مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
ليس عنفاً.. وليسوا مدنيين
هويدي 11-2-2002

لكي لا تحل بنا الهزيمة حتى على مستوى الخطاب، ولكي نحتفظ بصواب النظر رغم عجزنا عن الفعل، فانني أتوسل إلى المسؤولين العرب الذين يريدون هذه الأيام إبراء ذمتهم والحصول على «وسام الاعتدال» من واشنطون، أن يكفوا عن أمرين: مطالبة الفلسطينيين بوقف «العنف»، وادانة عمليات المقاومة بزعم أنها تصيب المدنيين. ذلك أن الكل يعرف أن ذلك ما يريده الاسرائيليون بالضبط، وأن ضغوط الولايات المتحدة وأصوات مسؤوليها ونداءات ممثلي جماعات الضغط الصهيونية بها تمضي في ذات الاتجاه. وذلك نفهمه وندرك مبرراته، لكن الذي لا نفهمه ونستغربه بشدة أن يتبنى بعضنا ذات الموقف، ويردد ذات المطالب.
أفهم أيضاً أن تكون لدى الادارة الأميركية أولوياتها وحساباتها، فهي لا تريد «شغباً» في منطقتنا يشوش على حملتها ضد الارهاب، ثم إن القوى الموالية لاسرائيل نجحت في اقناعها بأن الذي يحدث في فلسطين بدوره «ارهاب»، وأن اسرائيل «الضحية» التي تملك طائرات اف 16 و«أباتشي» تتعرض للعدوان من قبل الفلسطينيين العزل. هذه الملابسات بما تضمنته من تدليس وخلط مذهل في الأوراق، اذا انطلت على الأميركيين وصدقوها، لكنني لا أتصور أنها يمكن أن تنطلي على أحد في العالم العربي، يملك عيناً مبصرة أو ضميراً لم يمت بعد.
لست في مقام الدفاع عن العنف في أي مكان بالكرة الأرضية. ولا يستطيع أحد أن يزايد على المسلمين في احترامهم للحياه الانسانية، وهم الذين يعرفون أكثر من غيرهم أن في كل نفس انسانية قبساً من روح الله، ويعلمهم دينهم أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً. بمعنى أن ازهاق روح فرد ظلماً بمثابة اهدار للانسانية كلها، من ثم فارتكاب فعل من هذا القبيل هو جريمة ضد الانسانية لا تغتفر، وهو موقف لا يقارن مثلاً بمسلك الديانة اليهودية ضد «الأغيار»، وهو ما انتقده باحث يهودي محترم مثل اسرائيل شاحاك الذي كتب يقول إن تاريخ الشعب اليهودي - ومرجعياته الدينية تعطي عملية ابادة الجنس قيمة الأسطورة المقدسة، التي أحيطت باجلال متقد، باعتبارها حقيقة.
نعم لا مجال للدفاع عن العنف من حيث المبدأ، لكن وصف مايجري في الأرض المحتلة بأنه عنف، هو من أكبر الأخطاء التي يقع فيها المرء، بل هو «فخ» اذا استدرج إليه المرء فانه سوف ينزلق باتجاه ما هو أسوأ وأفدح. ولعلي لا أبالغ إذا ما قلت بأن مجرد وصف مايجري هناك بأنه «عنف» لا يمكن افتراض حسن النية فيه، وهو تزوير فاضح للحقيقة. ذلك أن أي انسان سوي يعرف جيداً ان ما يجري في فلسطين ليس مقابلة بين العنف واللاعنف، ولكنه احتلال يواجه بمقاومة تصر على ازاحته، وتستخدم لذلك كل ما يوفره لها القانون الدولي من وسائل للدفاع عن النفس، الأمر الذي يضفي مشروعية لا جدال فيها على كل ما يحدث.
هذا الذي نقوله ليس اكتشافاً، ولكنه معلوم للكافة منذ أكثر من نصف قرن. من ثم فعلى كل من يريد أن يخوض في الموضوع ان يتشبث بمنطق الحق في مقاومة الاحتلال، وان يتراجع خطوة واحدة عن وصف ما يجري بأنه رد فعل طبيعي لاستمرار الاحتلال. بل عليه أن يتمسك بضرورة مناقشة قضية الاحتلال قبل أي شيء آخر، لأن كل التداعيات الأخرى ناشئة عن وجوده ومرتبطة به.
ان التخلي عن هذا الموقف، والقبول بمبدأ الحديث عن العنف، يعد مشاركة ضمنية في عملية التزييف والتدليس التاريخيين، ووقوفاً غير مبرر على الأرضية الاسرائيلية، ذات المصلحة الأولى والأخيرة في تجاهل الاحتلال وطمس حقيقته.
ان أولئك المسؤولين العرب الذين تحدثوا في الأسبوع الماضي عن أهمية وقف «العنف الفلسطيني»، يدركون الحقيقة لا ريب، ولكنهم في الأغلب أرادوا أن يعبروا عن «تجاوبهم» مع الموقف الأمريكي، لحسابات سبقت الاشارة إليها باختصار، لكن ذلك التجاوب المفترض، أياً كانت حصيلته الراهنة، يصيب في مقتل مشروعية الحق العربي في فلسطين. من ثم فلا وجه للمقارنة بين النتائج الآنية التي يمكن أن تترتب على اغفال حقيقة الاحتلال وحق المقاومة، وبين الجريمة التاريخية التي تقترف من جراء الوقوف على الأرضية الاسرائيلية الأمريكية في التعامل مع القضية الفلسطينية.
على صعيد آخر: فاننا لانختلف مع مبدأ ضرورة حماية المدنيين في كل مواجهة مسلحة، ليس فقط لأن العدل يقتضي ذلك، أو لأن معاهدات جنيف تنص على ذلك، ولكن أيضاً لأن ديننا يأمرنا بذلك، فالمدنيون الأبرياء ليسوا محاربين ولا مقاتلين، والمسلمون منهيون عن قتال من لم يقاتلهم، فنصوص القرآن تقرر ذلك ا لمبدأ، وسلوك النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته طبقه في ممارسات مشهودة. لذلك فليس لأحد أيضاً أن يزايد علينا في هذا الجانب، غير أن السؤال الجوهري في هذا السياق هو: هل الاسرائيليون مدنيون حقاً؟
تهتز اجابة السؤال في حالة الحرب الشاملة، من قبيل تلك التي تشنها اسرائيل في الوقت الراهن ضد الفلسطينيين، اذ في هذه الحالة تتقلص المسافة كثيراً بين المدني والعسكري. لكن الموقف في اسرائيل له خصوصيته، في ماضيه وحاضره، وتكمن تلك الخصوصية في عاملين أساسيين هما:
* اننا في حقيقة الأمر بصدد غزوة عسكرية استيطانية، استهدفت اغتصاب الأرض وطرد سكانها، واستجلاب وافدين جدد من أنحاء الكرة الأرضية لكي يتمكنوا من البلد الذي طرد شعبه. هذه الغزوة مارست بحق أصحاب الأرض أكثر من ثلاثين مذبحة لترويع الخلق، وابادة أكثر من 320 قرية ومدينة فلسطينية. منذ وقع الاحتلال عمدت النخبة العسكرية التي قادت الغزوة على تنشئة أجيال مشبعة بروح الكراهية والرفض للفلسطينيين أصحاب الأرض، استناداً إلى نصوص مقدسة ومفاهيم توراتية تعتبر ابادة أي شعب غير يهودي يعيش فوق الأرض المقدسة بمثابة «أم الفرائض» التي يتعين على المؤمنين الامتثال لها - ليس ذلك فحسب، وانما عمدت تلك النخبة إلى تلقين الأطفال منذ صغرهم أن قتل الفلسطينيين أمر عادي وطبيعي للغاية، حتى أن درس الحساب في الصف الثالث الابتدائي حيث يعلم الطفل الجمع والطرح فانه يضع أمامه مسألة تقول: إذا قتلت خمسة فلسطينيين وقتل زميلك سبعة، فكم واحداً تفوق عليك زميلك؟! هذه الثقافة المهيمنة على خلفية العقل الجمعي الاسرائيلي أفرزت مواقف متباينة تتراوح بين رفض الاعتراف بآدمية الفلسطينيين، فهم حشرات أو ثعابين عند البعض ـ وبين رفض الاعتراف بحقوقهم في دولتهم المستقلة والعودة إلى أراضيهم التي طردوا منها، عند البعض الآخر.
* ان المجتمع الاسرائيلي عسكري بطبيعته. كل فرد فيه -رجلاً كان أم امرأة- حتى سن الخامسة والخمسين، يعد مجنداً تحت السلاح. وهو مكلف بأن يقضي شهراً كل سنة في الخدمة العسكرية، من ثم فهو اما جندي في الجيش العامل، أو جندي تحت الاحتياط وفي أجازة من الجيش.
على صعيد آخر، فثمة أسئلة عدة تثيرها طبيعة ذلك المجتمع الاسرائيلي، فهؤلاء المستوطنون الذين لا يتحركون إلا ومدافع «عوزي» معلقة على أكتافهم، ويتمترسون وراء أسوار المستوطنات المدججة بالسلاح، والتي أصبحت أشبه بالقلاع الحربية، تخرج منها أسراب المهاجمين الذين يمطرون بيوت الفلسطينيين بنيران رشاشاتهم، ويجرفون زراعاتهم ويعملون على ترويعهم، هؤلاء هل يعدون مدنيين أم عسكريين؟
ثم، هل يعد مغتصب الأرض مدنياً مسالماً أم محارباً؟ ـ حتى اذا لم يكن هو الذي قام بالاغتصاب، ولكنه استجلب من الخارج، وتملك بيتاً وأرضاً يعلم أنها ليست له، ولكنها ممتلكات منهوبة من آخرين، هل يعفى هذا الشخص من المسؤولية عن الاغتصاب؟
ان القانون يعاقب من اشترى بضاعة يعلم أنها مسروقة، رغم أنه ليس سارقها، فهل يعقل والأمر كذلك أن يعفى من المسؤولية من تملك أرضاً يعلم أنها مغصوبة؟
من ناحية ثالثة ما الرأي في قوم أعطوا أصواتهم لمجرم حرب سجله مشهور لدى الكافة، ويزداد تأييدهم له وترتفع أسهم شعبيته بينهم كلما ازداد شراسة وأوغل في دم المسلمين، هل يعتبر هؤلاء مسالمين أم محاربين؟
ان الأمر أكثر تعقيداً من أن يختزل في كلمة، بل أن الكلمة في الحالة التي نحن بصددها تحديداً قد تكون سبيلاً إلى طعن الحقيقة واغتيالها، وقد تكون وسيلة لاستجلاء الحقيقة وشهرها أمام الناس. واذا ما أردنا أن نتعامل بشرف وأمانة مع الكلمة الحقيقة، فليس هناك بديل عن تجاوز تلك الأوصاف المفخخة التي يراد لنا أن نستخدمها في تحرير الصراع، ولنقلها بصوت عال، اننا ضد العنف وضد قتل المدنيين، لكن الذي يجري في الأرض المحتلة ليس عنفاً، والاسرائيليون ليسوا مدنيين.
من استطاع أن يقولها فخير وبركة، ومن لم يستطع فليصمت مشكوراً، لأنه بصمته ذاك سوف يخدم القضية أيضاً، من حيث أنه سوف يمتنع عن الترويج للتدليس والخداع، وفي ذلك أيضاً خير وبركة.
أضافة تعليق