هويدي 11-11-2002
الأخطر من الهجوم الصاروخي الأميركي على اليمنيين الستة في مأرب، ان الحادث مر دون صدى يذكر في داخل العالم العربي وخارجه، في حين انه بمثابة نقطة تحول فارقة في العلاقات الدولية، من حيث أنه يجسد الانتصار للخروج عن القانون ويضع حجر الأساس لاقامة نظام دولي لا أخلاقي جديد.
الحادث تكشفت أبعاده خلال وقت قصير، اذ بعدما أعلنت السلطات اليمنية عن انفجار سيارة في «ظروف غامضة» ، واحتراق ستة من ركابها اليمنيين، فان الادارة الأميركية لم تلبث أن وضعت النقاط على الحروف، فمن خلال تصريحات الناطقين باسمها عرفنا أن الانفجار لم يكن غامضاً، ولكن صاروخاً يحمل اسم «هلفاير» ألقته على السيارة طائرة «بريتيدور» التي تعمل بدون طيار التابعة للمخابرات المركزية الأميركية، بهدف تفجيرها وقتل من فيها، بعدما نما الى علم المخابرات الأميركية ان بين ركاب السيارة شاب اسمه قائد سفيان الحارثي، الذي وصف بأنه المطلوب الأول في اليمن، وتلاحقه الأجهزة الأمنية اليمنية والأميركية منذ شهور، للاشتباه في مسؤوليته عن تفجير المدمرة الأميركية كول في ميناء عدن عام 2000، أما الخمسة الآخرون الذين عرفت هوياتهم لاحقاً، فقد كانوا من بين المشتبه في انتمائهم الى تنظيم «القاعدة».
القراءة القانونية للمشهد يمكن تلخيصها على النحو التالي: ثمة ستة من المواطنين اليمنيين، مشتبه في مسؤولية بعضهم عن بعض الحوادث، وفي انتماء الجميع الى تنظيم «القاعدة»، وقد قامت أجهزة دولة أخرى على بعد آلاف الأميال بمراقبتهم ورصد تحركاتهم، حتى تصيدتهم داخل سيارة في شرق مأرق، وتولت طائرة أميركية متعمدة قتلهم بالصاروخ الذي أطلقته على السيارة، دون محاكمة وقبل أن تثبت ادانتهم في ما نسب إليهم. الأمر الذي يتضمن جريمتين جسيمتين. الأولى هي الاعتداء على سيادة دولة أخرى، دون اعلان للحرب ودون أن يكون بينهم نزاع عسكري من أي نوع. والثانية اعدام لأشخاص خارج نطاق القانون والعدالة.
ليس هناك ما يثبت أن العملية تمت بموافقة حكومة صنعاء، التي كانت قد أعلنت في شهر سبتمبر (ايلول) الماضي انها لن تستعين بقوات غير يمنية في ملاحقة المشتبه فيهم، نافية آنذاك أخباراً تسربت عن عمليات سرية تقوم بها القوات الأميركية الخاصة على الأراضي اليمنية، ولا أستبعد أن تكون العملية قد تمت دون موافقة أو علم الحكومة اليمنية، لأن المخابرات المركزية تمارس أنشطة من ذلك القبيل في باكستان دون اخطار الحكومة، التي يبدو أن حسابات معينة دفعتها الى غض الطرف عن تلك الأنشطة. مع ذلك فالثابت أن حكومة صنعاء لم تعترض ولم تحتج على ما جرى. وغاية ماسمعناه في هذا الصدد ان الرئيس اليمني دعا عناصر تنظيم «القاعدة» الى «التوبة»، ولم يعلق على حادث مأرب. وحتى اذا ما كانت المخابرات الأميركية قد أخطرت الحكومة اليمنية بالعملية قبل وقوعها، فان ذلك لا ينفي ارتكاب العدوان لأنني حين استطلعت رأي عدد من خبراء القانون الدولي في هذا الصدد، كان رأيهم أن القيام بالعملية دون موافقة حكومة اليمن يعد اعتداء على السيادة، مخالفاً لنصوص القانون الدولي التي تحظر ذلك، اما اذا تمت العملية بعلم وموافقة الحكومة اليمنية فان الخروج على مقتضى القانون الدولي يظل قائماً، في الموضوع وليس في الشكل، باعتبار أن موافقة حكومة اليمن على القصف لا تبرئ واشنطن من تهمة العدوان على الميثاق العالمي لحقوق الانسان، باعتبار أنها عمدت الى قتل أشخاص خارج نطاق القانون. وهي بالمناسبة احدى التهم المنسوبة الى الرئيس العراقي صدام حسين.
جدير بالملاحظة في هذا الصدد ان الأسلوب الذي لجأت إليه الولايات المتحدة في تصفية المشتبه فيهم، هو ذاته الذي تتبعه اسرائيل في ملاحقة واغتيال نشطاء الانتفاضة، الأمر الذي يعكس مدى تأثر «الصقور» الأميركيين في البيت الأبيض بالنموذج الاسرائيلي. من الملاحظ أيضاً أنه بعد أيام قليلة من القصف الأميركي أعلن وزير الدفاع الروسي سيرجي ايفانوف ان ثمة تغييرات أساسية ستطرأ على نظرية الأمن القومي الروسي، بحيث تبيح للجيش الروسي مطاردة «الارهابيين» ـ يقصد الشيشانيين ـ في أنحاء العالم، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في أن السلوك الأميركي بدأ صفحة جديدة في العلاقات الدولية، بحيث أصبح بمقدور أي دولة في العالم ان تتهم اناسا في أي مكان بالكرة الأرضية بالعمل ضد مصالحها، وذلك وحده يصبح كفيلاً بتصفية أولئك المشتبهين دون محاكمة في أقطارهم التي ينتمون إليها.
خطورة هذا التصرف تكمن في أنه يفقد فكرة الدولة شرعيتها، ويساوي بينها وبين الأفراد الخارجين على القانون. ذلك أن الفرق بين الدولة وبين أولئك الأفراد، هو أن الدولة مقيدة بالقوانين والمواثيق والأعراف وحدود السيادة، بينما الفرد الخارج على القانون ليس مقيداً بشيء من هذا. لذلك فان الدولة حين تضرب عرض الحائط بمختلف القيود والضوابط التي يفترض التزامها بها فانها تخرج على مقتضى شرعيتها، وتسقط الحواجز والفروق بينها وبين «المافيا» مثلاً أو الأفراد الخارجين عن القانون. لذلك فانني لم أبالغ حين قلت ان الخطوة التي لجأت اليها الولايات المتحدة في اليمن كانت انتصاراً للخروج عن القانون.
ولعلي أذهب الى أبعد من ذلك، حيث أزعم أن ذلك الفعل حين يصدر عن اسرائيل فان ذلك يضاف الى سوابقها باعتبارها دولة خارجة عن القانون الدولي منذ انشائها. فضلاً عن أن الضالعين في تلك الممارسات عادة مايوصفون بأنهم من مجرمي الحرب. أما حين يصدر التصرف ذاته عن الولايات المتحدة، وهي الدولة العظمى أو الأعظم في العالم الآن، فينبغي أن ينظر اليه بعين أخرى، حيث يعد نموذجاً للارتداد عما انجزته البشرية في مجال التشريع والاتفاقات الدولية، وسابقة خطيرة في نوعها، تؤسس لنهج يفتح الباب واسعاً لفوضى عالمية، اذا اتسع نطاقها فانها قد تحول العالم الى غابة لا تحتكم لأية معايير قانونية أو أخلاقية.
مما يؤسف له حقاً أن الواقعة مرت في هدوء ولم تثر ماتستحقه من احتجاج وغضب. وهو أمر مدهش للغاية، كأن عنوان الحملة على الارهاب أصبح مسوغاً لفعل أي شيء وانتهاك اي قيمة، وهو ما يغري الادارة الأميركية بأن تذهب الى أبعد مدى ممكن في العصف بكل مايعترض طريقها، وهو أيضاً مايغري متطرفي مجلس النواب الأميركي باصدار القوانين التي تحاكم دولاً أخرى وتصادر أموال الأشخاص والمؤسسات غير الأميركية، وتتحكم في مصائر أي جهة أو شخص في أي مكان بالكرة الأرضية.
هل يعني ذلك اننا بصدد لوثة أصابت الضمير الانساني والفردي، ومن ثم سوغت تمرير تصرفات وممارسات ماكان ينبغي السكوت عليها في أي مجتمع عصري أو حتى متحضر؟
إجابتي على السؤال أن للوثة التي أشاعها الاعلام دوراً لا شك، لكن الأهم من ذلك والأخطر أنه حين يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين بوجه أخص، فان الغيرة على القانون والأخلاق وحقوق الانسان تصبح أقل، وفرصة الاجتراء والاستباحة تصبح أكثر، ومن ثم فان الاستعداد للتمرير وغض الطرف تكون فرصته أكبر.
اذا صح ذلك التحليل فان السؤال الذي يفرض نفسه بعد ذلك هو: الى من نتوجه باللوم والمؤاخذة، الى أولئك الذين يجترئون على القانون والأخلاق، ويتمادون في الاستعلاء والاستكبار، أم الى الذين يوجه اليهم كل ذلك فيبتلعون المهانات واحدة تلو الأخرى، ويديرون الخد الأيسر كلما تلقوا صفعة على الخد الأيمن؟
لن أجيب، وسأترك السؤال معلقاً لأسباب أرجو أن تكون مفهومة، وانتقل الى سؤال آخر لايقل خطورة هو: الى أي مدى يخدم هذا السلوك الحملة الموجهة ضد الارهاب، وهل من شأنه حقاً القضاء على الارهاب أو كسر شوكته؟
من الناحية النظرية، فانني لا أتصور أن يتحقق هدف القضاء على الارهاب بأسلوب تهدر فيه ضوابط القانون وقواعد الأخلاق. بل أزعم أن نموذجاً من ذلك القبيل من شأنه توسيع نطاق الخروج على القانون، ومن ثم تعميق الغضب وزيادة الارهاب. واذا أخذنا اليمن مثلاً، وحاولنا أن نتعرف على صدى الحدث داخل محيطه، فلن يكون من قبيل الاستباق ان نقول بأن القبائل اليمنية لن تمرر الأمر بسهولة، وانما من شأن ماجرى أن يرفع من درجة التوتر في العلاقة بين القبائل والسلطة، ناهيك من الأميركيين بطبيعة الحال، وهذا التوتر يمكن أن تكون له افرازات قد تتراوح بين الثأر واختطاف الأجانب وتهديد عناصر السلطة التي سكتت على ماجرى، أو تواطأت مع الأميركيين فيه.
ان مقاومة الارهاب لاتتم بالارهاب، وحين رفع بعض جنرالات الجزائر ذلك الشعار يوما ما، منادين بما أسموه «ارهاب الارهاب»، فانهم أغرقوا البلاد في بحر من الدم، لم تجف منابعه حتى الآن. ولكن اللوثة الحاصلة الآن أنست كثيرين ان الدولة المحترمة تحارب الارهاب بسلطة القانون، وان العدل كفيل باضعاف الارهاب والحد من نفوذه، أما غير ذلك فمن شأنه توسيع رقعة الحريق، وزيادة الشر وتقليل فرص القضاء عليه، ذلك ان الذين يزرعون الحصرم لايجنون سوى المر.
الأخطر من الهجوم الصاروخي الأميركي على اليمنيين الستة في مأرب، ان الحادث مر دون صدى يذكر في داخل العالم العربي وخارجه، في حين انه بمثابة نقطة تحول فارقة في العلاقات الدولية، من حيث أنه يجسد الانتصار للخروج عن القانون ويضع حجر الأساس لاقامة نظام دولي لا أخلاقي جديد.
الحادث تكشفت أبعاده خلال وقت قصير، اذ بعدما أعلنت السلطات اليمنية عن انفجار سيارة في «ظروف غامضة» ، واحتراق ستة من ركابها اليمنيين، فان الادارة الأميركية لم تلبث أن وضعت النقاط على الحروف، فمن خلال تصريحات الناطقين باسمها عرفنا أن الانفجار لم يكن غامضاً، ولكن صاروخاً يحمل اسم «هلفاير» ألقته على السيارة طائرة «بريتيدور» التي تعمل بدون طيار التابعة للمخابرات المركزية الأميركية، بهدف تفجيرها وقتل من فيها، بعدما نما الى علم المخابرات الأميركية ان بين ركاب السيارة شاب اسمه قائد سفيان الحارثي، الذي وصف بأنه المطلوب الأول في اليمن، وتلاحقه الأجهزة الأمنية اليمنية والأميركية منذ شهور، للاشتباه في مسؤوليته عن تفجير المدمرة الأميركية كول في ميناء عدن عام 2000، أما الخمسة الآخرون الذين عرفت هوياتهم لاحقاً، فقد كانوا من بين المشتبه في انتمائهم الى تنظيم «القاعدة».
القراءة القانونية للمشهد يمكن تلخيصها على النحو التالي: ثمة ستة من المواطنين اليمنيين، مشتبه في مسؤولية بعضهم عن بعض الحوادث، وفي انتماء الجميع الى تنظيم «القاعدة»، وقد قامت أجهزة دولة أخرى على بعد آلاف الأميال بمراقبتهم ورصد تحركاتهم، حتى تصيدتهم داخل سيارة في شرق مأرق، وتولت طائرة أميركية متعمدة قتلهم بالصاروخ الذي أطلقته على السيارة، دون محاكمة وقبل أن تثبت ادانتهم في ما نسب إليهم. الأمر الذي يتضمن جريمتين جسيمتين. الأولى هي الاعتداء على سيادة دولة أخرى، دون اعلان للحرب ودون أن يكون بينهم نزاع عسكري من أي نوع. والثانية اعدام لأشخاص خارج نطاق القانون والعدالة.
ليس هناك ما يثبت أن العملية تمت بموافقة حكومة صنعاء، التي كانت قد أعلنت في شهر سبتمبر (ايلول) الماضي انها لن تستعين بقوات غير يمنية في ملاحقة المشتبه فيهم، نافية آنذاك أخباراً تسربت عن عمليات سرية تقوم بها القوات الأميركية الخاصة على الأراضي اليمنية، ولا أستبعد أن تكون العملية قد تمت دون موافقة أو علم الحكومة اليمنية، لأن المخابرات المركزية تمارس أنشطة من ذلك القبيل في باكستان دون اخطار الحكومة، التي يبدو أن حسابات معينة دفعتها الى غض الطرف عن تلك الأنشطة. مع ذلك فالثابت أن حكومة صنعاء لم تعترض ولم تحتج على ما جرى. وغاية ماسمعناه في هذا الصدد ان الرئيس اليمني دعا عناصر تنظيم «القاعدة» الى «التوبة»، ولم يعلق على حادث مأرب. وحتى اذا ما كانت المخابرات الأميركية قد أخطرت الحكومة اليمنية بالعملية قبل وقوعها، فان ذلك لا ينفي ارتكاب العدوان لأنني حين استطلعت رأي عدد من خبراء القانون الدولي في هذا الصدد، كان رأيهم أن القيام بالعملية دون موافقة حكومة اليمن يعد اعتداء على السيادة، مخالفاً لنصوص القانون الدولي التي تحظر ذلك، اما اذا تمت العملية بعلم وموافقة الحكومة اليمنية فان الخروج على مقتضى القانون الدولي يظل قائماً، في الموضوع وليس في الشكل، باعتبار أن موافقة حكومة اليمن على القصف لا تبرئ واشنطن من تهمة العدوان على الميثاق العالمي لحقوق الانسان، باعتبار أنها عمدت الى قتل أشخاص خارج نطاق القانون. وهي بالمناسبة احدى التهم المنسوبة الى الرئيس العراقي صدام حسين.
جدير بالملاحظة في هذا الصدد ان الأسلوب الذي لجأت إليه الولايات المتحدة في تصفية المشتبه فيهم، هو ذاته الذي تتبعه اسرائيل في ملاحقة واغتيال نشطاء الانتفاضة، الأمر الذي يعكس مدى تأثر «الصقور» الأميركيين في البيت الأبيض بالنموذج الاسرائيلي. من الملاحظ أيضاً أنه بعد أيام قليلة من القصف الأميركي أعلن وزير الدفاع الروسي سيرجي ايفانوف ان ثمة تغييرات أساسية ستطرأ على نظرية الأمن القومي الروسي، بحيث تبيح للجيش الروسي مطاردة «الارهابيين» ـ يقصد الشيشانيين ـ في أنحاء العالم، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في أن السلوك الأميركي بدأ صفحة جديدة في العلاقات الدولية، بحيث أصبح بمقدور أي دولة في العالم ان تتهم اناسا في أي مكان بالكرة الأرضية بالعمل ضد مصالحها، وذلك وحده يصبح كفيلاً بتصفية أولئك المشتبهين دون محاكمة في أقطارهم التي ينتمون إليها.
خطورة هذا التصرف تكمن في أنه يفقد فكرة الدولة شرعيتها، ويساوي بينها وبين الأفراد الخارجين على القانون. ذلك أن الفرق بين الدولة وبين أولئك الأفراد، هو أن الدولة مقيدة بالقوانين والمواثيق والأعراف وحدود السيادة، بينما الفرد الخارج على القانون ليس مقيداً بشيء من هذا. لذلك فان الدولة حين تضرب عرض الحائط بمختلف القيود والضوابط التي يفترض التزامها بها فانها تخرج على مقتضى شرعيتها، وتسقط الحواجز والفروق بينها وبين «المافيا» مثلاً أو الأفراد الخارجين عن القانون. لذلك فانني لم أبالغ حين قلت ان الخطوة التي لجأت اليها الولايات المتحدة في اليمن كانت انتصاراً للخروج عن القانون.
ولعلي أذهب الى أبعد من ذلك، حيث أزعم أن ذلك الفعل حين يصدر عن اسرائيل فان ذلك يضاف الى سوابقها باعتبارها دولة خارجة عن القانون الدولي منذ انشائها. فضلاً عن أن الضالعين في تلك الممارسات عادة مايوصفون بأنهم من مجرمي الحرب. أما حين يصدر التصرف ذاته عن الولايات المتحدة، وهي الدولة العظمى أو الأعظم في العالم الآن، فينبغي أن ينظر اليه بعين أخرى، حيث يعد نموذجاً للارتداد عما انجزته البشرية في مجال التشريع والاتفاقات الدولية، وسابقة خطيرة في نوعها، تؤسس لنهج يفتح الباب واسعاً لفوضى عالمية، اذا اتسع نطاقها فانها قد تحول العالم الى غابة لا تحتكم لأية معايير قانونية أو أخلاقية.
مما يؤسف له حقاً أن الواقعة مرت في هدوء ولم تثر ماتستحقه من احتجاج وغضب. وهو أمر مدهش للغاية، كأن عنوان الحملة على الارهاب أصبح مسوغاً لفعل أي شيء وانتهاك اي قيمة، وهو ما يغري الادارة الأميركية بأن تذهب الى أبعد مدى ممكن في العصف بكل مايعترض طريقها، وهو أيضاً مايغري متطرفي مجلس النواب الأميركي باصدار القوانين التي تحاكم دولاً أخرى وتصادر أموال الأشخاص والمؤسسات غير الأميركية، وتتحكم في مصائر أي جهة أو شخص في أي مكان بالكرة الأرضية.
هل يعني ذلك اننا بصدد لوثة أصابت الضمير الانساني والفردي، ومن ثم سوغت تمرير تصرفات وممارسات ماكان ينبغي السكوت عليها في أي مجتمع عصري أو حتى متحضر؟
إجابتي على السؤال أن للوثة التي أشاعها الاعلام دوراً لا شك، لكن الأهم من ذلك والأخطر أنه حين يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين بوجه أخص، فان الغيرة على القانون والأخلاق وحقوق الانسان تصبح أقل، وفرصة الاجتراء والاستباحة تصبح أكثر، ومن ثم فان الاستعداد للتمرير وغض الطرف تكون فرصته أكبر.
اذا صح ذلك التحليل فان السؤال الذي يفرض نفسه بعد ذلك هو: الى من نتوجه باللوم والمؤاخذة، الى أولئك الذين يجترئون على القانون والأخلاق، ويتمادون في الاستعلاء والاستكبار، أم الى الذين يوجه اليهم كل ذلك فيبتلعون المهانات واحدة تلو الأخرى، ويديرون الخد الأيسر كلما تلقوا صفعة على الخد الأيمن؟
لن أجيب، وسأترك السؤال معلقاً لأسباب أرجو أن تكون مفهومة، وانتقل الى سؤال آخر لايقل خطورة هو: الى أي مدى يخدم هذا السلوك الحملة الموجهة ضد الارهاب، وهل من شأنه حقاً القضاء على الارهاب أو كسر شوكته؟
من الناحية النظرية، فانني لا أتصور أن يتحقق هدف القضاء على الارهاب بأسلوب تهدر فيه ضوابط القانون وقواعد الأخلاق. بل أزعم أن نموذجاً من ذلك القبيل من شأنه توسيع نطاق الخروج على القانون، ومن ثم تعميق الغضب وزيادة الارهاب. واذا أخذنا اليمن مثلاً، وحاولنا أن نتعرف على صدى الحدث داخل محيطه، فلن يكون من قبيل الاستباق ان نقول بأن القبائل اليمنية لن تمرر الأمر بسهولة، وانما من شأن ماجرى أن يرفع من درجة التوتر في العلاقة بين القبائل والسلطة، ناهيك من الأميركيين بطبيعة الحال، وهذا التوتر يمكن أن تكون له افرازات قد تتراوح بين الثأر واختطاف الأجانب وتهديد عناصر السلطة التي سكتت على ماجرى، أو تواطأت مع الأميركيين فيه.
ان مقاومة الارهاب لاتتم بالارهاب، وحين رفع بعض جنرالات الجزائر ذلك الشعار يوما ما، منادين بما أسموه «ارهاب الارهاب»، فانهم أغرقوا البلاد في بحر من الدم، لم تجف منابعه حتى الآن. ولكن اللوثة الحاصلة الآن أنست كثيرين ان الدولة المحترمة تحارب الارهاب بسلطة القانون، وان العدل كفيل باضعاف الارهاب والحد من نفوذه، أما غير ذلك فمن شأنه توسيع رقعة الحريق، وزيادة الشر وتقليل فرص القضاء عليه، ذلك ان الذين يزرعون الحصرم لايجنون سوى المر.