مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
رسالة التوحيد: أسباب التأليف في هذا الموضوع المهم
رسالة التوحيد: أسباب التأليف في هذا الموضوع المهم
الجمعة 05، فبراير 2010

بقلم: د. محمد الهاشمي الحامدي

أبدأ بإلقاء السلام على جميع القراء الكرام لهذه المقالة، ثم أستأذنهم في عرض الأسباب التي دعتني لتأليف كتابي الجديد الصادر مطلع هذا العام (1431 هجرية، 2010 ميلادية) عن مكتبة العبيكان في السعودية، وعنوانه ’’رسالة التوحيد’’.

الكتاب واضح من عنوانه، وقد خصصته للحديث عن التوحيد، وفهمه برؤية تجديدية معاصرة. وبعد أن فرغت من تأليفه قبل أشهر قليلة، عرضته على ثلاثة أصدقاء، وهو باحثون متخصصون وأساتذة جامعيون، فشجعوني على نشره.

هؤلاء الثلاثة هم الدكتور محمد الفاضل الأستاذ بجامعة الأمير سلطان الأهلية في الرياض، والدكتور محمد السعيدي رئيس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة أم القرى في مكة المكرمة، والدكتور محمد بن عبد الرحمن الأهدل أستاذ السنة النبوية في جامعة الطائف.

رأي الدكتور محمد الفاضل

الدكتور محمد الفاضل أثنى على الرسالة وقال إنه تملكه الإعجاب بها فاسترسل في قراءتها إلى النهاية في جلسة واحدة، ورأى أن الكتاب ’’قد تميًز عن غيره من كثير من كتب التوحيد والعقيدة بالجاذبية والتأثير والإقناع حيث اجتمعت فيه عدة أمور تساعد على جذب القارئ والتسلل إلى وجدانه والتأثير فيه دون أن يصيبه الملل أو الضجر أو التعب الذي يصاحب عادة هذه العلوم الجادة العميقة العقلية’’.

رأي الدكتور محمد السعيدي

وكتب الدكتور محمد السعيدي: قصص العقل والتجارب الفكرية قليلة التدوين في ثقافتنا العربية سواء أكانت تراثية أم معاصرة وهذا ما يجعل العبء أكبر على المؤرخين للثقافة العربية والإسلامية ، والذي أعرفه مدونا من هذه التجارب الفكرية إما تحولات صارخة كالانتقال من دين إلى دين وهو ما فعله السموءل في القرن الثامن الهجري ، أو الانتقال من الشك إلى اليقين كما فعل مصطفى محمود ، وإما أن تكون تجارب فكرية في توجه متسق ليس فيها تحولات متميزة كتجربة عبدالرحمن بدوي وزكي نجيب محمود.

الرسالة التي بين أيدينا رغم صغرها وقصر زمن المرحلة الانتقالية التي تتحدث عنها إلا أنها فريدة في نوعيتها ، فهي تحكي الانتقال من من الفكر الإسلامي الحركي الصرف إلى الفكر الإسلامي المؤصل ، الفكر الأول كان يحسب الأوليات بمقياس عقلي صرف يزعم أنه أقرب إلى الواقع ، أما الآخر فيضع العقل في مكانه الصحيح وهو التبعية المطلقة للنص القرآني ليكتشف أن هذه التبعية لكلام الله عز وجل هي التي نحرر العقل حقا من أي تبعية أخرى كالانقياد للهوى أو الرأي السائد.

أهنيء المثقفين قاطبة بإصدار هذه الرسالة كما أهنيء الدكتور محمد الهاشمي على هذه الشجاعة في الطرح التي أعتبرها إحدى أبرز مكاسبه الشخصية من هذه التجربة’’.

رأي الدكتور محمد الأهدل

أما الدكتور محمد الأهدل فقال: ’’رساله التوحيد التي نسجتها يراعة الدكتور محمد الهاشمي قاصعت أضواؤها ظلال الحيرة، ودعت الى توحيد الله الخالص، مستمدة براهينها من وحي الله، فتهاوت الشبه مضمحلة بقوة الاقناع وجمال العرض، وآنه ليشكر كثيرا على تحرية الحق في قضيه هى الأصل الأصيل وبها السعادة في الأولى والنجاة في الأخرى’’.

أسباب الكتابة في التوحيد

قلت في الفصل الأول من الرسالة ما يلي:

يحق لسائل أن يسأل: هل هناك مبررات وجيهة ومقنعة للحديث عن التوحيد والدعوة إليه داخل المجتمعات الإسلامية، أو في رسالة موجهة للمسلمين الموحدين؟

بعض المهتمين بالفكر الإسلامي وتراث الفرق الإسلامية يردون على هذا السؤال بالنفي الواضح. عند هؤلاء أن التوحيد أساس الإيمان، وأساس العقيدة في الإسلام، أوضحه القرآن الكريم وأوضحه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعرفه المسلمون وتوارثوه جيلا من بعد جيل. لذلك لا مبرر لتكرار الحديث فيه.

سمعت هذا الرأي في مناقشات تلفزيونية أدرتها عن التوحيد والتجديد، ولمست عند أصحابه توجسا كبيرا وحقيقيا من إثارة موضوع التوحيد. إنهم يرون فيه عنوانا لخطاب مدرسة من مدارس التفكير الإسلامي يتهمونها بالتعصب وضيق الأفق، وبما هو أكثر من ذلك.

وسمعت هذا الرأي من نشطاء في الحركات الإسلامية المعاصرة. هؤلاء أيضا يرون أن أمر التوحيد واضح وبيّن، وما تحتاجه المجتمعات الإسلامية المعاصرة هو الدفاع عن الأبعاد التشريعية والسياسية للإسلام من خلال العمل السياسي والإعلامي والإجتماعي.

كنت ممن يتبنى هذا الرأي الثاني لسنوات طويلة، وربما يجد القارئ فائدة من معرفة تفاصيل أخرى عن تجربتي الشخصية مع هذا الموضوع.

قصتي مع مصطفى العقاد

كنت تلميذا في السنة الخامسة من المرحلة الثانوية، في المعهد الثانوي المختلط بولاية سيدي بوزيد، وسط الجمهورية التونسية، في السنة الدراسية 1978 – 1979. (يبدأ العام الدراسي في تونس في سبتمبر وينتهي في يونيو) ومثل أكثر زملائي آنذاك، لم أكن أصلي، ولم أكن مهتما بالشأن الديني عامة، ولم أكن على علاقة طيبة بالمتدينين من زملائي في الفصل، وقد كانوا قلة.

في نهاية 1978 على الأرجح، أو بداية 1979، علمت من بعض الأصدقاء أن قصر البلدية في سيدي بوزيد بدأ بعرض الشريط السينمائي المشهور ’’الرسالة’’ للمخرج العالمي الراحل مصطفى العقاد يرحمه الله. كنت قرأت عن ’’الرسالة’’ في الصحف، وعرفت أنه عمل سينمائي ضخم ومثير، فرأيت أن من واجبي ألا أفوت الفرصة لمشاهدته مادام قد وصل إلينا في مدينتنا الصغيرة.

وبالفعل، شاهدت شريط ’’الرسالة’’ لأول مرة، فهزني من الأعماق. وعدت في اليوم الثاني لمشاهدته، فأسرتني فكرته وحبكته. وعند خروجي من قصر البلدية، اتخذت قرارا حاسما بأن أجعل من تعاليم ’’الرسالة’’ منهجا لحياتي. وبدأت أؤدي فريضة الصلاة في نفس اليوم.

التقيت مصطفى العقاد بعد ذلك بنحو عشرين عاما تقريبا، في رحلة من رحلات الخطوط الجوية السعودية، متجهة من لندن إلى الرياض. كنت أجلس في مقعد من مقاعد الدرجة الأولى، بجوار الشباك. وإلى يساري جلس راكب آخر يكبرني سنا، أنيق ووسيم ورصين. كنت مدعوا للمهرجان الوطني للتراث والثقافة، الجنادرية، وبعد ساعة من إقلاع الطائرة، عرفت أن جاري في المقعد مدعو هو أيضا لذات المهرجان، وأنه ليس سوى مخرج الرسالة، مصطفى العقاد.

تستغرق الرحلة من لندن إلى الرياض حوالي خمس ساعات وثلاثين دقيقة، قضيت منها ساعتين على الأقل في حديث مشوق لا يُمل مع بطل كبير من أبطال حياتي: مصطفى العقاد.

أذكر أنه قال لي مازحا، بعد أن قصصت عليه ما جرى لي منذ شاهدت شريط ’’الرسالة’’: لو كنت أعرف أن الشريط سيحدث هذا التأثير في حياتك ما أنجزته!! وبروح الجد قال لي مصطفى العقاد: إن الأفلام، والأعمال الثقافية الجادة عموما، هي مدافع العصر وأسلحته.

مع الإتجاه الإسلامي في تونس

أعود إلى سيدي بوزيد. بدأت أصلي، وقادتني الصلاة إلى المسجد، وفيه تعرفت على أصدقاء جدد، أكثرهم كانوا ينتمون لما كان يعرف في تونس بـ’’الإتجاه الإسلامي’’، وهو التيار الممثل لمدرسة الإخوان المسلمين في تونس. وبعد شهور قليلة، ومن دون تردد، أصبحت عضوا في ’’الإتجاه الإسلامي’’. واستمرت عضويتي إلى مايو 1992، عندما قدمت استقالة علنية من الحركة.

جمعت ثقافتي الإسلامية في أجواء الإنتماء للإتجاه الإسلامي، وكانت مصادري الرئيسة هي كتب أشهر مفكري جماعة الإخوان المسلمين: حسن البنا وسيد قطب وفتحي يكن وسعيد حوا وزينب الغزالي يرحمهم الله، والدكتور يوسف القرضاوي، وغيرهم. عرفت من هذه المصادر أن الإسلام دين ودولة، وأنه صالح لكل زمان ومكان، وأنه نظام سياسي واجتماعي وقانوني، وأن العمل لإقامة المجتمع المسلم، والدولة الإسلامية، واجب على كل مسلم.

دارت أكثر مساجلات الإتجاه الإسلامي في تلك الفترة مع المنتمين للتيارات اليسارية والقومية بوجه خاص. كان النقاش يدور حول أدلة وجود الله تعالى، وعلى أن التدين ليس انحيازا فكرا رجعيا، وأن الإسلام يدافع عن الفقراء والعدالة الإجتماعية.

كان التوحيد مهما عندي وعند أصدقائي وإخوتي، ولكن في السياق الذي أوضحته. أي التوحيد بمعنى الإيمان بالإسلام جملة وبأنه من عند الله عز وجل وأنه صالح لعصرنا وكل العصور. كنا نقرأ كتب الدكتور مصطفى محمود وما شابهها لنحفظ الأدلة على وجود الله ونستخدمها في الرد على دعاة الإلحاد. وكنا نقرأ في كتب اليسار أيضا لنعرف نقاط الضعف فيها ونستطيع الرد على زملائنا المتحمسين للماركسية، الذين كانوا في غاية الإقتناع بأن الدين أفيون الشعوب.

ومع أن بعض المتخصصين صاغوا في بداية الثمانينيات وثيقة بعنوان ’’الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الإتجاه الإسلامي’’ بقصد الحوار حولها واعتمادها رسميا من طرف الحركة ككل، فإنها لم تنل حظا كبيرا من الإهتمام في صفوف الإسلاميين التونسيين.

عالم الصحافة، والصادق والترابي

تخرجت من الجامعة في سبتمبر 1985 وحصلت على ما نسميه فيه تونس بشهادة الأستاذية في علوم اللغة العربية وآدابها، وهي درجة الباكالوريوس عند إخوتنا المشارقة.

قبل تخرجي بعامين بدأت رحلتي مع الصحافة. عملت أولا في صحيفة ’’الرأي’’ الأسبوعية المستقلة منذ صيف 1983. ثم انتقلت إلى مجلة ’’المغرب العربي’’ الأسبوعية المستقلة. ومنها انتقلت للعمل في أشهر صحيفة يومية، صحيفة ’’الصباح’’ اليومية، وكنت أحرر فيها صفحة الجامعة، مرتين كل أسبوع.

وبصفتي الصحفية زرت السودان عام 1985 والتقيت بعدد من زعماء الإنتفاضة التي أطاحت بالرئيس الراحل جعفر نميري يرحمه الله. وفي 1986 عدت إلى السودان، وعملت في المركز الإسلامي الأفريقي في الخرطوم، محررا لمجلته الشهرية.

بقيت هناك عاما وبضعة أشهر حضرت فيها الإنتخابات التي فاز بها حزب الأمة بزعامة السيد الصادق المهدي، وحضرت العام الأول من حكمه. في تلك الفترة، تعرفت عن قرب إلى تجربة الحركة الإسلامية في السودان. كان زعيم الحركة، الدكتور حسن الترابي يتحدث عن التوحيد، بمعنى إقامة نظام سياسي واقتصادي واجتماعي يعود في كلياته وتفاصيله إلى الإسلام، أي بالمعنى الأقرب لفكرة الشمولية التي تبنتها حركة الإخوان المسلمين.

في لندن: الدراسة و’’الشرق الأوسط’’

في صيف 1987، حططت رحالي في العاصمة البريطانية لندن، والتحقت بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، لمواصلة دراساتي العليا لدرجتي الماجستير والدكتوراه، متخصصا في الدراسات الإسلامية المعاصرة، وقد حصلت على درجة الماجستير عام 1990، والدكتوراه عام 1996.

بعد أقل من عام واحد من وصولي إلى لندن، في ربيع 1988، التحقت بجريدة ’’الشرق الأوسط’’، مشرفا على صفحتها اليومية للدين والتراث. كانت ’’الشرق الأوسط’’ أهم منبر إعلامي عربي جامع، توازي في تأثيرها ما حققته الفضائيات الرئيسية المشهورة في نهاية التسعينيات من القرن الماضي.

أعطاني رئيس التحرير، الإعلامي السعودي المعروف عثمان العمير، حرية مطلقة تقريبا في الإشراف على الصفحة. فطبعتها بالروح التي نشأت عليها في صفوف الحركة الإسلامية التونسية والمدرسة الإخوانية وفي أجواء حلقات النقاش بالجامعة التونسية. فتحت ملفات كثيرة للحوار، واستكتبت الشيخ محمد الغزالي رحمه الله والدكتور يوسف القرضاوي، وكتابا آخرين مشهورين. كما نشرت في صفحة الدين لكتاب محسوبين على المدرسة العلمانية، ضمن مناظرات عن الإسلام وتحديات العصر.

وقد واجهت مشكلة دينية سياسية فرضتها الحرب العراقية الإيرانية التي كانت تشارف على نهايتها عامي 1988 و1999. أدت الحرب إلى نشوء حرب من الفتاوى والمؤتمرات بين أنصار العراق وأنصار إيران. وكانت ’’الشرق الأوسط’’ في الصف المؤيد للعراق، ومن هذا المنطلق كانت تصلني مقالات كثيرة تنتقد إيران كدولة شيعية، وتنتقد الشيعة بوجه عام.

ميول مع إيران

غير أنني بذلت جهودا كبيرة من أجل تحرير الصفحة الدينية من الدخول في هذه المعركة، ومنعت نشر أكثر هذه المقالات والفتاوى المعادية للشيعة فيها. ومن أهم أسباب هذا الموقف أن ميول الإسلاميين التونسيين خاصة، وأكثر الإسلاميين العرب خارج منطقة الخليج، كانت أقرب إلى إيران، وكانت متعاطفة مع ثورتها الإسلامية، مبغضة لفكر البعث وسياساته.

وقفت بقوة وحماس إذن ضد الإساءة لإيران والشيعة في صفحة ’’الدين والتراث’’، وكانت حجتي أمام رئيس التحرير أنه يجب ألا نسمح للسياسة بتوظيف الدين لتفريق المسلمين، وأن من الأفضل أن نبقي الرابطة الدينية بين السنة والشيعة قائمة وقوية لنداوي بها آثار الحرب العراقية الإيرانية عندما تتوقف.

أما موضوع التوحيد فلا أذكر أنني طرحته كموضوع للنقاش والإجتهاد والتجديد طيلة الفترة التي حررت فيها صفحة ’’الدين والتراث’’ في جريدة الشرق الأوسط، وهي مرحلة بدأت في 1988، وانتهت باستقالتي عام 1991 لخلافات مع بعض مسؤولي التحرير الذين التحقوا بالصحيفة.

انتقلت من جريدة ’’الشرق الأوسط’’ إلى مجلة ’’العالم’’ التي كانت تصدر أسبوعيا من لندن، ويرأس تحريرها الكاتب والإعلامي البحريني الدكتور سعيد الشهابي، وتوليت الإشراف فيها على قسمها الإسلامي، الذي يتكون من عدة صفحات.

عملت في مجلة ’’العالم’’ سنتين. ولم تكن عندي أية موانع من العمل في مؤسسة إعلامية محسوبة على إيران، علما بأن المجلة كانت ذات أفق إسلامي واسع وغير معنية بالخلافات المذهبية. وقد سبق أن أشرت إلى أنني كنت أشعر، مثل جيل واسع من الإسلاميين في تونس والمغرب العربي بوجه خاص، بالتعاطف مع إيران وشعارات ثورتها الإسلامية، وأرى ضرورة العمل لتعزيز التقارب والتضامن بينها وبين العالم العربي.

الإستقالة من حركة النهضة

في مايو 1992 ، أي أثناء فترة عملي في مجلة ’’العالم’’، قررت الإستقالة من حركة النهضة، وهو الإسم الجديد الذي اتخذته حركة الإتجاه الإسلامي في تونس منذ 1988. استقلت بسبب خلافات سياسية وشخصية نشأت بيني وبين عدد من قيادات الحركة في الفترة من 1990 إلى 1992، ووصلت بعد كثير من التفكير والتردد، إلى أن من الأفضل لي أن أترك الحركة وأعمل لديني ووطني وأمتي ككاتب وإعلامي مستقل، بدل أن أقضي الوقت في مناكفات وخصام مع إخوتي في الحركة التي انتميت إليها لأكثر من عقد من الزمان.

وقد راجعت تجربتي الشخصية في الحركة الإسلامية التونسية خلال السنوات اللاحقة لتقديم استقالتي، وبدا لي أن العمل الحزبي تحت الراية الإسلامية في مجتمع مسلم قد يجلب من الأضرار للإسلام والمجتمع أكثر مما يجلب من المكاسب. كما أن نهج الصدام والمغالبة مع السلطة باسم الشعارات الإسلامية، غالبا ما ينتهي لإلحاق الضرر بتلك الشعارات، وهذه فكرة مال إليها كثير من علماء الإسلام في العصور السابقة عند تعاطيهم مع تحديات مماثلة في شأن الحكم والسياسة.

لكن هذه المراجعات لم تتطرق لموضوع التوحيد وأهميته في أولويات العمل للإسلام والدعوة إليه. لم أشعر بأي داع للتفكير في هذا الأمر، ولم أصادف من أو ما يدعوني لطرحه ضمن ما يمكن مراجعته.

المستقلة.. والحوار الصريح

في يناير 1993 نشرت العدد الأول من جريدتي العربية الدولية، جريدة ’’المستقلة’’. بدأت الصحيفة شهرية في المرحلة الأولى، ثم انتظمت في الصدور أسبوعيا قبل نهاية عامها الأول. أصبحت المسؤول عن سياسة التحرير لجريدة أسبوعية وصل عدد ما تطبعه في بعض الأوقات لنحو أربعين ألف نسخة. وتشرفت باستكتاب نخبة من الكتاب والإعلاميين العرب المرموقين. وأقول أيضا بصراحة شديدة، أنه خلال عقد كامل صدرت فيه الصحيفة، لم يجل بخاطري أن أطرح موضوع التوحيد للنقاش والإجتهاد والتجديد.

خلال هذه المراحل من حياتي، في المعهد الثانوي بسيدي بوزيد، وفي الجامعة التونسية، وأثناء دراساتي العليا بجامعة لندن، وطيلة فترة إشرافي على تحرير الصفحة الدينية في ’’الشرق الأوسط’’، وخلال رئاستي لتحرير جريدة ’’المستقلة’’، كنت دائما، ومازلت، متحمسا للإسلام، مؤمنا أنه منهاج السعادة لكل الناس في الدنيا والآخرة، وأسأل الله أن يحييني على هذه القناعة إلى أن ألقاه سبحانه وتعالى. غير أنني لم أكن أرى ضرورة للحديث عن التوحيد من أجل بيان عظمة الإسلام وأهميته.

لماذا أكتب هذه الرسالة إذن عن التوحيد والتجديد؟

في 1996 حصلت على رخصة لإطلاق قناة ’’المستقلة’’ الفضائية في لندن. بدأ البث التجريبي في 1999، وتمكنا من بث أول برنامج مباشر من مقر القناة في العاصمة البريطانية يوم 1 مايو 1991.

في نوفمبر من العام 2002 ميلادية، حل شهر رمضان المبارك للعام 1423 هجرية. وفيه طرحت تراث الفرق الإسلامية للنقاش والتقييم في برنامج ’’الحوار الصريح بعد التراويح’’، الذي أصبح البرنامج الرئيس لقناة المستقلة في كل مرة يحل فيها شهر رمضان المعظم.

’’الحوار الصريح بعد التراويح’’ برنامج حواري يومي يبث بعد الفراغ من التراويح في المسجد الحرام، مدته في العادة ساعة وخمس وأربعون دقيقة، وفي بعض الأحيان دامت بعض الحلقات لنحو خمس ساعات. وعلى مدى السنوات الماضية، ناقش البرنامج موضوعات كثيرة في تراث الفرق الإسلامية بجرأة وصراحة لم يسبق إليهما. ويقول عدد من المهتمين بالإعلام الفضائي العربي أنه أصبح واحدا من أشهر البرامج الحوارية في ميدانه، ميدان الحوار في تراث الفرق الإسلامية.

لم يكن البرنامج عملا موجها ضد أي جهة، أو لحساب أي جهة. كان وما يزال مبادرة إعلامية لتشجيع روح النقد والإجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي. وعندما خصصته لنقد تراث الفرق الإسلامية في 2002، لم أكن محيطا بكل أبعاد المسائل الخلافية في تراث هذه الفرق، وإن كان لدي انطباع أولي عام بأن رموز المدرسة السلفية يميلون للتشدد والتنطع، ويضعون عوائق غير مبررة أمام التقارب الإسلامي المنشود بين السنة والشيعة.

كانت علاقتي بالعلماء والباحثين الشيعة المشاركين في البرنامج طيبة وصريحة وخالية من العقد. وربما أدى هذا بالبعض في الأعوام الأولى للبرنامج لاتهامي بمحاباة الشيعة وأحيانا بالتشيع. أما العلماء والباحثون السنة فقد كانت علاقتي بهم عادية ومهنية صرفة. كان أكثرهم من المنتسبين للمدرسة السلفية، لأن علماء هذه المدرسة لهم دراية أكبر وأعمق بالمسائل الخلافية مع الفقهاء الشيعة.

بنيت حساباتي على أساس أن التقارب الحقيقي الذي يبقى ويكون له أثر في مستقبل الفكر الإسلامي هو ذاك الذي يكون ثمرة حوار حقيقي وصريح بين المختلفين في الرأي. أما إذا كررت تجارب الكثير من الجهات الإسلامية في إدارة ندوات للمجاملات والعلاقات العامة فلن نصل إلى شيء مهم ومعتبر. لذلك حاولت أن أوفر للحوار الصريح أعلى سقف ممكن من الحرية والصراحة والجرأة، ولضيوفه الوقت الكافي لعرض أفكارهم وأدلتهم والرد على دعاوى مخالفيهم.

في أجواء هذا البرنامج، بدأت أدرك تدريجيا أهمية التفكير في موضوع التوحيد، كشرط من شروط فهم التراث الضخم من السجال العقائدي والفقهي بين الفرق الإسلامية. وأدركت أيضا أنني كنت غافلا عن هذا الأمر وعن أهميته. أقول ’’تدريجيا’’ ويجب وضع أكثر من سطر تحتها. فقد استغرق الأمر بعض الوقت، علما بأن مسيرة ’’الحوار الصريح’’ تطورت منذ أن بدأ بتقييم تراث الفرق الإسلامية عام 2002، إذ أنني كنت أتعلم وأستفيد من كل جولة أقدمها من جولات البرنامج، وهي جولات بثتها قناة المستقلة في شهر رمضان من كل عام، وفي غير شهر رمضان عدة مرات خلال الأعوام الماضية.

وفي أجواء هذا البرنامج تعرفت على العديد من الأصدقاء الجدد، ممن لديهم اهتمام خاص بموضوعات النقاش في برنامجي. كثير من هؤلاء كتاب وأساتذة جامعيون تسامرت معهم، ودخلت في سجالات طويلة معهم حول الموضوعات التي يناقشها البرنامج، واستفدت من تعليقاتهم وملاحظاتهم وأفكارهم.

لقاء مثير في مكة المكرمة

وتعرفت أيضا إلى صديق له باع كبير في السياسة والعمل العام، وابن عائلة كبيرة مرموقة في العالم العربي. التقيت هذا الصديق في موسم حج عام 1423 هجرية، 2002 ميلادية، بعد شهرين أو ثلاثة من بث الجولة الأولى من جولات تقييم تراث الفرق الإسلامية في برنامج ’’الحوار الصريح بعد التراويح’’. حضرت احتفالا رسميا أقامه الملك فهد بن عبد العزيز يرحمه الله لعدد من رؤساء الدول ورؤساء وفود الحجيج وكبار الشخصيات المشاركة في موسم الحج لذلك العام. بعد أن تحدث وزير الحج السعودي وعدد من الضيوف الآخرين، قام الجميع لتناول طعام العشاء على مائدة الملك.

في تلك اللحظة، تقدم نحوي أحد الذين كانوا جالسين قرب الملك، وصافحني بمودة.

أنت محمد الهاشمي؟ سألني، فقلت: نعم. وحضرتك؟

قدم لي نفسه، فعرفت قدره ومكانته، وعرفت منه أيضا أنه من المهتمين بسجالات برنامج ’’الحوار الصريح بعد التراويح’’. تناولنا طعام العشاء معا، على مائدة الملك فهد يرحمه الله، ثم تشرفت بزيارة هذا الرجل الكريم في منزله في مكة بعد أيام التشريق. كانت تلك هي زيارتي الأولى لبيته. ثم زرته بعد ذلك مرات عديدة.

سألني صاحبي في أول زيارة لي إليه: ألا توافق أن من أخطر الأمور على المؤمن أن يقع في الكبائر؟ قلت: بلى. قال: فإن الله تعالى يغفر كل الذنوب، إلا ذنبا واحدا، هو الشرك به سبحانه وتعالى. وقرأ قوله عز وجل: ’’إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا’’. (النساء: 48)

ثم أضاف صاحبي: ما دام ربنا عز وجل هو من أوضح أن الشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يغفر، أليس من واجب كل مسلم أن ينتبه إليه، ويحتاط من الوقوع فيه؟

حول هذه الفكرة ركز صاحبي في أول لقاء لي معه، وفي كل لقاء آخر جمعني به تقريبا طيلة السنوات الماضية. وقد سمعته يحدث بها آخرين كثيرين غيري.

وعندما يتطوع الرجل بنصيحة، فإنها تأتي على صلة بالفكرة الكبرى المؤثرة عليه. لطالما قال لي: ركز على التوحيد الذي بعث به الرسل جميعا، واجعل عملك كله لله عز وجل. وظف ما أوتيت من إمكانيات للتعريف بالإسلام الصحيح. ولطالما قال لي أيضا: احفظ الله يحفظك، وانصره ينصرك، ويسخّر مِن خلقه من ينصرك.

بعد اللقاء الأول، قلت لنفسي: هذا الرجل سياسي وليس فقيها. سياسي متأثر بالبيئة السلفية، لذلك سأسمع منه على وجه المجاملة، وأمضي في طريقي. واتخذت نفس الموقف في اللقاء الثاني والثالث والرابع والخامس. لكن صاحبي كان يكرر ذات الأفكار والنصائح في كل مرة تتاح لي فرصة اللقاء به، وبسبب إلحاحه وتكراره، أجبرني أن أتأمل في طرحه وأدلته.

كانت السياسة عندي هي العنوان الأكبر في النظر إلى الإسلام وفهمه ورصد أثره في التاريخ وفي عصرنا. تلك نتيجة طبيعية لما تعلمته في مدرسة الإخوان المسلمين. شمولية الإسلام كانت تقودني وتقود أكثر الإسلاميين المعاصرين للحديث عن السياسة والصراع في دائرتها، مع أن الإخوان يتحدثون أيضا عن تربية الفرد المسلم، فالأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم. المنهج كان يقودنا بوعي أو بغير وعي لإعطاء الأولوية للسياسة والحكم والصراعات الفكرية والإجتماعية والسياسية المرتبطة بهما. والواقع يدل على ذلك أيضا. فمعارك الإخوان الكبرى تدور رحاها في الإنتخابات البرلمانية هنا وهناك، وفي أروقة النقابات المهنية والجمعيات العامة المؤثرة.

لكن، هل وجّه الإسلام وبيّن بالأدلة الواضحة أن السياسة وإقامة الحكم الإسلامي هي الأولوية الكبرى للدين والمتدينين؟

صاحبي الذي يعمل بالسياسة، ولا يدعي أنه عالم متبحر في الفقه، يقول لي: لا. الأولوية هي أن تعبد الله لا تشرك به شيئا. أن تبتعد عما يمكن أن يفسد التوحيد ويضعك في دائرة الشبهة، شبهة الشرك. هذا هو الأمر الأعظم، وكل أمر آخر يأتي بعده في الأهمية.

كما ترون. وجدت نفسي أمام مسألة جديرة بأن يبحث المرء فيها بحرص واجتهاد، ليعلم أي الطرحين، أو النهجين، أقرب للحق والصواب.

وفي غمار هذا البحث وهذا الإجتهاد اكتشفت أهمية أمر التوحيد، كما بينت بالتفصيل في الفصول الكتاب، كتاب ’’رسالة التوحيد’’.
*لجينيات
أضافة تعليق