هويدي 13-1-2003
حين تطلب تركيا اقامة علاقة ايجابية مع الجامعة العربية، فذلك مطلب ينبغي ان يرحب به، وان يحمل على محمل الجد، بحيث تفتح على النور صفحة الاجابة عن الأسئلة التفصيلية من قبيل كيف ومتى وأين، أما المجادلة في السؤال: هل تدخل أم لا، فستكون عبثا ما بعده عبث، من حيث انها تعبر عن تغييب للرؤية الاستراتيجية في التعامل مع بلد غاية في الأهمية مثل تركيا، وفي ظروف غاية في الدقة والحساسية كتلك التي تمر بها المنطقة كلها الآن.
العرض قدمه رئيس الوزراء التركي عبد الله غول، اثناء زيارته الاخيرة للقاهرة التي كانت ضمن جولة طاف خلالها بعدة عواصم عربية، استهدفت تنسيق المواقف مع الجيران إزاء الحملة العسكرية الاميركية على العراق. وكان غول قد طرح الفكرة اثناء لقائه امين الجامعة العربية عمرو موسى، الذي عبر عن ترحيبه بها من حيث المبدأ، ووعد بدراستها لتحديد مجالات التعاون المنشود، وقد قيل ان تركيا اقترحت ان تكون «عضوا مراقبا» في الجامعة، ولكن لان مثل هذه العضوية ليس معمولا بها في نظم الجامعة، فقد عرض عمرو موسى ان يتم التعاون من خلال اتفاقات تغطي مجالات معينة تلبي بعضا من مصالح وحاجات الطرفين.
هذا العرض لم يكن مفاجئا للدوائر العربية فحسب، وانما جاء مفاجئا للنخبة التركية أيضا، ذلك ان اغلب العواصم العربية تعاملت مع تركيا بحسبانها حالة ميئوسا منها، بسبب سجلها الحافل بوقائع القطيعة مع العرب ـ بل مع الشرق كله ـ منذ اعلان الجمهورية في عام 1923 والارتماء في أحضان الغرب مع الموالاة اللافتة للنظر للولايات المتحدة واسرائيل، وهي الموالاة التي تكرست واتسع نطاقها خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي ضاعف من الشعور بالحساسية والمرارة على الجانب العربي. وبشكل عام فانه باستثناء المشاركة التركية في منظمة المؤتمر الاسلامي، فان انقرة في نشرة اخبار العالم العربي كانت تذكر في الاغلب بمناسبة وقوع حوادث جسيمة (مثل زلزال عام 99) أو نشوء مشكلات مع الجيران العرب متعلقة بالمياه او الاكراد او التعاون العسكري والاستخباراتي مع اسرائيل، وبسبب هذه الاجواء فان محاولة قلب الصفحة، وفتح صفحة جديدة مع العالم العربي عنوانها التعاون وتبادل المصالح، غدت امرا لم يكن في الحسبان، تجاوز توقعات الاوساط السياسية العربية، بل والدبلوماسيين العرب في انقرة ذاتها، وقد سمعت بعضهم يشكون من ان فتور العلاقات بين تركيا والعالم العربي، اصابهم بالاحباط، وهم الذين يرون ان ثمة آفاقا واسعة وفرصا جيدة للتعاون العربي ـ التركي، غير مستغلة للأسف الشديد، استثني من ذلك سوريا التي اصبحت تحتفظ بأنجح علاقات ايجابية مع انقرة، على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث سجلت خلال العامين الماضيين اكبر عدد من زيارات المسؤولين السوريين الى انقرة، كما سجلت اعلى معدل في التبادل التجاري.
العرض الذي قدمه عبد الله غول كان مفاجئا ايضا للنخبة التركية، التي تتجه بأبصارها نحو الغرب منذ ثمانية عقود، ومن ثم علقت مستقبلها على نجاح ارتباطها بأوروبا (رغم ان 97 في المائة من الاراضي التركية تقع في آسيا). وبوجه اخص، فان قادة العسكر والمؤسسة الدبلوماسية التركية يبدون تحفظات على مد الجسور مع العالم العربي، سواء لانهم يرونه أكثر تخلفا أو لانهم يعتبرون ان الالتفات الى العالم العربي والاسلامي يعد تراجعا عن تقاليد الكمالية، حيث لاحظ احد الباحثين ان كلمة «العرب» لم تذكر في البيانات الوزارية في العهد الجمهوري إلا في عام 46، أي بعد مضي 23 سنة من اعلان الجمهورية.
ولعلي لا اذيع سرا اذا قلت ان فكرة زيارة عبد الله غول للعواصم العربية لم ترحب بها الخارجية التركية ذاتها، وكانت نصيحة المؤسسة الدبلوماسية في انقرة تعارض الزيارة، وتعتبرها عبئا على السياسة الخارجية للبلاد، التي تعطي الأولوية لانجاح العلاقات مع اوروبا والولايات المتحدة واسرائىل، ومع ذلك فان رئيس الحكومة، الذي كان قد عمل لثماني سنوات خبيرا في بنك التنمية الاسلامي بجدة، لم يأخذ بالنصيحة، وقام بالزيارة التي تعددت اهدافها كما سبقت الاشارة. وكان ملاحظا ان غول لم يصطحب معه وزير الخارجية يشار ياكيش (الذي ترشحه الشائعات للخروج من الوزارة في أول تعديل، بعد تولي الطيب اردوغان رئاسة الحكومة، حيث يفترض في هذه الحالة ان يعين غول نائباً لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية، ومعروف انه شغل منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية في حكومة اربكان عام 96). والملاحظة الأخرى المهمة في هذا الصدد ان غول اصطحب معه اهم مستشاريه وهو الدكتور احمد داود اوغلي، احد ابرز خبراء الاستراتيجية والعلاقات الدولية، الذي كان قد عمل لبعض الوقت استاذا بالجامعة الاسلامية في ماليزيا.
ماذا كانت ردود الافعال العربية على فكرة التعاون بين انقرة والجامعة العربية؟
قلت ان الجامعة العربية رحبت بالفكرة على لسان أمينها العام، ولم يسمع تعليق من بقية العواصم، باستثناء الاعتراضات التي نقلت على لسان احد الدبلوماسيين العراقيين، الذي وصف الاقتراح بأنه «سخيف» وهاجم تركيا متهما إياها بانتهاك سيادة العراق. وعلى الصعيد الاعلامي فاننا قرأنا لمن كتب مؤيدا للفكرة، ومن كتب ساخرا منها ومن الجامعة العربية، في تعبير عن موقف عدمي مثير للدهشة.
واذ أضم صوتي الى مؤيدي الفكرة فانني الفت النظر الى امور عدة هي:
ـ ان تركيا اذا كانت قد ارتمت صوب الغرب، وذهبت بعيدا في موالاة الاميركيين والاسرائيليين، فان ذلك تم بارادة النخبة المهيمنة التي اعتبرت التحول من الخلافة الى الجمهورية نقطة مفارقة للانتماء العربي والاسلامي، وهي في ذلك كانت معبرة عن مصالحها الذاتية، وليس مصلحة المجتمع الذي يمثل المسلمون 98 في المائة من ابنائه، وقد استطاع المجتمع في الانتخابات الاخيرة ان يطيح بالنخبة السياسية على الاقل، وان يستقدم آخرين اصدق في التعبير عن ضمير وحقيقة المجتمع، وهؤلاء هم الذين جاءوا يمدون يد المودة والتعاون مع العرب، لذلك فان الرسالة في الاقتراح مهمة وجديرة بالرصد.
ـ ان الذين ينتقدون السياسة التركية لهم كل الحق في المآخذ التي يسجلونها عليها لكن الاكتفاء بتسجيل الانتقادات يعد موقفا يفتقد الى المسؤولية، فضلا عن ان استمراره يفسح المجال للآخرين لكي يتغولوا في الساحة التركية كيفما شاءوا، واحسب ان الموقف المسؤول يقتضي من الجهات المعنية في العالم العربي ان تطرح على نفسها السؤال التالي: ماالذي علينا ان نفعله لكي نكبح جماح الاستسلام للسياسات التي تجذب تركيا بعيدا عن العالم العربي، والى مواقع يضر بعضها بالمصالح العربية، علما بأن غيابنا عن الساحة التركية هو افضل هدية نقدمها الى مختلف القوى التي يهمها تكريس المفاصلة أو القطيعة بين الاتراك والعرب خاصة.
ـ في هذا الصدد لا مفر من الاقرار بأنه اذا كان الكماليون قد انتزعوا تركيا من قلب العالم الاسلامي والعربي، فان العرب أكثر من غيرهم يتحملون مسؤولية الاستسلام لتلك القطيعة، ومن ثم المساعدة غير المباشرة على تكريسها، لا استطيع ان اتجاهل في هذا الصدد حقيقة ان الاتراك العثمانيين عاشوا مع العرب طيلة اربعمائة سنة (وهو ما لم يحدث بالنسبة لجارتها ايران مثلا)، ورغم اهمية خلفية التاريخ المشترك والوشائج الدينية، الا ان الاهمية الاستراتيجية لتركيا بالنسبة للعالم العربي تظل عنصرا يحتل الاولوية في الحسابات السياسية، فهي جارة لدولتين عربيتين مهمتين هما سوريا والعراق، وتمثل عمقا استراتيجيا للعالم العربي، وجبهة شمالية لأمنه القومي، وقلعة مشرفة على الشعوب التركية في وسط آسيا، الواصلة الى حدود الصين، في الوقت ذاته فموقعها بين القارتين الآسيوية والأوروبية له أهميته، وما تمثله من ثقل سكاني (70 مليونا) وقوة عسكرية وقدرة اقتصادية، يضفي على أهميتها ابعادا اضافية.
ومن المفارقات اللافتة للنظر في هذا الصدد ان مختلف الاطراف الدولية تدرك اهمية تركيا وتحاول استثمار وضعها الاستراتيجي الحاكم لصالحها، باستثناء العرب، الذين يفترض انهم الأقرب الى تركيا من كل اولئك سواء كانوا اوروبيين أم اميركان ام اسرائيليين.
ـ ازعم في هذا السياق ان حاجة العرب الى تركيا أكبر من حاجة تركيا الى العرب، ولكي اكون دقيقا فانني اقول ان تركيا يمكن ان تظل آمنة وهي بعيدة عن العرب، لكن العرب لا يستطيعون ان يستشعروا الأمن وهم بعيدون عن تركيا، خصوصا اذا ادركنا ان اسرائيل تسعى جاهدة لجذبها إليها، وتوسيع نطاق المصالح المتبادلة في المجالات الزراعية والصناعية والتجارية فضلا عن العسكرية. صحيح ان المسألة الكردية تمثل هاجسا امنياً لتركيا، وملف هذه القضية موزعة اوراقه بين العراق وايران، وسوريا بدرجة أو أخرى، لكن القلق التركي في هذه الحالة معادل لقلق الاخرين، ثم ان القضية بسبيلها الى الحل التدريجي الآن.
ـ اذكر في هذا الصدد بأن المصالح الغربية والاسرائيلية القوية تكدست عبر جهد متواصل استمر عقودا عدة اقلها خمسة عقود بالنسبة لاسرائىل، وعلى العرب اذا ما أرادوا ان يمدوا جسورهم نحو تركيا لكي يقيموا علاقات متوازنة معها، ألا يتوقعوا انجاز ذلك الهدف بين يوم وليلة، ولا بقرار سياسي، وانما عليهم ان يبذلوا بدورهم جهودا حثيثة على مدى فترة غير قصيرة لكي يحصدوا ثمار ما زرعوه.
ـ ربما كان دافع تركيا الى مد يد التعاون مع العرب راجعا الى الاحباط الذي تعاني منه، من جراء مماطلة الاتحاد الأوروبي وتردده في قبولها كعضو في النادي الأوروبي، وربما كان دافعها الى ذلك هو اقتناع حزب العدالة والتنمية بأهمية توثيق العلاقات مع العالم العربي والاسلامي، وهو ما اعلنه رئيس الوزراء في بيانه امام البرلمان، وقد يكون تحركها ذاك مترتبا على العاملين معا، لكن القدر المتيقن ان تركيا ليست مطالبة ولا مضطرة لأن تختار بين الاوروبيين أو العرب، وانما بوسعها ان تمد جسورها على الجانبين دون تعارض ضروري بينهما. وقد فهمت من عمرو موسى ان حواره مع عبد الله غول استقر على تلك الصيغة. اما علاقات تركيا باسرائيل فمن أسف اننا لم نعد قادرين على انتقادها بذات الدرجة من الجرأة والحدة، لأن بعض الدول العربية مضت على ذات الطريق مع اختلاف في الدرجة وليس في النوع.
ـ يظل المجال الاقتصادي هو المرشح بدرجة أكبر من غيره لكي يكون الجسر الذي يمتد بين العرب والاتراك، لان السوق العربية اقرب والمنافسة فيها اقل، بعكس اوروبا التي وان كانت قريبة إلا ان المنافسة فيها اقوى، ومن أسف ان مؤتمرا دعا إليه الاتراك في استنبول عام 2000 لبحث مستقبل التعاون الاقتصادي بين تركيا والعالم العربي (اشتركت فيه 12 دولة عربية) ولكن احدا من الاطراف العربية لم يبد استعدادا لاستقبال الدورة الثانية للمؤتمر، لذلك فانه لم يقدر له ان ينعقد مرة أخرى حيث فتح الباب ولم يدخل أحد.
يبقى السؤال الكبير: ما الذي يستطيع ان يفعله الامين العام للجامعة العربية ازاء ذلك كله؟ ليست عندي اجابة واضحة، لكن ازعم انه الان احوج ما يكون الى التشجيع والمساندة.. صلوا من أجله.
حين تطلب تركيا اقامة علاقة ايجابية مع الجامعة العربية، فذلك مطلب ينبغي ان يرحب به، وان يحمل على محمل الجد، بحيث تفتح على النور صفحة الاجابة عن الأسئلة التفصيلية من قبيل كيف ومتى وأين، أما المجادلة في السؤال: هل تدخل أم لا، فستكون عبثا ما بعده عبث، من حيث انها تعبر عن تغييب للرؤية الاستراتيجية في التعامل مع بلد غاية في الأهمية مثل تركيا، وفي ظروف غاية في الدقة والحساسية كتلك التي تمر بها المنطقة كلها الآن.
العرض قدمه رئيس الوزراء التركي عبد الله غول، اثناء زيارته الاخيرة للقاهرة التي كانت ضمن جولة طاف خلالها بعدة عواصم عربية، استهدفت تنسيق المواقف مع الجيران إزاء الحملة العسكرية الاميركية على العراق. وكان غول قد طرح الفكرة اثناء لقائه امين الجامعة العربية عمرو موسى، الذي عبر عن ترحيبه بها من حيث المبدأ، ووعد بدراستها لتحديد مجالات التعاون المنشود، وقد قيل ان تركيا اقترحت ان تكون «عضوا مراقبا» في الجامعة، ولكن لان مثل هذه العضوية ليس معمولا بها في نظم الجامعة، فقد عرض عمرو موسى ان يتم التعاون من خلال اتفاقات تغطي مجالات معينة تلبي بعضا من مصالح وحاجات الطرفين.
هذا العرض لم يكن مفاجئا للدوائر العربية فحسب، وانما جاء مفاجئا للنخبة التركية أيضا، ذلك ان اغلب العواصم العربية تعاملت مع تركيا بحسبانها حالة ميئوسا منها، بسبب سجلها الحافل بوقائع القطيعة مع العرب ـ بل مع الشرق كله ـ منذ اعلان الجمهورية في عام 1923 والارتماء في أحضان الغرب مع الموالاة اللافتة للنظر للولايات المتحدة واسرائيل، وهي الموالاة التي تكرست واتسع نطاقها خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي ضاعف من الشعور بالحساسية والمرارة على الجانب العربي. وبشكل عام فانه باستثناء المشاركة التركية في منظمة المؤتمر الاسلامي، فان انقرة في نشرة اخبار العالم العربي كانت تذكر في الاغلب بمناسبة وقوع حوادث جسيمة (مثل زلزال عام 99) أو نشوء مشكلات مع الجيران العرب متعلقة بالمياه او الاكراد او التعاون العسكري والاستخباراتي مع اسرائيل، وبسبب هذه الاجواء فان محاولة قلب الصفحة، وفتح صفحة جديدة مع العالم العربي عنوانها التعاون وتبادل المصالح، غدت امرا لم يكن في الحسبان، تجاوز توقعات الاوساط السياسية العربية، بل والدبلوماسيين العرب في انقرة ذاتها، وقد سمعت بعضهم يشكون من ان فتور العلاقات بين تركيا والعالم العربي، اصابهم بالاحباط، وهم الذين يرون ان ثمة آفاقا واسعة وفرصا جيدة للتعاون العربي ـ التركي، غير مستغلة للأسف الشديد، استثني من ذلك سوريا التي اصبحت تحتفظ بأنجح علاقات ايجابية مع انقرة، على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث سجلت خلال العامين الماضيين اكبر عدد من زيارات المسؤولين السوريين الى انقرة، كما سجلت اعلى معدل في التبادل التجاري.
العرض الذي قدمه عبد الله غول كان مفاجئا ايضا للنخبة التركية، التي تتجه بأبصارها نحو الغرب منذ ثمانية عقود، ومن ثم علقت مستقبلها على نجاح ارتباطها بأوروبا (رغم ان 97 في المائة من الاراضي التركية تقع في آسيا). وبوجه اخص، فان قادة العسكر والمؤسسة الدبلوماسية التركية يبدون تحفظات على مد الجسور مع العالم العربي، سواء لانهم يرونه أكثر تخلفا أو لانهم يعتبرون ان الالتفات الى العالم العربي والاسلامي يعد تراجعا عن تقاليد الكمالية، حيث لاحظ احد الباحثين ان كلمة «العرب» لم تذكر في البيانات الوزارية في العهد الجمهوري إلا في عام 46، أي بعد مضي 23 سنة من اعلان الجمهورية.
ولعلي لا اذيع سرا اذا قلت ان فكرة زيارة عبد الله غول للعواصم العربية لم ترحب بها الخارجية التركية ذاتها، وكانت نصيحة المؤسسة الدبلوماسية في انقرة تعارض الزيارة، وتعتبرها عبئا على السياسة الخارجية للبلاد، التي تعطي الأولوية لانجاح العلاقات مع اوروبا والولايات المتحدة واسرائىل، ومع ذلك فان رئيس الحكومة، الذي كان قد عمل لثماني سنوات خبيرا في بنك التنمية الاسلامي بجدة، لم يأخذ بالنصيحة، وقام بالزيارة التي تعددت اهدافها كما سبقت الاشارة. وكان ملاحظا ان غول لم يصطحب معه وزير الخارجية يشار ياكيش (الذي ترشحه الشائعات للخروج من الوزارة في أول تعديل، بعد تولي الطيب اردوغان رئاسة الحكومة، حيث يفترض في هذه الحالة ان يعين غول نائباً لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية، ومعروف انه شغل منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية في حكومة اربكان عام 96). والملاحظة الأخرى المهمة في هذا الصدد ان غول اصطحب معه اهم مستشاريه وهو الدكتور احمد داود اوغلي، احد ابرز خبراء الاستراتيجية والعلاقات الدولية، الذي كان قد عمل لبعض الوقت استاذا بالجامعة الاسلامية في ماليزيا.
ماذا كانت ردود الافعال العربية على فكرة التعاون بين انقرة والجامعة العربية؟
قلت ان الجامعة العربية رحبت بالفكرة على لسان أمينها العام، ولم يسمع تعليق من بقية العواصم، باستثناء الاعتراضات التي نقلت على لسان احد الدبلوماسيين العراقيين، الذي وصف الاقتراح بأنه «سخيف» وهاجم تركيا متهما إياها بانتهاك سيادة العراق. وعلى الصعيد الاعلامي فاننا قرأنا لمن كتب مؤيدا للفكرة، ومن كتب ساخرا منها ومن الجامعة العربية، في تعبير عن موقف عدمي مثير للدهشة.
واذ أضم صوتي الى مؤيدي الفكرة فانني الفت النظر الى امور عدة هي:
ـ ان تركيا اذا كانت قد ارتمت صوب الغرب، وذهبت بعيدا في موالاة الاميركيين والاسرائيليين، فان ذلك تم بارادة النخبة المهيمنة التي اعتبرت التحول من الخلافة الى الجمهورية نقطة مفارقة للانتماء العربي والاسلامي، وهي في ذلك كانت معبرة عن مصالحها الذاتية، وليس مصلحة المجتمع الذي يمثل المسلمون 98 في المائة من ابنائه، وقد استطاع المجتمع في الانتخابات الاخيرة ان يطيح بالنخبة السياسية على الاقل، وان يستقدم آخرين اصدق في التعبير عن ضمير وحقيقة المجتمع، وهؤلاء هم الذين جاءوا يمدون يد المودة والتعاون مع العرب، لذلك فان الرسالة في الاقتراح مهمة وجديرة بالرصد.
ـ ان الذين ينتقدون السياسة التركية لهم كل الحق في المآخذ التي يسجلونها عليها لكن الاكتفاء بتسجيل الانتقادات يعد موقفا يفتقد الى المسؤولية، فضلا عن ان استمراره يفسح المجال للآخرين لكي يتغولوا في الساحة التركية كيفما شاءوا، واحسب ان الموقف المسؤول يقتضي من الجهات المعنية في العالم العربي ان تطرح على نفسها السؤال التالي: ماالذي علينا ان نفعله لكي نكبح جماح الاستسلام للسياسات التي تجذب تركيا بعيدا عن العالم العربي، والى مواقع يضر بعضها بالمصالح العربية، علما بأن غيابنا عن الساحة التركية هو افضل هدية نقدمها الى مختلف القوى التي يهمها تكريس المفاصلة أو القطيعة بين الاتراك والعرب خاصة.
ـ في هذا الصدد لا مفر من الاقرار بأنه اذا كان الكماليون قد انتزعوا تركيا من قلب العالم الاسلامي والعربي، فان العرب أكثر من غيرهم يتحملون مسؤولية الاستسلام لتلك القطيعة، ومن ثم المساعدة غير المباشرة على تكريسها، لا استطيع ان اتجاهل في هذا الصدد حقيقة ان الاتراك العثمانيين عاشوا مع العرب طيلة اربعمائة سنة (وهو ما لم يحدث بالنسبة لجارتها ايران مثلا)، ورغم اهمية خلفية التاريخ المشترك والوشائج الدينية، الا ان الاهمية الاستراتيجية لتركيا بالنسبة للعالم العربي تظل عنصرا يحتل الاولوية في الحسابات السياسية، فهي جارة لدولتين عربيتين مهمتين هما سوريا والعراق، وتمثل عمقا استراتيجيا للعالم العربي، وجبهة شمالية لأمنه القومي، وقلعة مشرفة على الشعوب التركية في وسط آسيا، الواصلة الى حدود الصين، في الوقت ذاته فموقعها بين القارتين الآسيوية والأوروبية له أهميته، وما تمثله من ثقل سكاني (70 مليونا) وقوة عسكرية وقدرة اقتصادية، يضفي على أهميتها ابعادا اضافية.
ومن المفارقات اللافتة للنظر في هذا الصدد ان مختلف الاطراف الدولية تدرك اهمية تركيا وتحاول استثمار وضعها الاستراتيجي الحاكم لصالحها، باستثناء العرب، الذين يفترض انهم الأقرب الى تركيا من كل اولئك سواء كانوا اوروبيين أم اميركان ام اسرائيليين.
ـ ازعم في هذا السياق ان حاجة العرب الى تركيا أكبر من حاجة تركيا الى العرب، ولكي اكون دقيقا فانني اقول ان تركيا يمكن ان تظل آمنة وهي بعيدة عن العرب، لكن العرب لا يستطيعون ان يستشعروا الأمن وهم بعيدون عن تركيا، خصوصا اذا ادركنا ان اسرائيل تسعى جاهدة لجذبها إليها، وتوسيع نطاق المصالح المتبادلة في المجالات الزراعية والصناعية والتجارية فضلا عن العسكرية. صحيح ان المسألة الكردية تمثل هاجسا امنياً لتركيا، وملف هذه القضية موزعة اوراقه بين العراق وايران، وسوريا بدرجة أو أخرى، لكن القلق التركي في هذه الحالة معادل لقلق الاخرين، ثم ان القضية بسبيلها الى الحل التدريجي الآن.
ـ اذكر في هذا الصدد بأن المصالح الغربية والاسرائيلية القوية تكدست عبر جهد متواصل استمر عقودا عدة اقلها خمسة عقود بالنسبة لاسرائىل، وعلى العرب اذا ما أرادوا ان يمدوا جسورهم نحو تركيا لكي يقيموا علاقات متوازنة معها، ألا يتوقعوا انجاز ذلك الهدف بين يوم وليلة، ولا بقرار سياسي، وانما عليهم ان يبذلوا بدورهم جهودا حثيثة على مدى فترة غير قصيرة لكي يحصدوا ثمار ما زرعوه.
ـ ربما كان دافع تركيا الى مد يد التعاون مع العرب راجعا الى الاحباط الذي تعاني منه، من جراء مماطلة الاتحاد الأوروبي وتردده في قبولها كعضو في النادي الأوروبي، وربما كان دافعها الى ذلك هو اقتناع حزب العدالة والتنمية بأهمية توثيق العلاقات مع العالم العربي والاسلامي، وهو ما اعلنه رئيس الوزراء في بيانه امام البرلمان، وقد يكون تحركها ذاك مترتبا على العاملين معا، لكن القدر المتيقن ان تركيا ليست مطالبة ولا مضطرة لأن تختار بين الاوروبيين أو العرب، وانما بوسعها ان تمد جسورها على الجانبين دون تعارض ضروري بينهما. وقد فهمت من عمرو موسى ان حواره مع عبد الله غول استقر على تلك الصيغة. اما علاقات تركيا باسرائيل فمن أسف اننا لم نعد قادرين على انتقادها بذات الدرجة من الجرأة والحدة، لأن بعض الدول العربية مضت على ذات الطريق مع اختلاف في الدرجة وليس في النوع.
ـ يظل المجال الاقتصادي هو المرشح بدرجة أكبر من غيره لكي يكون الجسر الذي يمتد بين العرب والاتراك، لان السوق العربية اقرب والمنافسة فيها اقل، بعكس اوروبا التي وان كانت قريبة إلا ان المنافسة فيها اقوى، ومن أسف ان مؤتمرا دعا إليه الاتراك في استنبول عام 2000 لبحث مستقبل التعاون الاقتصادي بين تركيا والعالم العربي (اشتركت فيه 12 دولة عربية) ولكن احدا من الاطراف العربية لم يبد استعدادا لاستقبال الدورة الثانية للمؤتمر، لذلك فانه لم يقدر له ان ينعقد مرة أخرى حيث فتح الباب ولم يدخل أحد.
يبقى السؤال الكبير: ما الذي يستطيع ان يفعله الامين العام للجامعة العربية ازاء ذلك كله؟ ليست عندي اجابة واضحة، لكن ازعم انه الان احوج ما يكون الى التشجيع والمساندة.. صلوا من أجله.