هذا المعنى فهو الذي قد عناه الحسن البصري - رحمه الله - بقوله: (كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول هي كل العقل) .
ومن الطريف قول أبي يوسف - رحمه الله - في تعداد من تجب مداراتهم فعد منهم: (القاضي المتأول، والمريض، والمرأة، والعالم ليقتبس من علمه. وأكثر ما تجري المداراة في اتقاء الأشرار والمكاره) .
وقد جاء في حكم لقمان: (يا بني! كذب من قال: إن الشر بالشر يطفأ؛ فإن كان صادقا فليوقد نارين، ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى، وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار) .
وسلوك المداراة مأذون فيه؛ لأن الإنسان خلق للاجتماع لا للعزلة، وللتعارف لا للتناكر، وللتعاون لا للانفرادية.
والإنسان تعرض له عوارض نفسية وطبيعية من الحب والبغض، والرضى والغضب، والاستحسان والاستهجان، فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشئون في كل وقت وعلى أي حال لاختل الاجتماع، ولم يثبت التعارف، ولانقبضت الأيدي عن التعاون، فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به عما يحدث تقاطعا، أو يدعو إلى تخاذل، وهذه هي المداراة التي نعني .
إذن فالمداراة ترجع إلى حسن اللقاء، ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار، إلا في أحوال يكون الإشعار به خيرا من الكتمان وأرجح وأصلح .
ومن لطيف المنقول في سير المتقدمين المقتدى بهم، ما جاء في وصية سحنون لابنه محمد: (. . . وسلم على عدوك وداره؛ فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس) ويقول محمد بن أبي الفضل الهاشمي: (قلت لأبي: لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته؟ قال: أخبي نارا وأقدح وداً) .
فالنفوس المطبوعة على المداراة نفوس أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كجسد واحد، وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة متماسكة، على قدر ما فيها من حياة، ولا يقطع العضو المركب في الجسد، إلا أن يصاب بعلة يعجز الطب عن علاجه إلا بالبتر .
فالمداراة يقصد بها: جمع الناس على الرضا والتآلف في حدود ما ينبغي أن يكون . وهي لا تمنع قضاء بالعدل، ولا تحجب نصيحة بالرفق، وينبغي أن يعلم أن لذكاء الرجل وحكمته مدخلاً عريضاً في فقه المداراة، وحسن استخدامها وطريقة الإفادة منها .
وقد يكون للتنوع في طبقات الناس تنوع في مداراتهم؛ فمداراة المنحرف عن الحق لسوء فهم أو خطأ في ظن، أكبر من مداراة من يحارب الحق والفضيلة، إن صادفك واقتضى الحال مداراته .
ومداراة من يرجى رشده وصلاحه أكبر من مداراة من شب متمادياً في الانحراف ولؤم الطبع؛ حتى يوشك أن ينقطع أملك في إصلاحه واستقامة أمره .
ومن كل ذلك تعرف أن المداراة مسلك كريم، يتقنه الحكماء والأذكياء، ولا يتعدى حدوده الفضلاء .
إذا رغبت في كلمة عن المداهنة لتميزها عن المداراة فلتعلم أن المداهنة: إظهار الرضا عن الغلط، من الظلم والفسق، ومن قول باطل أو عمل ممنوع، والمداهنة مسلك ذميم، ينطوي تحت جناحيه الكذب، وخلف الوعد .
أما الكذب فلأن المداهن يصف الرجل بغير ما يعرفه عنه، ومن دخل الكذب من باب، سهل عليه أن يأتيه من أبواب متفرقة.
وأما إخلاف الوعد؛ فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال؛ فلا يبالي أن يعده بشيء وهو عازم على أن لا يصدق في وعده .
المداهنون يجعلون ألسنتهم طوع بغية الوجيه، ويعجلون إلى قول ما يشتهي إن يقولوه.
قال الماوردي - رحمه الله - : (إن الإنسان وإن كان مأموراً بتآلف الأعداء، ومندوباً إلى مقاربتهم، فإنه لا ينبغي أن يكون لهم راكناً، وبهم واثقاً، بل يكون منهم على حذر، ومن مكرهم على تحرز؛ فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبعاً لا يستحيل، وجبلة لا تزول، وإنما يستكفى بالتألف إظهارها، ويستدفع به أضرارها، كالنار يستدفع بالماء إحراقها، ويستفاد به إنضاجها، وإن كانت محرقة بطبع لا يزول، وجوهر لا يتغير، وقد قال الشاعر:
وإذا عجزت عن العدو فداره ... وامزح له إن المزاح وفاق
فالنار بالماء الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق
ومن كل ما تقدم يتبين واجب المصلحين من الدعاة والعلماء والمربين في هذا الباب . فواجب العناية بمحاربة المداهنة؛ حتى تنفى من الأرض، وتكون الأوطان ودور التربية منابت نشء يميزون المداهنة من المداراة؛ فيخاطبون الناس في رقة وأدب وشجاعة، ويحترمون من لا يلوث أسماعهم بالملق الكاذب، ولا يكتمهم الحقائق متى اتسع المقام لحديث المصارحة .
المعلم السادس: إقالة العثرات والغض عن الأخطاء:
وأسلوب المداراة المتقرر في الفقرة السابقة يقود إلى غض الطرف عن أخطاء المقصرين، ما دام طريقاً لاستصلاحهم، وإقالة عثرات العاثرين؛ إذا كانوا كراماً ذوي هيئات، أو كان ذلك سبيلاً إلى دفنها وتقليلها .
وإن شئتم برهاناً قريباً؛ فاستذكروا قصة حاطب بن أبي بلتعة، تلك الواقعة الصحيحة، فهي صورة حية من صور الضعف البشري، في لحظة من لحظات الزمن، مع أنه الصحابي البدري، ولكبر الزلة قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (دعني أضرب عنق هذا المنافق)، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل حاطباً وأجابه، قال عليه الصلاة والسلام : ’’لقد صدق ولا تقولوا إلا خيرا، أما علمت يا عمر! أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم’’ .
إن إقالة العثرة ليست إقراراً للباطل، ولكنها إنقاذ للواقع فيه .
حكي أن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه: (ألا تقطعه وتهجره؟ فقال: أحوج ما كان إلي في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده وأتلطف له في المعاتبة، وأدعو له بالعودة إلى ما كان عليه) .
حق لمن غلط أو ذل أن يسمع كلمة حانية، وأن يستضيء بشمعة أمل؛ من أجل أن يرجع إلى الجادة، ويسير مع الأخيار من الصحاب .
يمر أبو الدرداء - رضي الله عنه - على رجل قد أصاب ذنبا، والناس يسبونه؛ فأنكر عليهم صنيعهم، فقال لهم: (أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي .
المعلم السابع: الترغيب والترهيب ومواقف الشدة:
كل ما تقدم من التأكيد على مسالك اللين والرفق والمداراة، والغض عن الهفوات، وإقالة العثرات، ليس معارضاً لما هو معروف ومتقرر في مسالك الشرع، من ضرورة سير الدعاة والمربين بين حالي الرغبة والرهبة، والرخاء والشدة، لكن المقدم في التعامل هو الترغيب والرفق، كما قال الإمام أحمد: ( والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق بلا غلظة، إلا رجلاً مبايناً معلناً بالفسق والردى؛ فيجب نهيه؛ لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة، فالمعلن المصر لا حرمة له) .
وطريق أنبياء الله - عليهم السلام - المذكورين في القرآن مسلوك فيه النجدين : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ } إلى قوله : { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [نوح: 1-4].
وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ التغابن: 8 – 10] .
ترغيب فيما وعد الله من حسن الجزاء في الدنيا، وحسن العافية في الآخرة، { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [الصف: 13] .
وترهيب من وعيد الله وغيرته على حرماته، والخوف من أليم عقابه عاجلاً وآجلاً ، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [ هود: 102] .
[1] القرطبي (2/16) .
[2] المصدر نفسه الصفحة نفسها.
[3] أهل العلم مختلفون في إسلام حصين ، والأرجح القول بإسلامه كما ذكر الحافظ ابن حجر وغيره .
[4] متفق عليه .
*رسالة الإسلام