مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
أين السلام الذي يخشى عليه من شارون؟
هويدي 12-2-2001

أكثر الأكاذيب رواجاً هذه الأيام هي تلك التي تدعي أن انتخاب ارييل شارون رئيساً للوزراء في اسرائيل سوف يؤدي الى توقف مسيرة السلام، ومن ثم سيهدد بتقويض المكاسب التي حصلها الفلسطينيون، أو تلك التي كان ممكناً أن يحصلوا عليها اذا ما قدر لايهود باراك أن يبقى في الحكم.
فليس صحيحاً على الاطلاق أن المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، في كل مراحلها، يمكن أن توصف بأنها مسيرة سلام، والانتفاضة التي حدثت بعد مضي سبع سنوات من المسيرة الميمونة «شاهد ملك» ـ كما يقال ـ يقطع بما لا يدع مجالاً للشك، بأن ما كان جارياً هو تسوية وليس سلاماً. فالسلام يقوم على موازين الحق، بينما التسوية تحكمها موازين القوة. ومعلوم أن الذي يجري كان أبعد ما يكون عن احقاق الحق.
أذهب الى ما هو أبعد، وأزعم أن ايهود باراك حينما فتحت ملفات التسوية النهائية أعلنها حرباً على الفلسطينيين. فهي من ناحية استهدفت ارغامهم على التنازل عن السيادة والقضاء والطرق وأرضهم في غور الأردن، والابقاء على الكتل الكبرى من المستوطنات التي تستوعب 80% من المرتزقة والمستوطنين، وفوق ذلك فانه اراد أن يرغمهم على التنازل عن المسجد الأقصى والقدس، وعن حق العودة، ثم يلزمهم في النهاية بالتوقيع على انهاء الصراع الدائر منذ قرن من الزمان.
من ناحية ثانية فان تعامل حكومة باراك مع الانتفاضة لم يكن ممكناً وصفه بأقل من أنه حرب حقيقية، استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والصواريخ والطائرات. وحين وصفت القمة العربية القمع الاسرائيلي للانتفاضة بأنه عملية حربية، وقالت القمة الاسلامية ان ذلك القمع بمثابة حرب على الفلسطينيين، فان القمتين لم تجاوزا الحقيقة، وانما أشارتا اليها بصراحة ووضوح.
ان الحرب الاسرائيلية التي استخدمت الاكراه والتخويف من ناحية، والصواريخ والدبابات والاغتيالات من ناحية ثانية، تلك التي لجأ اليها باراك وسابقوه، لن تختلف في جوهرها كثيراً عن تلك التي يتوقعها كثيرون في ظل حكومة شارون، حتى وإن اختلفت قليلاً في مداها. واذا صح ذلك، فلسنا نجد مبرراً للأسف على رحيل باراك، أو للأسى على توقف مسيرة التسوية أو تعثرها.
أما القلق من مجيء شارون، فما زلت عند رأيي الذي سجلته في الأسبوع الماضي، وقلت فيه ان ذلك القلق مبالغ فيه الى حد كبير، بل وأضيف أنه تعبير عن الضعف وافتقاد الثقة.
يدهش المرء أيضاً حين يتابع تعليقات البعض وتصريحات البعض الآخر التي تزعم أن باراك كان «فرصة» لم يستثمرها العرب جيداً، وان الرجل عرض على العرب ما لم يسبقه اليه أحد من أسلافه. وهي مزاعم ليست وليدة الساعة، وانما سمعنا بها بعد فشل لقاء «كامب ديفيد ـ 2 »، للضغط على الفلسطينيين ودفعه الى القبول بما عرضه باراك، وبما عرضه في وقت لاحق الرئيس كلينتون. ولم تفلح تلك الحيل في حينها، بعدما تبين أن كل ما هو معروض، حتى اذا كان فيه جديد، لا يلبي الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، وان غاية ما كان مطلوباً آنذاك ان يوقع الفلسطينيون، لكي يخرج كلينتون بطلاً ويحصل على جائزة نوبل للسلام التي تطلع اليها، وان يبدو باراك الزعيم المنجز الذي يستحق الفوز برئاسة الحكومة في الانتخابات الاسرائيلية.
باراك لم يتنازل عن شيء للفلسطينيين، وقد وجدت ان ما كتبه الاستاذ بلال الحسن في هذا المعنى دقيق ومنصف، حيث ذكر أن الرجل تنازل حقاً، ولكنه تنازل عن مطالب المتطرفين اليهود، وتنازل عن بعض مطالب المستوطنين، وتنازل عن مطالب المنادين بأرض اسرائيل الكبرى، اسرائيل التوراتية، ولكنه لم يتنازل أمام مطالب الفلسطينيين، ولذلك فان مشكلة باراك الحقيقية هي مع يهود اسرائيل، مع اليهود المتطرفين والمستوطنين، الذين تنامت قوتهم وعلت أصواتهم خلال السنوات الأخيرة، لأن استجابته لهم لم تكن على النحو الذي تمنوه.
أيضاً كان الأستاذ منير شفيق موفقاً حين تحدث عن باراك وشارون وحزبيهما. وقال انه من خلال التجربة العملية فان باراك وقف عند آخر تخوم التشدد، بما يتعدى شارون نفسه. ظهر ذلك جلياً حينما طرح باراك في «كامب ديفيد - 2» مسألة السيادة الاسرائيلية على ما أسماه بجبل الهيكل. وكان أول مسؤول اسرائيلي يطالب في صورة رسمية بالسيادة على أرض الحرم القدسي الشريف. وقد جاءت زيارة شارون للحرم في ذيل ذلك الموقف الاسرائيلي، حتى بدا وكأنه يلهث وراء باراك.
لقد كشفت خبرة السنوات السبع الماضية، التي أعقبت توقيع اتفاق أوسلو، ان حزب العمل هو من صمم هذا الاتفاق الكارثي، الذي هبط حتى عن السقف العربي، بل فرض على هذا السقف أن يهبط الى مستواه. وحزب العمل هو من ضاعف الاستيطان، وحفر النفق تحت المسجد الأقصى، وقطع أوصال الضفة الغربية، ووضع القيود الخانقة على السلطة الفلسطينية.
وأخيراً وليس آخراً، فهو صاحب نظرية القدس الموحدة عاصمة للدولة العبرية، حتى ان المرء لا يكاد يجد سيئة حلت بالوضع الفلسطيني أو القضية الفلسطينية، الا وكان حزب العمل صاحبها أو يقف وراءها، ولم يبق لنتنياهو سابقاً أو شارون لاحقاً الا أن ينسج على منواله، مع مكر أقل، وقدرة أضعف على التنفيذ و«التطوير».
الأمر يبدو أكثر وضوحاً اذا ما قارنا بين الحزبين في مجال الحرب. اذ يكفي أن يكون بيريز خلال السنوات السبع الماضية هو صاحب عدوان «عناقيد الغضب» وارتكاب مذبحة قانا، ويكون باراك، الذي ظل يفخر بأنه من قتل بيده القادة الفلسطينيين الثلاثة في بيروت، هو بطل اطلاق النار على شباب الانتفاضة بقصد القتل مع سبق الاصرار والترصد، وهو بطل اغتيالات كوادر الانتفاضة، وهو الذي كاد يشن عدوانا كبيراً على لبنان، تنفيذاً للتهديد الذي نقله على لسانه وزير خارجيته ديفيد ليفي، بحرق أرض لبنان.
أذكِّر هنا بما قاله باراك وهو رئيس للوزراء، في اجتماع سري عقد بمقر وزارة الدفاع في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بعد أربعة أسابيع من بدء الانتفاضة، وهو الاجتماع الذي حضره ممثلو النخبة العسكرية والسياسية والأمنية للدولة العبرية، وشارك فيه شارون بوصفه زعيماً لليكود، ضمن ثلاثة من زعماء المعارضة اليمينية، وتسرب ما قيل فيه الى مجلة «نثيف» العبرية، ذات الصلة بالأوساط اليمينية.
قال باراك كلاماً كثيراً مهماً للغاية في ذلك الاجتماع، يعنينا في السياق الذي نحن بصدده قوله انه ورث بعد فوزه في الانتخابات سياسة أرض محروقة، خلفها بنيامين نتنياهو، ذلك ان حكومة اسحاق رابين، الذي وصفه بأنه استاذه ومعلمه، لم تنقل لمنظمة التحرير الفلسطينية سوى 40% فقط من أراضي الضفة الغربية. وشملت تلك المساحة كل التجمعات الكبيرة للسكان العرب. وقد كانت تلك الأراضي معزولة عن بعضها البعض، ولا تتوافر أي امكانية للربط الاقليمي فيما بينها. وقد قامت بالفعل بين تلك التجمعات معسكرات الجيش الاسرائيلي ومواقع الاستيطان اليهودي. في الوقت ذاته فان رابين عارض بشدة اقامة كيان عربي (يقصد فلسطيني) مستقل في أرض اسرائيل (!) ـ ورأى في ذلك كارثة قومية لاسرائيل. ومافتئ رابين يردد آنذاك أن دولة فلسطينية لن تقوم الا على أنقاض اسرائيل.
ذكر باراك ان مشروع رابين الحقيقي لم يكن يستهدف أكثر من اقامة حكم ذاتي عربي في قضية منفصلة اقليمياً، لتحقيق هدفين هما: فصل معظم السكان العرب في الضفة الغربية عن اسرائيل، بما يقلص الى حد كبير أي تهديد أمني لها، ثم سد الطريق أمام امكانية قيام دولة فلسطينية في المستقبل.
أضاف باراك بعد أن عرض مشروع رابين ومخططه، ان هذا السيد نتنياهو هو الذي باع للفلسطينيين في اتفاقية واي ريفر 92% من مساحة «يهودا والسامرة». وبذلك أتاح عن طريق التواصل الاقليمي بين جيوب الحكم الذاتي فرصة اقامة دولة فلسطينية. وبخطوته تلك فانه واصل تقاليد الكوارث التي جلبها على شعب اسرائيل مناحم بيجن في كامب ديفيد الأولى، واسحاق شامير في مدريد. بل انه في وجود نتنياهو تم توقيع اتفاق الخليل، الذي بمقتضاه تمت اقامة الجيتو الأول في أرض اسرائيل.
في هذه الكلمات بدا جلياً ان باراك «المعتدل واليساري» يقف في حقيقة الأمر الى يمين حزب الليكود. ليس هذا فحسب، وانما ينعى على الليكود تفريط قادته في «أرض اسرائيل». ويعتبر أن نتنياهو حين وافق على تسليم السلطة الفلسطينية 92% من الضفة الغربية، فانه جلب كارثة على اسرائيل، لأن رابين لم يكن ليسمح بتسليمهم أكثر من 40%، ولم يكن يسمح باقامة دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل.
الآن يأتي شارون ويتحدث عن اعطاء الفلسطينيين نفس النسبة التي قدرها رابين، محاولاً السير على الدرب الذي رسمه رئيس الحكومة العمالية الأسبق، الذي لا يزال البعض في بلادنا يصفونه بحسبانه رجل السلام والشريك الذي شق الطريق الى «سلام الشجعان». وهذا التوافق ليس مصادفة في حقيقة الأمر، ولكنه كاشف عن احدى حقائق السياسة الاسرائيلية التي كان فيها حزب العمل هو المناور الأكثر حيلة ودهاء، والأشد مكراً، الذي كان يرسم الطريق ويفتحه، لكي يأتي الليكود بعده، فيندفع في الطريق المرسوم، ويحقق المراد من المخطط الموضوع، أحياناً ببعض الضجيج والشطط، الذي لا يخل بالهدف ولا يخطأه . وهو ما يعني لنا ـ للمرة الألف ربما ـ أن حكاية اليمين واليسار والتطرف والاعتدال وباراك وشارون هي شأن اسرائيلي داخلي من صميم اللعبة السياسية الاسرائيلية، لا علاقة له بجوهر الصراع وثوابته، التي يلتزم بها الجميع بدون استثناء.
أضافة تعليق