هويدي 11-12-2000
يحسب للانتفاضة لا ريب انها نجحت في استدعاء المواطن العربي المطرود من السياسة أصلا الى ساحة الفعل السياسي، حتى اصبح احد اهم الاسئلة المثارة في الشارع العربي طيلة الشهرين الماضيين السؤال: ما الذي علينا أن نفعله للتضامن مع الانتفاضة وشد ازرها، بينما كانت هناك شواهد قوية في السابق تدل على ان الشارع العربي بدا ينفض من حول القضية الفلسطينية، بفعل عوامل يطول شرحها.
ما ان طرح السؤال ماذا نفعل حتى كانت فكرة «المقاطعة» واحدة من ابرز الاجابات التي فرضت نفسها على الجميع، وصارت موضع جدل مشهود لم يتوقف في مختلف العواصم والمنابر، وعلى صفحات «الشرق الاوسط» تعددت المساهمات التي تناولت الموضوع من مختلف جوانبه، مشككة في جدوى المقاطعة احياناً، وداعية الى وجوبها في حين واحدة، الأمر الذي شجعني على محاولة التفكير مع غيري في الموضوع، مع التعقيب على بعض ما قيل في صدده.
رغم تباين وجهات النظر الى حد التضاد الكامل في بعض الحالات، فاحسب ان ثمة نقاطاً كانت محل اتفاق الجميع ـ تقريباً ـ هي:
* ان التحدي الاسرائيلي بلغ مدى يتعذر السكوت عليه، خصوصاً بعدما تم تدنيس المسجد الأقصى، وبعدما اصبحت السيادة على المسجد والحرم الشريف مطلباً اسرائيلياً، الأمر الذي لم يخطر على بال أحد يوماً ما، وهو ما يمس مقدسات الأمة بأسرها ويستهدف اذلالها وكسر ارادتها.
* ان تضامن الأمة الاسلامية في هذا الموقف اصبح على المحك، ولم يعد هناك خلاف على انه واجب وفرض عين، وكل الشواهد تدل على استجابة الأمة لنداء الواجب وانها مستعدة لان تذهب في ذلك الى أبعد مدى ممكن، لذلك فمن المهم للغاية تفتح امامها السبل الكفيلة بتمكينها من القيام بواجبها.
* ان الانتفاضة جسدت الغضب الفلسطيني بقدر ما غدا استمرارها أملا للشعوب العربية والاسلامية، والاعراب عن التضامن معها بموقف عربي واسلامي واضح هو أحد العوامل التي تكفل الاستمرار المنشود.
* ان مقاطعة البضائع ورؤوس الأموال الاسرائيلية، وقطع كل علاقات دبلوماسية أو تجارية مع اسرائيل أصبح من الأمور المفروغ منها، وغير المختلف عليها.
هكذا فإن الخلاف منحصر في موضوع مقاطعة البضائع الاميركية، هل يمكن وما هو جدواه وهدفه. والذي أثار موضوع البضائع الاميركية ليس مجرد الضيق بالسياسة الاميركية والتحيز المستمر لاسرائيل، الذي يستشعره كل مواطن عربي منذ تأسست اسرائيل، ولكن هناك ما هو أبعد، ذلك ان الدعم الاميركي الذي وصل الى حد تبني كل المطالب الاسرائيلية وتأييد القمع والبطش الاسرائيليين، والضغط المستمر على الفلسطينيين والرئيس عرفات لكي يستجيبوا لما تريده اسرائيل، حتى في المسجد الاقصى، هذا المدى من الدعم صدم الرأي العام العربي، والفلسطيني في المقدمة منه، وهو ما يدعونا الى القول بأن الانتفاضة الراهنة ليست ضد اسرائيل وحدها، ولكنها ضد الولايات المتحدة أيضاً، التي اصبحت شريكة في تنفيذ المخطط الصهيوني الاستيطاني، ودورها الحقيقي في عملية السلام كشف الستار عن حقيقة وتفصيلات تلك الشراكة.
هذا البعد لم يكن بتلك الدرجة من الوضوح في انتفاضة عام 87، ربما بسبب التوازنات الدولية التي كانت سائدة آنذاك، خصوصاً في ظل وجود الاتحاد السوفيتي. ربما لهذا السبب فإن شعار مقاطعة البضائع الاميركية لم يشهر آنذاك، وظلت الادانة العربية للسياسة الاميركية هي السمة المعلنة، وسواء بسبب ايغال الادارة الاميركية في تأييد اسرائيل، أو لان الأمة العربية ادركت ان مقدساتها قد مست وأهينت، فالشاهد ان الغضب العربي لم يستثن الولايات المتحدة، وتعامل معها باعتبارها شريكا في الاغتصاب والعدوان.
لقد شكك البعض في مبدأ المقاطعة ودعوا الى استبعاده واستبدال وسائل أخرى به، وكان الدكتور غازي القصيبي أحد الذين اقترحوا بعض تلك الوسائل، وطرح في هذا الصدد افكاراً ممتازة جديرة بالاعتبار، من تخصيص دولار من سعر كل برميل نفط يباع لصالح فلسطين، الامر الذي تبلغ حصيلته 15 مليون دولار يومياً، الى ان يتبرع كل مواطن براتب يوم من أجره شهرياً، الى اقامة صندوق لدعم «اللوبي» العربي المحتقر في اميركا، الى تدبير فرص عمل للفلسطينيين الذين يضطرون للاعتماد على العمل في اسرائيل.
وإذ يتمنى المرء ان تؤخذ تلك الافكار على محمل الجد، وان تجد من يتبناها ويبحث في كيفية تنفيذها، إلا ان لي ملاحظتين عليها; الأولى انه يطرحها بديلا عن المقاطعة، بينما ليتها تبحث جنباً الى جنب مع المقاطعة، لتكثيف الضغط وضمان الفاعلية، والثانية انها تعتمد على اجراءات تقوم بها الحكومات، بينما محور الحديث هو المقاطعة الشعبية، هو دور الشعوب الغاضبة التي تريد ان تفعل شيئاً تتضامن به مع الانتفاضة، في وقت تبدو فيه أكثر الابواب موصدة في وجوهها، بصورة أو أخرى.
هذا الخلط بين دور الشعوب ودور الحكومات والانظمة دفع معارضي المقاطعة الى القول باستحالتها في الظروف الراهنة، التي لا تحتاج الى شرح. وبسبب ادراك تلك الظروف فإن اغلب دعاة المقاطعة لم يتحدثوا عن وقف ضخ البترول أو منع استيراد السلاح أو عدم شراء قطع غيار طائرات النقل، أو غير ذلك من الاجراءات التي تحتاج الى قرار سياسي، لكنهم تحدثوا عن أمور أكثر تواضعاً تتمثل في البضائع المعروضة في الأسواق، والى وقف صور التعامل التجاري والسياسي مع اسرائيل خاصة.
منذ سنوات ونحن نقول ان الحكومات اذا كانت لها ضرورات فإن المثقفين والشعوب لهم خيارات، وبالتالي فالاخيرون أقدر على حرية الحركة، واذا جاز لنا ان نعذر الحكومات في ما تورطت فيه أو فرض عليها، فليتها بدورها لا تلزم الشعوب بضروراتها، وان تمكنها من ان تحدد خياراتها ـ وفق قناعاتها ومصالحها ـ بسبب من ذلك فإننا لن نتحدث عن مقاطعة الحد الأقصى الذي انتقده البعض، ولكننا نطرح مقاطعة الحد الممكن، المتعلق بالشعوب بالدرجة الأولى.
ولنتفق ابتداء على ان المقاطعة سلاح في الضغط تمارسه الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية، وقد استخدمت وما زالت ضد العديد من الدول، من كوبا الى كوريا الشمالية مروراً بإيران وليبيا والسودان، وانتهاء بالعراق، وليس صحيحاً ان مقاطعة الجماهير العربية للبضائع الاميركية عديمة الجدوى كما ذكر البعض، كما انه ليس المستهدف توجيه ضربة الى الاقتصاد الاميركي كما احتج آخرون، ذلك ان المطلوب أولا هو اتاحة الفرصة للجماهير لكي تتخذ موقفاً وتتحمل مسؤوليته، حيث الاستدعاء مهم في ذاته وحضور الجماهير ومشاركتها مما ينبغي الحرص عليه، والمطلوب ثانياً ايصال رسالة مسكونة بالاستياء والغضب، من خلال الامتناع عن شراء البضائع الاميركية، وهدف الرسالة ليس الاحتجاج فحسب، وانما ايضاً تنبيه مراكز القوى الاقتصادية ذات النفوذ الضخم في الولايات المتحدة الى ان مصالحها سوف تضار وتتأثر من جراء استمرار التواطؤ الاميركي مع اسرائيل ضد المصالح العربية.
ان الدعوة في الهند الى مقاطعة مطاعم «ماكدونالدز»، ومقاومة تلك المطاعم في فرنسا وايطاليا والمانيا، ليس مقصوداً بها ضرب الاقتصاد الاميركي، ولكن مبعث ذلك هو الغيرة على نمط الغذاء المحلي، واذا جاز لهؤلاء ان يفعلوا ما فعلوه لهدف من ذلك القبيل، فلماذا يستكثر البعض على العرب والمسلمين ان يتنادوا الى مقاطعة البضائع الاميركية غيرة على مقدساتهم، التي يفترض انها أعز وأغلى من نمط الغذاء في هذا البلد أو ذاك.
ان الذين يهونون من اثر المقاطعة الاقتصادية على الولايات المتحدة يتجاهلون حجم الدور الذي تلعبه المصالح الاقتصادية في السياسة الاميركية خاصة وهو الدور الذي تنامى بقوة خلال العقد الأخير، حتى اصبحت احدى المهام الاساسية للسفارات الاميركية في الخارج تتمثل في كيفية فتح الأسواق أمام السلع والبضائع الاميركية، وحين تنخفض مبيعات الشركات الاميركية في بلد كمصر بنسبة 30 في المائة، وتخسر واحدة من أكبر تلك الشركات عشرة ملايين جنيه مصري (حوالي 3 ملايين دولار) خلال اسبوع واحد، فإن تلك واقعة لا تمر ببساطة أو يغض الطرف عنها، وإنما تتحول الى جرس تنبيه وانذار لا يكف عن الرنين في واشنطن، وهذا الرنين يتحول في النهاية الى حوارات مستفيضة من جانب الخبراء، تحاول تحليل ما جرى وتفسيره، وتجنب تداعياته.
وقد لا تؤثر المقاطعة على القرار السياسي الاميركي، لكن استمرارها واتساع نطاقها في العالم العربي سيكون محل اعتبار لا ريب، ومن ثم الرسالة لا بد ان يكون لها صداها، وعلى أسوأ الفروض وابعدها، فإن هذا الصدى اذا لم يحدث فإن الالتزام بالمقاطعة سيظل مطلوباً، باعتباره احد المظاهر الفعالة في تجسيد المشاركة والتعبير عن الاحتجاج والغضب.
ان المقاطعة الاميركية لايران لم تسقط النظام ولم تكسر ارادته، وبالتالي فإنها لم تحقق مرادها، بل انها أفادت ايران من حيث انها دفعتها الى الاعتماد على ذاتها في أغلب احتياجاتها، والمقاطعة مع العراق تتهاوى، وتلك التي استهدفت ليبيا لم تؤثر فيها كثيراً، لكن الولايات المتحدة ظلت متمسكة بالمقاطعة، لتسجيل موقف وليس لاي سبب آخر، وما زالت على موقفها رغم ان النتيجة المرجوة مشكوك في بلوغها.
لقد اثار البعض مسألة الشركات الاميركية العاملة في البلاد العربية، بالتعاون مع رأس المال المحلي، وقالوا ان المقاطعة من شأنها اغلاق أبواب تلك الشركات والطرد الضمني لرأس المال الأجنبي، الأمر الذي يترتب عليه تشريد آلاف العمال والتأثير على اقتصاديات بعض الدول العربية، وهذا المنطق مردود عليه بأمرين، أولهما انه في الصراعات المصيرية لا تحسب القضية بهذه الطريقة، فاذا كنت تدافع عن أرضك وكرامتك ومقدساتك، فينبغي ان تدفع ثمناً لذلك، وان تضحي بشيء، لان تلك مطالب لا تتحقق بالمجان.
الأمر الثاني انني أحد الذين قالوا «قاطعوهم ما استطعتم»، وكتبت مقالة بهذا العنوان دعوت فيها الى عدم التخلي عن مبدأ المقاطعة، والى ضرورة ان تدار العملية من خلال مؤسسات المجتمع المدني في كل قطر (النقابات والغرف التجارية وجمعيات رجال الأعمال)، بحيث تبحث تلك المؤسسات في كيفية تقليل الخسائر الناجمة عن تنفيذ المقاطعة، وعلماؤنا الكبار من الشيخ يوسف القرضاوي الى مفتي مصر الشيخ فريد واصل والسيد محمد فضل الله في لبنان، تحدثوا عن ضرورة المقاطعة «ما امكن للمسلمين».
اذا كان الأمر كذلك، فلماذا تسفيه فكرة المقاطعة، وتصوير دعاتها بأنهم «دونكيشوتيون» وطائشون يحاربون طواحين الهواء؟ ولماذا يصر البعض على تيئيس شعوبنا في كل مرة تتطلع فيها الى الفعل السياسي، بحجة انه لا فائدة وان الخصم الاميركي لا ينال منه شيء من ذلك القبيل الذي يلجأ إليه أمثالنا من «المستضعفين» قليلي الباع والحيلة؟
يحسب للانتفاضة لا ريب انها نجحت في استدعاء المواطن العربي المطرود من السياسة أصلا الى ساحة الفعل السياسي، حتى اصبح احد اهم الاسئلة المثارة في الشارع العربي طيلة الشهرين الماضيين السؤال: ما الذي علينا أن نفعله للتضامن مع الانتفاضة وشد ازرها، بينما كانت هناك شواهد قوية في السابق تدل على ان الشارع العربي بدا ينفض من حول القضية الفلسطينية، بفعل عوامل يطول شرحها.
ما ان طرح السؤال ماذا نفعل حتى كانت فكرة «المقاطعة» واحدة من ابرز الاجابات التي فرضت نفسها على الجميع، وصارت موضع جدل مشهود لم يتوقف في مختلف العواصم والمنابر، وعلى صفحات «الشرق الاوسط» تعددت المساهمات التي تناولت الموضوع من مختلف جوانبه، مشككة في جدوى المقاطعة احياناً، وداعية الى وجوبها في حين واحدة، الأمر الذي شجعني على محاولة التفكير مع غيري في الموضوع، مع التعقيب على بعض ما قيل في صدده.
رغم تباين وجهات النظر الى حد التضاد الكامل في بعض الحالات، فاحسب ان ثمة نقاطاً كانت محل اتفاق الجميع ـ تقريباً ـ هي:
* ان التحدي الاسرائيلي بلغ مدى يتعذر السكوت عليه، خصوصاً بعدما تم تدنيس المسجد الأقصى، وبعدما اصبحت السيادة على المسجد والحرم الشريف مطلباً اسرائيلياً، الأمر الذي لم يخطر على بال أحد يوماً ما، وهو ما يمس مقدسات الأمة بأسرها ويستهدف اذلالها وكسر ارادتها.
* ان تضامن الأمة الاسلامية في هذا الموقف اصبح على المحك، ولم يعد هناك خلاف على انه واجب وفرض عين، وكل الشواهد تدل على استجابة الأمة لنداء الواجب وانها مستعدة لان تذهب في ذلك الى أبعد مدى ممكن، لذلك فمن المهم للغاية تفتح امامها السبل الكفيلة بتمكينها من القيام بواجبها.
* ان الانتفاضة جسدت الغضب الفلسطيني بقدر ما غدا استمرارها أملا للشعوب العربية والاسلامية، والاعراب عن التضامن معها بموقف عربي واسلامي واضح هو أحد العوامل التي تكفل الاستمرار المنشود.
* ان مقاطعة البضائع ورؤوس الأموال الاسرائيلية، وقطع كل علاقات دبلوماسية أو تجارية مع اسرائيل أصبح من الأمور المفروغ منها، وغير المختلف عليها.
هكذا فإن الخلاف منحصر في موضوع مقاطعة البضائع الاميركية، هل يمكن وما هو جدواه وهدفه. والذي أثار موضوع البضائع الاميركية ليس مجرد الضيق بالسياسة الاميركية والتحيز المستمر لاسرائيل، الذي يستشعره كل مواطن عربي منذ تأسست اسرائيل، ولكن هناك ما هو أبعد، ذلك ان الدعم الاميركي الذي وصل الى حد تبني كل المطالب الاسرائيلية وتأييد القمع والبطش الاسرائيليين، والضغط المستمر على الفلسطينيين والرئيس عرفات لكي يستجيبوا لما تريده اسرائيل، حتى في المسجد الاقصى، هذا المدى من الدعم صدم الرأي العام العربي، والفلسطيني في المقدمة منه، وهو ما يدعونا الى القول بأن الانتفاضة الراهنة ليست ضد اسرائيل وحدها، ولكنها ضد الولايات المتحدة أيضاً، التي اصبحت شريكة في تنفيذ المخطط الصهيوني الاستيطاني، ودورها الحقيقي في عملية السلام كشف الستار عن حقيقة وتفصيلات تلك الشراكة.
هذا البعد لم يكن بتلك الدرجة من الوضوح في انتفاضة عام 87، ربما بسبب التوازنات الدولية التي كانت سائدة آنذاك، خصوصاً في ظل وجود الاتحاد السوفيتي. ربما لهذا السبب فإن شعار مقاطعة البضائع الاميركية لم يشهر آنذاك، وظلت الادانة العربية للسياسة الاميركية هي السمة المعلنة، وسواء بسبب ايغال الادارة الاميركية في تأييد اسرائيل، أو لان الأمة العربية ادركت ان مقدساتها قد مست وأهينت، فالشاهد ان الغضب العربي لم يستثن الولايات المتحدة، وتعامل معها باعتبارها شريكا في الاغتصاب والعدوان.
لقد شكك البعض في مبدأ المقاطعة ودعوا الى استبعاده واستبدال وسائل أخرى به، وكان الدكتور غازي القصيبي أحد الذين اقترحوا بعض تلك الوسائل، وطرح في هذا الصدد افكاراً ممتازة جديرة بالاعتبار، من تخصيص دولار من سعر كل برميل نفط يباع لصالح فلسطين، الامر الذي تبلغ حصيلته 15 مليون دولار يومياً، الى ان يتبرع كل مواطن براتب يوم من أجره شهرياً، الى اقامة صندوق لدعم «اللوبي» العربي المحتقر في اميركا، الى تدبير فرص عمل للفلسطينيين الذين يضطرون للاعتماد على العمل في اسرائيل.
وإذ يتمنى المرء ان تؤخذ تلك الافكار على محمل الجد، وان تجد من يتبناها ويبحث في كيفية تنفيذها، إلا ان لي ملاحظتين عليها; الأولى انه يطرحها بديلا عن المقاطعة، بينما ليتها تبحث جنباً الى جنب مع المقاطعة، لتكثيف الضغط وضمان الفاعلية، والثانية انها تعتمد على اجراءات تقوم بها الحكومات، بينما محور الحديث هو المقاطعة الشعبية، هو دور الشعوب الغاضبة التي تريد ان تفعل شيئاً تتضامن به مع الانتفاضة، في وقت تبدو فيه أكثر الابواب موصدة في وجوهها، بصورة أو أخرى.
هذا الخلط بين دور الشعوب ودور الحكومات والانظمة دفع معارضي المقاطعة الى القول باستحالتها في الظروف الراهنة، التي لا تحتاج الى شرح. وبسبب ادراك تلك الظروف فإن اغلب دعاة المقاطعة لم يتحدثوا عن وقف ضخ البترول أو منع استيراد السلاح أو عدم شراء قطع غيار طائرات النقل، أو غير ذلك من الاجراءات التي تحتاج الى قرار سياسي، لكنهم تحدثوا عن أمور أكثر تواضعاً تتمثل في البضائع المعروضة في الأسواق، والى وقف صور التعامل التجاري والسياسي مع اسرائيل خاصة.
منذ سنوات ونحن نقول ان الحكومات اذا كانت لها ضرورات فإن المثقفين والشعوب لهم خيارات، وبالتالي فالاخيرون أقدر على حرية الحركة، واذا جاز لنا ان نعذر الحكومات في ما تورطت فيه أو فرض عليها، فليتها بدورها لا تلزم الشعوب بضروراتها، وان تمكنها من ان تحدد خياراتها ـ وفق قناعاتها ومصالحها ـ بسبب من ذلك فإننا لن نتحدث عن مقاطعة الحد الأقصى الذي انتقده البعض، ولكننا نطرح مقاطعة الحد الممكن، المتعلق بالشعوب بالدرجة الأولى.
ولنتفق ابتداء على ان المقاطعة سلاح في الضغط تمارسه الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية، وقد استخدمت وما زالت ضد العديد من الدول، من كوبا الى كوريا الشمالية مروراً بإيران وليبيا والسودان، وانتهاء بالعراق، وليس صحيحاً ان مقاطعة الجماهير العربية للبضائع الاميركية عديمة الجدوى كما ذكر البعض، كما انه ليس المستهدف توجيه ضربة الى الاقتصاد الاميركي كما احتج آخرون، ذلك ان المطلوب أولا هو اتاحة الفرصة للجماهير لكي تتخذ موقفاً وتتحمل مسؤوليته، حيث الاستدعاء مهم في ذاته وحضور الجماهير ومشاركتها مما ينبغي الحرص عليه، والمطلوب ثانياً ايصال رسالة مسكونة بالاستياء والغضب، من خلال الامتناع عن شراء البضائع الاميركية، وهدف الرسالة ليس الاحتجاج فحسب، وانما ايضاً تنبيه مراكز القوى الاقتصادية ذات النفوذ الضخم في الولايات المتحدة الى ان مصالحها سوف تضار وتتأثر من جراء استمرار التواطؤ الاميركي مع اسرائيل ضد المصالح العربية.
ان الدعوة في الهند الى مقاطعة مطاعم «ماكدونالدز»، ومقاومة تلك المطاعم في فرنسا وايطاليا والمانيا، ليس مقصوداً بها ضرب الاقتصاد الاميركي، ولكن مبعث ذلك هو الغيرة على نمط الغذاء المحلي، واذا جاز لهؤلاء ان يفعلوا ما فعلوه لهدف من ذلك القبيل، فلماذا يستكثر البعض على العرب والمسلمين ان يتنادوا الى مقاطعة البضائع الاميركية غيرة على مقدساتهم، التي يفترض انها أعز وأغلى من نمط الغذاء في هذا البلد أو ذاك.
ان الذين يهونون من اثر المقاطعة الاقتصادية على الولايات المتحدة يتجاهلون حجم الدور الذي تلعبه المصالح الاقتصادية في السياسة الاميركية خاصة وهو الدور الذي تنامى بقوة خلال العقد الأخير، حتى اصبحت احدى المهام الاساسية للسفارات الاميركية في الخارج تتمثل في كيفية فتح الأسواق أمام السلع والبضائع الاميركية، وحين تنخفض مبيعات الشركات الاميركية في بلد كمصر بنسبة 30 في المائة، وتخسر واحدة من أكبر تلك الشركات عشرة ملايين جنيه مصري (حوالي 3 ملايين دولار) خلال اسبوع واحد، فإن تلك واقعة لا تمر ببساطة أو يغض الطرف عنها، وإنما تتحول الى جرس تنبيه وانذار لا يكف عن الرنين في واشنطن، وهذا الرنين يتحول في النهاية الى حوارات مستفيضة من جانب الخبراء، تحاول تحليل ما جرى وتفسيره، وتجنب تداعياته.
وقد لا تؤثر المقاطعة على القرار السياسي الاميركي، لكن استمرارها واتساع نطاقها في العالم العربي سيكون محل اعتبار لا ريب، ومن ثم الرسالة لا بد ان يكون لها صداها، وعلى أسوأ الفروض وابعدها، فإن هذا الصدى اذا لم يحدث فإن الالتزام بالمقاطعة سيظل مطلوباً، باعتباره احد المظاهر الفعالة في تجسيد المشاركة والتعبير عن الاحتجاج والغضب.
ان المقاطعة الاميركية لايران لم تسقط النظام ولم تكسر ارادته، وبالتالي فإنها لم تحقق مرادها، بل انها أفادت ايران من حيث انها دفعتها الى الاعتماد على ذاتها في أغلب احتياجاتها، والمقاطعة مع العراق تتهاوى، وتلك التي استهدفت ليبيا لم تؤثر فيها كثيراً، لكن الولايات المتحدة ظلت متمسكة بالمقاطعة، لتسجيل موقف وليس لاي سبب آخر، وما زالت على موقفها رغم ان النتيجة المرجوة مشكوك في بلوغها.
لقد اثار البعض مسألة الشركات الاميركية العاملة في البلاد العربية، بالتعاون مع رأس المال المحلي، وقالوا ان المقاطعة من شأنها اغلاق أبواب تلك الشركات والطرد الضمني لرأس المال الأجنبي، الأمر الذي يترتب عليه تشريد آلاف العمال والتأثير على اقتصاديات بعض الدول العربية، وهذا المنطق مردود عليه بأمرين، أولهما انه في الصراعات المصيرية لا تحسب القضية بهذه الطريقة، فاذا كنت تدافع عن أرضك وكرامتك ومقدساتك، فينبغي ان تدفع ثمناً لذلك، وان تضحي بشيء، لان تلك مطالب لا تتحقق بالمجان.
الأمر الثاني انني أحد الذين قالوا «قاطعوهم ما استطعتم»، وكتبت مقالة بهذا العنوان دعوت فيها الى عدم التخلي عن مبدأ المقاطعة، والى ضرورة ان تدار العملية من خلال مؤسسات المجتمع المدني في كل قطر (النقابات والغرف التجارية وجمعيات رجال الأعمال)، بحيث تبحث تلك المؤسسات في كيفية تقليل الخسائر الناجمة عن تنفيذ المقاطعة، وعلماؤنا الكبار من الشيخ يوسف القرضاوي الى مفتي مصر الشيخ فريد واصل والسيد محمد فضل الله في لبنان، تحدثوا عن ضرورة المقاطعة «ما امكن للمسلمين».
اذا كان الأمر كذلك، فلماذا تسفيه فكرة المقاطعة، وتصوير دعاتها بأنهم «دونكيشوتيون» وطائشون يحاربون طواحين الهواء؟ ولماذا يصر البعض على تيئيس شعوبنا في كل مرة تتطلع فيها الى الفعل السياسي، بحجة انه لا فائدة وان الخصم الاميركي لا ينال منه شيء من ذلك القبيل الذي يلجأ إليه أمثالنا من «المستضعفين» قليلي الباع والحيلة؟