ليس من قبيل المصادفة أن يخرج المسلم من حدث الهجرة إلى حدث عاشوراء، فلا شيء في كون الله تعالى إلا وهو مخلوق بقدَر، ولئن كانت تلك أيام الله، فيا ترى ما حكمة أن يكون يوم عاشوراء هو المناسبة الأولى التي تنتظر المسلم بعد خروجه من أيام الهجرة؟
(1)
لقد كانت الهجرة بداية تأسيس الدولة الإسلامية، والدولة الإسلامية هي الصورة الأخيرة التي ستعطي المثال لأهل الأرض جميعًا، فتثبت لهم أن هذه الرسالة هي رسالة الله الخاتمة لجميع البشر، وأنها قادرة على إنشاء النظام الحضاري الأمثل في عالم البشر، كما هي - في نفس الوقت - قادرة على منح السعادة في الآخرة.
لقد كانت الهجرة تبعث في الوجود {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وكانت عاشوراء تحدد صيغة ومعنى هذه الخيرية، وسر هذا التفوق الذي تميزتْ به الأمة الإسلامية.
لَم يكن الإسلام مجرد منهج تغيير؛ بل كان منهج تطور وتفوق وتميز؛ أي: إنه ليس تغييرًا فقط، وإنما هو تغيير إلى الحال الأفضل، وكان مِنْ ضرورة هذا أن يتعامَل مع ’’الوضع القديم’’ بشكل مختلف.
لقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهلُ الجاهلية يُعَظِّمون يوم عاشوراء، وكانت قريش تصوم هذا اليوم وفيه تكسو الكعبة[1]، وحين قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة رأى اليهود أيضًا يصومون يوم عاشوراء، فسألهم: ((ما هذا؟))، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله نبي إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فأنا أحق بموسى منكم))، فصامه وأمر بصيامه[2]، وفي رواية: ((نحن أولى بموسى منكم))[3].
فعلى هذا كان منهجُ الإسلام في الإصلاح، وبالأحرى منهجه في استلام راية الرسالة الخاتمة وكلمة الله الأخيرة إلى العالمين، منهج يجوز أن نسميه: ’’نحن أوْلَى’’.
فكل خير في هذه الحياة، وإن فعله غيرُنا، فنحن أولى به منهم؛ أي: نحن الأولى بأن نفعله منهم، وتلك الأمة، وبما أنها خير أمة أخرجتْ للناس، فإنها الأحقُّ والأجدر بأن تكون صاحبة اليد العليا والسابقة إلى الخيرات مِن بين كل الأمم، هكذا سجل الله في كتابه مِن صفات المؤمنين؛ {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61].
وحتى إذا كان أول منشأ هذا الخير عند غيرهم، ولذا عبرت الآية بلفظ ’’المسارعة’’؛ أي: إن ثمة منافسين آخرين يسارعون إلى الخير، لكن هذه الأمة أولى بالسبق والتفوق، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه لو دعي إلى مثل حلف الفضول في الإسلام لأجاب[4].
وأول الخير وأرفع المنازل هو ما سنَّه الأنبياء من قبلنا، فنحن أوْلى بكل نبي ممن يدَّعي صلته به وانتسابه إليه، وعلى هذا رفع النبي شعار هذه الأمة: ((نحن أولى بموسى منكم)).
(2)
غير أنه مما يستلفت النظر أنه كان تميزًا بالفعل والعمل، لا بمجرد الدعوى والشعارات، فلم يكد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((نحن أولى))، إلا وأتبع ذلك بالفعل: ’’فصامه - أي: عاشوراء - وأمر بصيامه’’.
إنها ولاية وأحقية يُثبتها العمل، وتترجمها الحركة العملية في واقع الأرض، ولاية لا تكتفي بالشعارات، ولا تتوقف عند أطراف اللسان، وذلك هو المنهج الإسلامي كما تحدث عنه القرآن الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، فلم تكن خيرية وفقط، وإنما كانت الخيرية لأن هذه الأمة تأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
بل لقد كانت هذه الخيرية تسعى نحو التفوُّق على الموروث القديم من خير الجاهلية القديم والمنتسبين إلى الأنبياء، أو على ما عند الأمم الأخرى من خير؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تُعَظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع))[5].
فهنا سعت الأمة - في جيلها الذهبي الفريد - إلى التميُّز عن اليهود والنصارى، فكان أن وجَّههم - صلى الله عليه وسلم - إلى الزيادة في العمل؛ ليتحقق به التميُّز، فسنَّ صيام يوم التاسع من المحرَّم.
وهي حينئذ خيرية مشروطة بالعمل، وولاية وأحقية بحق الفعل، وبحق تغيير الحياة، لا بمجرد الدعوى والكلام، وعلى هذا فإذا لم يكنْ عمل، فليس ثمة خيرية، ولا أحقية، ولا ولاية.
(3)
إن المرء ليشعر بالفخر، كما يشعر بالمسؤولية، وهو يحمل منهجًا يرتفع فوق العصبية والعنصرية والطبقية، وسائر أوصال الجاهليات، لا سبيل في الإسلام إلى الدرجات العلى عند الله وعند الناس إلا بالعمل وبذل الخير، ولا فرق في هذا بين عنصر وعنصر، ولا بين جنس وجنس؛ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} [الحجرات: 13].
في الإسلام تذهب الجاهليات ويبقى معنى الإنسانية، ذلك ما قاله محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله قد أذهب عنكم عبية - كِبْر - الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب))[6].
إنها إنسانية تعالتْ على كل الفوارق بين البشر، وهذا شيء لا نعرف أحدًا أتى بمثله، منذ أفلاطون الذي فلسف لعلو شأن الفلاسفة ذوي العقول، كما فلسف لعبودية الضعفاء، وحتى أيامنا هذه التي سادتها فلسفة ’’الرجل الأبيض’’.
وحيث استقرت لدينا عالمية المنهج الإسلامي، ومساواته بين البشر، واستحقاق الولاية والخيرية فيه بالعمل، فليرنا كل امرئ عمله.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري (1515)، ومسلم (1125).
[2] رواه البخاري (1900)، ومسلم (1130).
[3] رواه البخاري (3727).
[4] رواه البيهقي (13453) وغيره من أصحاب السير، وصححه الألباني؛ انظر: الألباني، ’’صحيح السيرة النبوية’’، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن، الطبعة الأولى ص35، 36.
[5] رواه مسلم (1134).
[6] رواه أبو داود (5116)، والترمذي (3270)، وأحمد (8721)، وصححه الألباني في التعليق على ’’أصحاب السنن’’، وحسنه شعيب الأرناؤوط في التعليق على ’’المسند’’.
*الألوكة
(1)
لقد كانت الهجرة بداية تأسيس الدولة الإسلامية، والدولة الإسلامية هي الصورة الأخيرة التي ستعطي المثال لأهل الأرض جميعًا، فتثبت لهم أن هذه الرسالة هي رسالة الله الخاتمة لجميع البشر، وأنها قادرة على إنشاء النظام الحضاري الأمثل في عالم البشر، كما هي - في نفس الوقت - قادرة على منح السعادة في الآخرة.
لقد كانت الهجرة تبعث في الوجود {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وكانت عاشوراء تحدد صيغة ومعنى هذه الخيرية، وسر هذا التفوق الذي تميزتْ به الأمة الإسلامية.
لَم يكن الإسلام مجرد منهج تغيير؛ بل كان منهج تطور وتفوق وتميز؛ أي: إنه ليس تغييرًا فقط، وإنما هو تغيير إلى الحال الأفضل، وكان مِنْ ضرورة هذا أن يتعامَل مع ’’الوضع القديم’’ بشكل مختلف.
لقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهلُ الجاهلية يُعَظِّمون يوم عاشوراء، وكانت قريش تصوم هذا اليوم وفيه تكسو الكعبة[1]، وحين قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة رأى اليهود أيضًا يصومون يوم عاشوراء، فسألهم: ((ما هذا؟))، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله نبي إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فأنا أحق بموسى منكم))، فصامه وأمر بصيامه[2]، وفي رواية: ((نحن أولى بموسى منكم))[3].
فعلى هذا كان منهجُ الإسلام في الإصلاح، وبالأحرى منهجه في استلام راية الرسالة الخاتمة وكلمة الله الأخيرة إلى العالمين، منهج يجوز أن نسميه: ’’نحن أوْلَى’’.
فكل خير في هذه الحياة، وإن فعله غيرُنا، فنحن أولى به منهم؛ أي: نحن الأولى بأن نفعله منهم، وتلك الأمة، وبما أنها خير أمة أخرجتْ للناس، فإنها الأحقُّ والأجدر بأن تكون صاحبة اليد العليا والسابقة إلى الخيرات مِن بين كل الأمم، هكذا سجل الله في كتابه مِن صفات المؤمنين؛ {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61].
وحتى إذا كان أول منشأ هذا الخير عند غيرهم، ولذا عبرت الآية بلفظ ’’المسارعة’’؛ أي: إن ثمة منافسين آخرين يسارعون إلى الخير، لكن هذه الأمة أولى بالسبق والتفوق، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه لو دعي إلى مثل حلف الفضول في الإسلام لأجاب[4].
وأول الخير وأرفع المنازل هو ما سنَّه الأنبياء من قبلنا، فنحن أوْلى بكل نبي ممن يدَّعي صلته به وانتسابه إليه، وعلى هذا رفع النبي شعار هذه الأمة: ((نحن أولى بموسى منكم)).
(2)
غير أنه مما يستلفت النظر أنه كان تميزًا بالفعل والعمل، لا بمجرد الدعوى والشعارات، فلم يكد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((نحن أولى))، إلا وأتبع ذلك بالفعل: ’’فصامه - أي: عاشوراء - وأمر بصيامه’’.
إنها ولاية وأحقية يُثبتها العمل، وتترجمها الحركة العملية في واقع الأرض، ولاية لا تكتفي بالشعارات، ولا تتوقف عند أطراف اللسان، وذلك هو المنهج الإسلامي كما تحدث عنه القرآن الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، فلم تكن خيرية وفقط، وإنما كانت الخيرية لأن هذه الأمة تأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
بل لقد كانت هذه الخيرية تسعى نحو التفوُّق على الموروث القديم من خير الجاهلية القديم والمنتسبين إلى الأنبياء، أو على ما عند الأمم الأخرى من خير؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تُعَظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع))[5].
فهنا سعت الأمة - في جيلها الذهبي الفريد - إلى التميُّز عن اليهود والنصارى، فكان أن وجَّههم - صلى الله عليه وسلم - إلى الزيادة في العمل؛ ليتحقق به التميُّز، فسنَّ صيام يوم التاسع من المحرَّم.
وهي حينئذ خيرية مشروطة بالعمل، وولاية وأحقية بحق الفعل، وبحق تغيير الحياة، لا بمجرد الدعوى والكلام، وعلى هذا فإذا لم يكنْ عمل، فليس ثمة خيرية، ولا أحقية، ولا ولاية.
(3)
إن المرء ليشعر بالفخر، كما يشعر بالمسؤولية، وهو يحمل منهجًا يرتفع فوق العصبية والعنصرية والطبقية، وسائر أوصال الجاهليات، لا سبيل في الإسلام إلى الدرجات العلى عند الله وعند الناس إلا بالعمل وبذل الخير، ولا فرق في هذا بين عنصر وعنصر، ولا بين جنس وجنس؛ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} [الحجرات: 13].
في الإسلام تذهب الجاهليات ويبقى معنى الإنسانية، ذلك ما قاله محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله قد أذهب عنكم عبية - كِبْر - الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب))[6].
إنها إنسانية تعالتْ على كل الفوارق بين البشر، وهذا شيء لا نعرف أحدًا أتى بمثله، منذ أفلاطون الذي فلسف لعلو شأن الفلاسفة ذوي العقول، كما فلسف لعبودية الضعفاء، وحتى أيامنا هذه التي سادتها فلسفة ’’الرجل الأبيض’’.
وحيث استقرت لدينا عالمية المنهج الإسلامي، ومساواته بين البشر، واستحقاق الولاية والخيرية فيه بالعمل، فليرنا كل امرئ عمله.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري (1515)، ومسلم (1125).
[2] رواه البخاري (1900)، ومسلم (1130).
[3] رواه البخاري (3727).
[4] رواه البيهقي (13453) وغيره من أصحاب السير، وصححه الألباني؛ انظر: الألباني، ’’صحيح السيرة النبوية’’، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن، الطبعة الأولى ص35، 36.
[5] رواه مسلم (1134).
[6] رواه أبو داود (5116)، والترمذي (3270)، وأحمد (8721)، وصححه الألباني في التعليق على ’’أصحاب السنن’’، وحسنه شعيب الأرناؤوط في التعليق على ’’المسند’’.
*الألوكة