مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الجزائر: أزمة شفافية لا أزمة تاريخ
هويدي 12-3-2001

استغرب الضجة المثارة حول كتاب «الحرب القذرة»، الذي تحدث عن ضلوع الجيش في المذابح التي شهدتها الجزائر، فالخبر ليس جديداً، وما قاله مؤلفه الضابط حبيب سوايدية وثّق ما كان معلوماً، وأضاف شهادة ربما أكثر تفصيلا الى سجل الشهادات التي توافرت منذ عام 1997، ونشرتها كبريات الصحف الفرنسية والانجليزية. وأغلب الظن ان شهادة سوايدية حين جاءت في كتاب، حفل بالوقائع والتفاصيل الصغيرة، التي قد لا تعبأ بها أو تحتملها التقارير الصحفية، فإن ذلك منحه فرصة واسعة لتداوله، وإثارة النقاش حوله في أوساط المثقفين الفرنسيين، الأمر الذي كان له صدى تناقلته وعممته وكالات الأنباء، مما استنفر عسكر الجزائر وعناصر النخبة المحيطة بهم والمؤيدة لدورهم الاستئصالي.
دور الجيش في العنف هو السر المعلن في الجزائر ذاتها، بمعنى ان قصصه متداولة همساً على كل لسان، ولكن أحداً لا يستطيع أن يجهر به، لسبب جوهري، وهو ان القادة الذين أداروا تلك العمليات ما يزالون في مواقعهم الى الآن، إما بشخوصهم وإما بامتداداتهم، وقد سمعت بأذني العديد من القصص في العاصمة الجزائرية، التي حذرني قائلوها من نسبتها إليهم من أي باب، ومنهم من استحلفني بعدما ائتمنني على ما قال. ومن المفارقات الدالة في هذا الصدد ان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ناله من هذا الدور نصيب، حين كان في المعارضة، وأرادت جهات معينة في الدولة ان تبعث إليه برسالة تحذير وتهديد، فخُطف ابن شقيقه عام 1987، ولم يظهر له أثر حتى الآن، وقد تسلم بوتفليقة الرسالة وغادر بعدها الجزائر الى باريس، ثم استقر به المقام في أبوظبي.
تمت عملية الخطف والتخلص من الشاب قبل اندلاع العنف، وقبل أن تظهر في الأفق الجماعات المسلحة، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في أن الخاطف صاحب المصلحة لم يكن سوى الأجهزة الأمنية العاملة في إطار المؤسسة الحاكمة، ولك أن تتصور ان ذلك لم يكن وضعاً استثنائياً بحال، ولكن عمليات الخطف والتصفية، كانت وما زالت، من الأساليب المتبعة مع المعارضين والخصوم.
أثناء زيارتي للجزائر عام 1999 دعيت للعشاء مع بعض أعضاء البرلمان، وأثير موضوع العنف والجهات التي تقف وراءه، وكان الرأي السائد بين الجالسين وأغلبهم من أهل النظام، ان الجماعات هي مصدر كل الشرور التي حاقت بالبلاد، وحينئذ رويت لهم قصة ما جرى لابن شقيق الرئيس بوتفليقة، وقلت: اذا وافقنا على ان الجماعات هي مصدر العنف الآن، فمن الذي كان يقوم بتصفية الناس قبل ظهورها؟
سكتت الأغلبية، والذين تكلموا لم يقولوا شيئاً مقنعاً، لكن بعضهم توجه بعد العشاء مباشرة الى مقر الرئيس بوتفليقة ونقلوا الكلام الذي قلته، ولانني كنت آنذاك ضيفاً على رئاسة الجمهورية، فقد تلقيت في اليوم التالي اشارة دبلوماسية رقيقة، خلاصتها انه بسبب دقة الموضوع، وحساسية موقف الرئيس الذي كان في بداية عهده، فانه يفضل عدم ذكر قصة أو ملابسات اختطاف ابن شقيقه وتصفيته، وطي تلك الصفحة في الوقت الراهن.
قبل اسبوعين نشرت الصحف تصريحات لأرملة الرئيس الأسبق محمد بوضياف، في ذكرى مصرعه، قالت فيها صراحة ان الضابط مبارك بومعرافي الذي اتُهم بقتله ليس هو القاتل الحقيقي، ودللت على ذلك بقولها ان التقرير الطبي اثبت ان بوضياف تلقى رصاصات في ظهره، بينما بومعرافي كان يقف أمامه، الأمر الذي أرادت به أن تشير ضمناً الى ان الرجل كان ضحية تصفية من داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، وليس من خارجها، وان الشاب الذي ألقي القبض عليه لم يكن سوى كبش فداء.
ليست جديدة أيضاً المقولة التي أوردها مؤلف كتاب «الحرب القذرة»، وردد فيها ان لكل دولة جيشا، ولكن الجيش في الجزائر له دولة، فتلك من العبارات الشائعة التي تشخص الوضع الجزائري بدقة، والمتداولة في أدبيات وتعليقات عديدة، ذلك انه منذ الاستقلال والجيش هو القوة السياسية الحقيقية صاحبة القرار في الجزائر، ولذلك لم يكن غريباً ولا مفاجئاً ان تقرر قيادته النزول بالدبابات الى الشوارع وإجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة عام 1989، حينما ظهرت النتائج الأولى للانتخابات، وبدا ان كفة الجبهة الاسلامية للانقاذ هي الراجحة، الأمر الذي كان يعني كسر احتكار العسكر للسلطة، أو على الأقل منازعتهم على سلطانهم المفترض. ومن دون الدخول في تفاصيل الاحداث التي وقعت أو تم افتعالها آنذاك، فان القيادة العسكرية لم تكن مستعدة لان تسمح لأي قوة سياسية أخرى، اسلامية أو غير اسلامية، بأن تنهي احتكارها للسلطة، لان المسألة اصبحت بالنسبة للمنتفعين من ذلك الاحتكار مسألة حياة أو موت. ومن ثم فرفع شعار الاستئصال والسعي الى ترويع المجتمع الجزائري، الذي صوتت أغلبيته لصالح الجبهة الاسلامية للانقاذ، كانا من التداعيات المفهومة في هذا السياق، فبالاستئصال يتم قمع الطرف المنافس، وبالترويع تتزايد الحاجة الى الاحتماء بالجيش والبحث عن الأمن في رحابه.
أثناء حملة الانتخابات الرئاسية قال الرئيس بوتفليقة ان نزول الجيش الى الشوارع بعد ظهور نتائج الانتخابات كان عنفاً، الأمر الذي انتج عنفاً مضاداً، وأشعل الحريق في البلاد كلها في وقت لاحق، ورغم ان بوتفليقة لم يردد هذا الكلام بعد انتخابه، أو حاول التخفيف من معناه لأسباب وحسابات مفهومة، إلا ان اشارته كانت صحيحة، وأغلب الظن انه أعلنها أثناء حملته الانتخابية لكي يدلل على مصداقيته أمام الناس، الذين كانوا يعرفون جيداً ان أجهزة الأمن ضالعة في العنف.
في شهر سبتمبر (ايلول) عام 1997، نشرت «لوفيجارو» الفرنسية حواراً مع برونو ايتيان، أحد أبرز المختصين بشؤون المغرب في مركز البحوث العلمية بباريس، ذكر فيه انه من بين كل أربعة حوادث قتل في الجزائر، هناك ثلاثة ترتكبها أجهزة السلطة، وفي شهر اكتوبر (تشرين الاول) من العام ذاته نشرت «الصنداي تايمز» البريطانية تقريراً كتبه جون فيليبس، كان عنوانه «الجيش ضالع في المذابح»، وفي شهر يناير (كانون الثاني) عام 1998 نشر جون سويتي تقريراً في «الاوبزرفر» البريطانية تحت عنوان «دور الشرطة في مذابح الجزائر». ونشرت مجلة «نيوزويك» تعليقاً حول الموضوع، اختارت له عنواناً دالاً يلخص المشهد هو «انهم الجنرالات أيها الغبي!».
في الشهر ذاته كتب مايكل ديليس في «الاوبزرفر» تحليلا حاول به تفسير اشتراك أجهزة السلطة في العنف الدائر بالبلاد، فقال ان قيام الأجهزة الأمنية بهذا الدور له أربعة أسباب، فهي من ناحية تطبق شعار «إرهاب الإرهاب»، أي قتل القتلة وعائلاتهم ومؤيديهم والمتعاطفين معهم، ثم تنتهز الفرصة وتصفي خصومها، وتلصق التهمة بالجماعات المسلحة. ومن ناحية ثالثة فانها تشوه صورة دعاة التوجه الاسلامي وتخيف الناس منهم، لكي ينفضوا من حولهم. أخيراً فان الحفاظ على درجة معينة من التوتر والعنف في البلاد يصرف الأنظار، خصوصاً في الخارج، عن سلسلة المصالح المالية المشبوهة، التي يديرها قادة العسكر، وأحياناً يتصارعون في ما بينهم للاستئثار بأكبر عائد منها. وكانت بعض الصحف الفرنسية قد تحدثت عن بعض جوانب ذلك الصراع، الذي انصب حول عائدات النفط والغاز. وفي مقدمة تلك الصحف «لوجورنال دو ديمونش» و«لوفيجارو».
هكذا، فان ما كان متداولا ومعلوماً في الداخل ومحاطاً بالكتمان، ذاع أمره وتسربت أخباره الى الخارج، خصوصاً حينما أتيح لبعض عناصر الجيش والأمن أن يهربوا خارج البلاد، ويلجأوا الى فرنسا وانجلترا بوجه أخص، وحين شعر هؤلاء بالأمان، كشفوا المستور، وفضحوا دور الأجهزة في ما جرى ويجري.
لقد سكتت الجزائر الرسمية، ولم ترد على الضجة التي أحدثها كتاب «الحرب القذرة» في فرنسا، ولكن الذي استنفر وهاج وماج هما طرفان يمثلان وجهين للنظام القائم، الأول هو قيادة العسكر ممثلة في الفريق محمد العماري رئيس الاستخبارات السابق الذي وجه الى القوات المسلحة بياناً في هذا الصدد بثته وكالة الأنباء الجزائرية، وصف الضجة بأنها مؤامرة استهدفت تشويه سمعة السلطات الجزائرية وجيشها الوطني، ومحاولة لضرب التلاحم بين الجيش والشعب، وهو رد فعل طبيعي.
الطرف الثاني الذي عبر عن الغضب وسارع الى الرد والهجوم كان المعسكر الفرنكفوني عالي الصوت في الاعلام الجزائري وفي المجلس التشريعي (البرلمان)، ذلك انه رغم التباينات بين فصائل ذلك المعسكر، وأياً كانت الخلافات بينهم وبين قادة الجيش، فالقاسم المشترك الأعظم بين الجميع هو العداء لمجمل التوجه الاسلامي، والاصرار على اقصائه واستئصاله، للاستفراد بالساحة الجزائرية، ومعلوم ان الفرنكفونيين كانوا الأكثر حماساً واحتفاء بإجهاض التجربة الديمقراطية في البلاد، لانهم كانوا الطرف الخاسر في الانتخابات.
ثمة نقطة ينبغي ألا تغرب عن البال في الحديث عن ضلوع قيادة الجيش في حمام الدم الذي أُغرقت فيه الجزائر، وهي ان أية أضواء تلقى على ذلك الجانب، ينبغي ألا تبرئ ساحة المجموعات الإرهابية التي نسبت نفسها الى العمل الاسلامي، فدور تلك الجماعات ثابت ولا سبيل الى انكاره أو التغاضي عنه، واذا كنت لم أشر إليه في بداية الكلام فلأنه معلوم ولا يحتاج الى تدليل، ولا اضافة فيه، ولكن الذي لا يزال محل جدل وانكار من جانب بعض السياسيين والنخب العلمانية والفرنكفونية، رغم تواتر الشهادات الدالة عليه، هو دور قادة الجيش وأجهزة الأمن في تفجير العنف واذكائه، لحسابات لم تكن المصلحة الوطنية العليا بينها.
لسنا بصدد قضية تاريخية كما يبدو لأول وهلة، وإنما وثيقة الصلة بمشكلة الشفافية التي هي جوهر الأزمة الجزائرية المستمرة الى الآن، بما فيها من عنف وتوتر أهلي واختناق اقتصادي وتصدع اجتماعي، هي مشكلة الانسداد السياسي والتردي الاقتصادي الناشئين عن اصرار قادة الجيش والأمن على احتكار السلطة والثروة، وما يستصحب ذلك من اشاعة للإحباط والفساد في المجتمع.
ان القوى التي تصر على كتابة التاريخ على هواها في الجزائر، هي ذاتها التي تريد ان تصوغ الحاضر تبعاً لذلك الهوى، وهو ما نجد تعبيراً نموذجياً عنه في الرسالة الأخيرة، التي وجهها الفريق العماري رئيس الأركان، الى القوات المسلحة والشعب الجزائري، وذكر فيها ان الذين تحدثوا عن ضلوع أجهزة الأمن في المذابح، لا يريدون للجزائر ان تعود الى درب الازدهار والوحدة الوطنية والديمقراطية الذي تنعم به البلاد الآن.
(لا تعليق!)
أضافة تعليق