مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
حين يتاح للشعوب أن ترفع صوتها
هويدي 10-9-2001

لقد اعتادت الولايات المتحدة ان تتحدى شعوب العالم بأساليب ومواقف عدة ـ الفيتو أحدها ـ لكن ما جرى في مؤتمر ديربان للتفرقة العنصرية كان نموذجا نادرا تبدلت فيه المواقف، واستطاعت الشعوب ان تتحدى الولايات المتحدة، التي اضطرت للانسحاب تجر وراءها الوفد الاسرائيلي، حتى وقفت الاثنتان معزولتين في جانب، بينما وقفت شعوب العالم التي مثلتها المنظمات غير الحكومية في جانب آخر، وتلك نتيجة مهمة للغاية، لا يغير من جوهرها ان تعبر الهيئات الحكومية عن رأي مغاير محكوم بحسابات المصالح السياسية وموازينها.
لقد نجحت الولايات المتحدة واسرائيل في تمرير قرار الامم المتحدة الذي صدر في عام 1970، وساوى بين الصهيونية والعنصرية، لكن موقف المنظمات الاهلية في ديربان بعث الحياة في ذلك القرار من الناحية العملية، وسلط الضوء على ذلك الوجه القبيح الذي سعت واشنطن وتل ابيب الى طمس ملامحه واخفائه. وليس من شك أن احداث الانتفاضة والقوة المتنامية للاعلام الذي سجل العديد من صور العنصرية والوحشية الاسرائيلية، اسهما بالدور الاساسي في اذكاء وعي شعوب العالم بحقيقة الموقف الاسرائيلي.
ثمة ملاحظتان اخريان تدوران في هذا الصدد، الاولى تتمثل في اننا حين نتحدث عن الرأي العام العالمي، نتأثر الى حد كبير بمواقف الرأي العام الامريكي الذي مازالت الابواق الصهيونية تتحكم فيه وتغذي حساسيته ونفوره من العرب، في حين ان ادراكنا لا يستحضر صورة الرأي العام في اوروبا فضلا عن الرأي العام في آسيا وافريقيا، أي اننا بانشدادنا الى الرأي العام الامريكي ـ متأثرين في ذلك بكثافة الضخ الاعلامي المعبر عنه والمعني به ـ تعاملنا مع الولايات المتحدة حينا بانها ممثلة للغرب، أو ممثلة للعالم في حين آخر، وهو اعتقاد ثبت فساده في مؤتمر ديربان، من خلال الوقوف القوي والحازم من جانب المنظمات غير الحكومية الى جانب القضية الفلسطينية.
الملاحظة الاخرى ان ممثلي المنظمات الاهلية في العالم الثالث ـ والعالم العربي تحديدا ـ التي تعتمد في تمويلها الاساسي على ما تقدمه جهات امريكية واوروبية، كانت في مقدمة الذين ادانوا عنصرية اسرائيل وتمسكوا باثبات تلك العنصرية في البيان الذي اصدرته تلك المنظمات، وبذلك فانهم وقفوا في المربع المعاكس تماما لسياسة الولايات المتحدة والحكومات الاوروبية.
في حدود علمي فان مؤسسة «فورد» الامريكية هي التي مولت سفر عدد كبير من ممثلي المنظمات الاهلية في العالم العربي، واغلب الظن انها لم تكن سعيدة بنتائج الرحلة، الامر الذي كان له صداه السريع في اوساط جهات التمويل، اذ بدأت تطرح تساؤلات في جدوى ذلك الاستثمار ومردوده المفترض، وذلك ان هذه الجهات لا تقدم للاخرين «وجبات مجانية» لوجه الله، ولكنها تنتظر مقابلا ما يفيدها أو يفيد المصالح السياسية الكامنة وراء بعضها، وحين تعبر المنظمات الاهلية الممولة عن مواقفها على النحو الذي حدث في ديربان، فان تلك نتيجة لا تبعث على الارتياح عند الحد الادنى، وتتعارض مع المردود المفترض، الامر الذي قد يكون حافزا لجهات التمويل لكي تعيد النظر في سياساتها بهذا الصدد.
لا نستطيع ان نغفل تأثير ضغوط الرأي العام العربي على موقف المنظمات الاهلية، الامر الذي لم يترك خيارا لممثلي تلك المنظمات، بمعنى انه لم يكن امامها ـ لكي تتجنب السقوط في اعين مجتمعاتها ـ سوى اتخاذ موقف حازم ازاء الممارسات الاسرائيلية، حتى اذا كان لبعض الممثلين رأي آخر يتعاطف مع العودة الى المفاوضات وما يسمى بالمسيرة السلمية، أو لا يمانع في مجاملة الممولين بصورة أو اخرى.
هذه الملاحظة الاخيرة تقودنا الى تصحيح الانطباع عن حقيقة موقف أطراف تبدو في ظاهر الامر ساكنة ومعتصمة بالصمت على نحو قد يثير الالتباس لدى المراقبين الذين يرصدون السطح ولا يرون الحاصل في العمق، وكنت احد الذين استفزهم ذلك السكون حتى كتبت في مقام آخر متسائلا عما اذا كان لنا أن نعلن وفاة الشارع العربي، ولم اكن الوحيد في ذلك، لأن آخرين كثيرين عبروا عن الملاحظة ذاتها وردوا على السؤال بالايجاب، ومن ثم انهالوا على شعوبنا بقائمة طويلة من الاتهامات التي تندرج تحت عنوان: موت العرب.
ما جرى في مؤتمر ديربان كان اعلان كذب الخبر، واكد ان الشارع العربي يمور بالسخط والغضب والاحتجاج، وهو يعبر في مشاعره تلك كلما اتيح له ذلك، ومن ثم فهو عمليا في حالة ترقب وتربص كما قال اخرون بحق، وليس في حالة موت، هو مكبل ومكمم ان شئت الدقة، وهناك جهات عدة في الداخل والخارج تدري هذه الحقيقة، وتعلم ان القيود المفروضة عليه اذا رفضت فان اطلاقته ستكون مثل انفجار البركان.
ملحوظة: نظمت نقابة الصحافيين المصرية في الاسبوع الماضي ندوة عن الانتفاضة فتواجدت في المكان اعداد كبيرة من قوات الشرطة، واصطف الى جانب الشارع تل من السيارات الكبيرة التي امتلأت بجنود الامن المركزي. وقرأت في الصحف ان الاردن منع المسيرات والمظاهرات المؤيدة للانتفاضة، وان شيئا من هذا القبيل حدث في المغرب، الامر الذي يطرح السؤال التالي: اذا كان الشارع العربي قد مات حقا، فلماذا كل هذه الاحتياطات، ومم تخشى الجهات الامنية المعنية اذن؟
استوقفني في اصداء مؤتمر ديربان ما نشرته صحيفة «ها آرتس» (عدد 9/4) للكاتب الاسرائيلي الوف بن، وقوله «ان التصويت ضد العنصرية في المؤتمر ابقى اسرائيل في عزلة كبيرة، بحيث كانت امريكا هي الوحيدة التي وقفت الى جانبها»، وان «النتيجة السياسية للمؤتمر صعبة بالنسبة لتل ابيب، من حيث ان المؤتمر اثبت ان اسرائيل فقدت الاعتماد الدولي السخي الذي حصلت عليه في اعقاب كامب ديفيد، اذ حينها نجحت في اقناع العالم بانها ارادت السلام وياسر عرفات رفضه ولكن بعد سنة من الانتفاضة وما تخللها من صدامات واغلاق، فان اسرائيل عادت الى مكان المتهم».
اضاف الكاتب ان اسرائيل في ديربان «اختفت تحت المعطف الامريكي، واتخذت قراراتها بالضبط حسب الاداء من واشنطن، وكان اريل شارون وشمعون بيريز قد ترددا في ما اذا كان على اسرائيل ان تنسحب من المؤتمر أم لا، الى ان اتصل كولن باول (وزير الخارجية الامريكي) مع بيريز وابلغه بان الامريكيين يحزمون الامتعة، وكان «القرار» الاسرائيلي بالانسحاب مفهوما في ذاته»، وخلص ألوف بن في النهاية الى ان اسرائيل في عزلتها المتزايدة، والتي عززها مؤتمر ديربان اصبحت مرتبطة على نحو متزايد بقرارات البيت الابيض.
لن يخلو المشهد من مفارقة في نهاية المطاف، اذ بعد التأييد الواسع في ديربان لحقوق الشعب الفلسطيني ونضاله من اجل استعادة حريته واقامة دولته، فان الذين اتخذوا هذا الموقف النزيه، سوف يصدمون اذا فوجئوا بان الانتفاضة يراد لها ان توقف بعد اجتماع أبو عمار مع بيريز، وان طموحات السلطة الفلسطينية لم تتجاوز الجلوس الى طاولة المفاوضات مع شارون للبحث في استئناف «مسيرة السلام»!
أضافة تعليق