هويدي 10-6-2000
هناك جديد في الانتخابات الجزائرية يتعين الوقوف عليه، رغم ان الانتخابات في المحصلة النهائية لم تكن خطوة الى الأمام، وانما كانت بمثابة اعادة انتاج للفيلم القديم، الذي لم يتوقف عرضه في الجزائر خلال العقدين الأخيرين «على الأقل» مع ذلك فأزعم ان الجديد يستحق القراءة اذ فيه من تفاصيل «الاخراج» ما هو جدير بالرصد والمتابعة.
لقد جرت الانتخابات النيابية يوم 30 مايو (أيار) في ظل أزمة داخلية خانقة على الصعيدين السياسي والاقتصادي. فمن ناحية يشهد المسرح السياسي حالة من الجمود والانسداد أفقدت كثيرين أي أمل في احداث تغيير له قيمته في ظل هيمنة العسكر على مفاتيح القرار السياسي، واستمرار استخدامهم للاحزاب السياسية كواجهات للتجمل فقط، لا علاقة لها بالمشاركة فضلا عن التداول، وهو ما دفع كثيرين الى العزوف عن المشاركة السياسية، بل ودفع بعض القيادات السياسية الى اصدار بيان دعت فيه الى مقاطعة الانتخابات، لأنها في رأيهم مجرد حيلة لاطالة عمر النظام وتثبيت الوضع الراهن، من دون أي أفق لحل الأزمة، وقد وقع على ذلك البيان أربعة من الرموز المهمة في البلد، والتي تتمتع بدرجة معتبرة من الثقة والمصداقية، والأربعة هم: الدكتور أحمد طالب الابراهيمي الوزير الأسبق الذي نافس بوتفليقة على الرئاسة، والذي لم يصرح له باقامة حزب الى الآن، والجنرال بن عيسى، وهو من القادة العسكريين السابقين، والسيد علي يحيى عبدالنور المحامي أبرز الناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الانسان، والسيد علي جراي ممثل حزب جبهة القوى الاشتراكية.
كان للبيان صداه في المجتمع الجزائري الذي أفزع السلطات المعنية، وهي التي أقلقها في وقت سابق دعوة زعماء منطقة القبائل الى مقاطعة الانتخابات.
الموقف الاقتصادي لا يقل خطورة، لأن الجزائر وفر لها ارتفاع اسعار النفط موارد جيدة، حسنت من وضعها المالي كثيرا، الا ان ذلك لم يؤد الى انفراج في الحالة الاقتصادية، اذ لا يزال الركود مخيما على البلاد، مصحوبا بمعدلات عالية للبطالة وغلاء فاحش، وتعثر في برنامج الخصخصة، وشيوع الاحتكارات التي يتقاسمها كبار الضباط، فضلا عن ذلك كله وأخطر منه، فإن الفساد لم يترك موقعا أو مرفقا الا وضربه، والى جانب مشكلة الغلاء والفساد، فأن تفاقم مشكلة الاسكان وصل الى حد يتعذر وصفه، وشكل عنصر ضغط اضافيا على المجتمع الذي أصبح يئن من كثرة الضغوط المماثلة، التي كان شح المياه اخرها. ذلك أن المدن الكبرى أصبحت تعاني بشدة من نقص المياه، وفشلت الحكومة طيلة السنوات الأخيرة، في التعامل مع مقومات المشكلة، التي تحولت الى أزمة حادة هذا العام، وكان من أغرب الاشياء وأكثرها مدعاة للاحباط والدهشة أن مجلس الوزراء بحث الموضوع. وأصدر في صدده عدة قرارات كان من بينها الشروع في استيراد مياه الشرب من فرنسا! وهو ما صدم كثيرين في أكثر من وجه، حيث لم يخطر على بال أحد أن تلجأ الجزائر في نهاية المطاف الى استيراد المياه في الوقت الذي تصدر فيه النفط والغاز، اذ يمكن للناس أن يستسيغوا فكرة أن تستورد بلادهم ما يفيد الصناعة والزراعة ويرفع من القدرة الانتاجية للبلد، أما ان تعطى الأولوية لاستيراد مياه الشرب فذلك ما تعذر عليهم استيعابه وكان له أثره في هز ثقة المجتمع في كفاءة الادارة الاقتصادية للبلد.
هذه الخلفية لم تكن خافية عن القوى التي تحرك وترسم الخرائط السياسية للبلاد، ولذلك فإنها توقعت ان تنعكس الضغوط والاحباط على الانتخابات النيابية، فتظهر بصورة باهتة تحرج النظام وتكشف ما يراد ستره، ولذلك طرحت فكرة «حلحلة» الانتخابات وتوفير درجة من الشفافية لها، يوحي بأن هناك شيئا جديدا، يمنح الناس أملا في تحريك ـ وليس تحسين ـ الأوضاع في البلاد، مما يمكن ان يوفر للنظام جرعة تحسن صورته، وتعطيه دفعة تعزز مركزه داخليا وخارجيا، شجعهم على ذلك ما جرى في الساحة السياسية المجاورة، التي جرى فيها استفتاء صورة من ذلك القبيل الذي ينتهي بفوز يتجاوز 99% وهو ما أثار سخرية وانتقاد الصحف الجزائرية من الموالية للحكومة.
هذا الظرف شجع مخططي السياسة الجزائرىىن على أن يعطوا انطباعاتهم ويقدموا نموذجا مختلفا، تتوفر له الشفافية التي لم يكن لها حظ في الاستفتاء المجاور، ماذا فعلوا؟
لم يأبهوا بنداءات المقاطعة ومنعوا من اجراء الانتخابات، التي قلت انها تمتعت ببعض الشفافية، ـ واضع خطا تحت كلمة بعض ـ الأمر الذي يعني ان النتائج لم تكن بعيدة عن تدخل نسبي من جانب الذين يديرون العملية ويتولون اخراج المشهد، وهو ما يختلف عليه أحد من المراقبين السياسيين في العاصمة الجزائرية، وكان من أهم تلك النتائج ما يلي:
ـ فوز حزب جبهة التحرير بأغلبية 199مقعدا من أصل 389 مقعدا للغرفة الأولى من البرلمان، وكان الحزب قد حصل على 64 مقعدا في الانتخابات السابقة «1997».
ـ التراجع الكبير في تمثيل حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي حصل على 155 مقعدا في الانتخابات السابقة، ولم يفز هذه المرة بأكثر من 48 مقعدا.
ـ تدهور حظوظ حزب النهضة المنسوب الى التوجه الاسلامي وحصوله على مقعد واحد فقط، وكان له 34 مقعدا في البرلمان السابق.
ـ تقدم حركة الاصلاح الوطني الاسلامية التي تشارك في الانتخابات لأول مرة، وحصولها على 43 مقعدا.
ـ تراجع تمثيل حركة مجتمع السلم «حمس» الاسلامية والحليفة للسلطة، حيث حصلت على 38 مقعدا، في حين انها كانت ممثلة في السابق بـ69 مقعدا.
ـ تقدم المستقلين الذين حصلوا على 29 مقعدا، وكان نصيبهم في البرلمان السابق عشرة مقاعد.
ـ تقدم حزب العمال الذي يمثل أقصى اليسار، وحصوله على 21 مقعدا بينما لم ينل في الانتخابات السابقة سوى أربعة مقاعد فقط.
وفي تحليل تلك النتائج لابد أن يستوقفنا التفوق الكبير الذي حققه حزب جبهة التحرير، وهو تفوق له مبرراته، رغم انه لا يستبعد ان يكون للسلطة يد في دفعه وتشجيعه، فحزب جبهة التحرير له جذوره لا ريب في المجتمع، وبعد الذي عانى منه الناس خلال العقدين السابقين، فإنهم اتجهوا للحنين الى ايام جبهة التحرير، ليس حبا فيها بالضرورة، ولكن رفضا وكرها لما هو قائم، ثم ان الخيارات امام الناس كانت محدودة، فإما الجبهة أو الاحزاب الاسلامية أو حزب العمال اليساري. ثم لاحظ ان ذلك الفوز يلقى مباركة وترحيبا من جانب الرئيس بوتفليقة والمؤسسة العسكرية في مهدها الراهن، فحزب التجمع الديمقراطي الذي تشكل في عام 97 ليكون حزب الرئيس زروال (الأمين العام للحزب أحمد أويحيى كان رئيسا لديوانه وقد عين آنذاك رئيسا للحكومة» وخاض الانتخابات في ذات العام، ورتب له ان يحصل على الاغلبية ويحكم، هذا الحزب كان مصطنعا واستنفد اغراضه، وكان البديل الوحيد المرشح لملء فراغه هو حزب جبهة التحرير، الذي جرى «ترويضه» وتفريغه من مضمونه بعد الانقلاب الذي احدثته المؤسسة العسكرية في عام 96 على قيادته الممثلة في أمينها العام السابق، السيد عبدالحميد المهري، وجيله من مناضلي الحزب.
عودة حزب جبهة التحرير بعد غيبة 19عاما ـ التي أحتفى بها البعض ـ هي بمثابة توظيف لرصيد الحزب في الذاكرة الوطنية لمحاولة تعزيز موقف النظام القائم، بعد أن اطمأنت القوى المهنية الى انه يأتي من الماضي بعد ان تعرض لعملية تدجين «وتهذيب» جعلت منه كيانا سياسيا احتفظ بالعنوان القديم بينما اختلف مضمونه بدرجة كبيرة (لاحظ ان الأمين العام للحزب رئيس الحكومة الحالي السيد علي بن فليس كان بدوره رئيسا لديوان الرئيس بوتفليقة).
والأمر كذلك فلا غرابة في أن يتراجع حظ التجمع الديمقراطي، ولا غرابة أيضا في أن يتدهور نصيب حزب النهضة الذي شهد بدوره انقلابا اطاح بمؤسسه الشيخ عبدالله جاب الله، على غرار ما جرى مع السيد عبدالحميد المهري، اذ ان الجهة التي رتبت الانقلابين واحدة، اذ فقد حزب النهضة بسبب هذه التجربة ثقة الصوت الاسلامي، واهتزت تلك الثقة أكثر حين حاولت القيادة الراهنة للحزب ان تتقوى هذه المرة بعناصر من جبهة الانقاذ، لكي تستفيد من شعبيتها، حيث أدرك الجميع ان تلك مجرد حيلة لحفظ ماء الوجه.
بالمقابل فلم تكن هناك مفاجأة في حصول حركة الاصلاح التي يقودها الشيخ جاب الله على 43 مقعدا، رغم حداثتها النسبية، وهو المعارض الذي ظل ثابتا على موقفه وتوجهه الاسلامي، رافضا الدخول في مساومات مع السلطة (لهذا السبب انقلبت عليه ودبرت عملية اقصائه من حزب النهضة).
بذات القدر فلم تكن هناك مفاجأة في فوز حزب العمال بواحد وعشرين مقعدا، فمؤسسته السيدة لويزة حنون كانت ومازالت تقف في المعارضة الصلبة، التي تلقى اعجاب كثيرين، الذين قدروا ثباتها، وكان طبيعيا ان يصوت لصالحها بعض معارضي النظام الذين اتجه بعضهم الآخر الى دعم المستقلين الذين تضاعفت المقاعد التي حصدوها ثلاث مرات.
لم أجد غرابة ايضا في هبوط اسهم حزب «حمس» المتحالف مع الحكومة، لأن الصوت الاسلامي الذي ايد الحزب في السابق وجد في حزب الاصلاح بعد تأسيسه بقيادة الشيخ عبدالله جاب الله تعبيرا صادقا عنه، ويبدو ان السلطة التي ساعدت الحزب في الماضي لم توفر له نفس المساعدة هذه المرة، حيث اكتفت في ايحائها بالشفافية بالسماح لثلاثة احزاب اسلامية بخوض الانتخابات ولم تمانع في ان يتوزع الصوت الاسلامي عليها، خصوصا بعدما اطمأنت الى ان حزب جبهة التحرير حصل على اغلبية أكثر من نصف اعضاء البرلمان، وبالتالي فإنه لن يكون بحاجة للتحالف مع آخرين في المجلس، ثم انه لن يكون مصدر ازعاج للحكومة.
من الملاحظات الجديرة بالرصد في هذا السياق ان ممثلي الاحزاب الاسلامية بمختلف مشاربهم وصل عددهم الى 82 عضوا، وهي كتلة تعني انه رغم كل ما جرى خلال العقدين الأخيرين، فإن القاعدة الاسلامية تظل حقيقة سياسية مهمة في الجزائر يتعذر تجاهلها.
يبقى السؤال الكبير: ما الذي يعنيه ذلك كله؟
لقد استبقت وأجبت على السؤال في البداية، حين ذكرت ان ما جرى كان حركة لا ريب، لكنها لن تستصحب تغييرا يذكر في المواقف السياسية الاساسية، ومن ثم فإنها تظل حركة في ذات المكان، ويتعذر اعتبارها خطوة للأمام، انه الاخراج الجديد لذات الفيلم القديم، الذي تلعب بطولته ـ مازالت ـ المؤسسة العسكرية صاحبة القرار، التي استطاعت توفيق اوضاعها مع الرئيس بوتفليقة، وتأقلم بدوره معها، أما متى يلعب الشعب الجزائري دور البطولة في المشهد السياسي، فالله وحده يعلم، وان كنا لا نكاد نرى له اجلا قريبا!
هناك جديد في الانتخابات الجزائرية يتعين الوقوف عليه، رغم ان الانتخابات في المحصلة النهائية لم تكن خطوة الى الأمام، وانما كانت بمثابة اعادة انتاج للفيلم القديم، الذي لم يتوقف عرضه في الجزائر خلال العقدين الأخيرين «على الأقل» مع ذلك فأزعم ان الجديد يستحق القراءة اذ فيه من تفاصيل «الاخراج» ما هو جدير بالرصد والمتابعة.
لقد جرت الانتخابات النيابية يوم 30 مايو (أيار) في ظل أزمة داخلية خانقة على الصعيدين السياسي والاقتصادي. فمن ناحية يشهد المسرح السياسي حالة من الجمود والانسداد أفقدت كثيرين أي أمل في احداث تغيير له قيمته في ظل هيمنة العسكر على مفاتيح القرار السياسي، واستمرار استخدامهم للاحزاب السياسية كواجهات للتجمل فقط، لا علاقة لها بالمشاركة فضلا عن التداول، وهو ما دفع كثيرين الى العزوف عن المشاركة السياسية، بل ودفع بعض القيادات السياسية الى اصدار بيان دعت فيه الى مقاطعة الانتخابات، لأنها في رأيهم مجرد حيلة لاطالة عمر النظام وتثبيت الوضع الراهن، من دون أي أفق لحل الأزمة، وقد وقع على ذلك البيان أربعة من الرموز المهمة في البلد، والتي تتمتع بدرجة معتبرة من الثقة والمصداقية، والأربعة هم: الدكتور أحمد طالب الابراهيمي الوزير الأسبق الذي نافس بوتفليقة على الرئاسة، والذي لم يصرح له باقامة حزب الى الآن، والجنرال بن عيسى، وهو من القادة العسكريين السابقين، والسيد علي يحيى عبدالنور المحامي أبرز الناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الانسان، والسيد علي جراي ممثل حزب جبهة القوى الاشتراكية.
كان للبيان صداه في المجتمع الجزائري الذي أفزع السلطات المعنية، وهي التي أقلقها في وقت سابق دعوة زعماء منطقة القبائل الى مقاطعة الانتخابات.
الموقف الاقتصادي لا يقل خطورة، لأن الجزائر وفر لها ارتفاع اسعار النفط موارد جيدة، حسنت من وضعها المالي كثيرا، الا ان ذلك لم يؤد الى انفراج في الحالة الاقتصادية، اذ لا يزال الركود مخيما على البلاد، مصحوبا بمعدلات عالية للبطالة وغلاء فاحش، وتعثر في برنامج الخصخصة، وشيوع الاحتكارات التي يتقاسمها كبار الضباط، فضلا عن ذلك كله وأخطر منه، فإن الفساد لم يترك موقعا أو مرفقا الا وضربه، والى جانب مشكلة الغلاء والفساد، فأن تفاقم مشكلة الاسكان وصل الى حد يتعذر وصفه، وشكل عنصر ضغط اضافيا على المجتمع الذي أصبح يئن من كثرة الضغوط المماثلة، التي كان شح المياه اخرها. ذلك أن المدن الكبرى أصبحت تعاني بشدة من نقص المياه، وفشلت الحكومة طيلة السنوات الأخيرة، في التعامل مع مقومات المشكلة، التي تحولت الى أزمة حادة هذا العام، وكان من أغرب الاشياء وأكثرها مدعاة للاحباط والدهشة أن مجلس الوزراء بحث الموضوع. وأصدر في صدده عدة قرارات كان من بينها الشروع في استيراد مياه الشرب من فرنسا! وهو ما صدم كثيرين في أكثر من وجه، حيث لم يخطر على بال أحد أن تلجأ الجزائر في نهاية المطاف الى استيراد المياه في الوقت الذي تصدر فيه النفط والغاز، اذ يمكن للناس أن يستسيغوا فكرة أن تستورد بلادهم ما يفيد الصناعة والزراعة ويرفع من القدرة الانتاجية للبلد، أما ان تعطى الأولوية لاستيراد مياه الشرب فذلك ما تعذر عليهم استيعابه وكان له أثره في هز ثقة المجتمع في كفاءة الادارة الاقتصادية للبلد.
هذه الخلفية لم تكن خافية عن القوى التي تحرك وترسم الخرائط السياسية للبلاد، ولذلك فإنها توقعت ان تنعكس الضغوط والاحباط على الانتخابات النيابية، فتظهر بصورة باهتة تحرج النظام وتكشف ما يراد ستره، ولذلك طرحت فكرة «حلحلة» الانتخابات وتوفير درجة من الشفافية لها، يوحي بأن هناك شيئا جديدا، يمنح الناس أملا في تحريك ـ وليس تحسين ـ الأوضاع في البلاد، مما يمكن ان يوفر للنظام جرعة تحسن صورته، وتعطيه دفعة تعزز مركزه داخليا وخارجيا، شجعهم على ذلك ما جرى في الساحة السياسية المجاورة، التي جرى فيها استفتاء صورة من ذلك القبيل الذي ينتهي بفوز يتجاوز 99% وهو ما أثار سخرية وانتقاد الصحف الجزائرية من الموالية للحكومة.
هذا الظرف شجع مخططي السياسة الجزائرىىن على أن يعطوا انطباعاتهم ويقدموا نموذجا مختلفا، تتوفر له الشفافية التي لم يكن لها حظ في الاستفتاء المجاور، ماذا فعلوا؟
لم يأبهوا بنداءات المقاطعة ومنعوا من اجراء الانتخابات، التي قلت انها تمتعت ببعض الشفافية، ـ واضع خطا تحت كلمة بعض ـ الأمر الذي يعني ان النتائج لم تكن بعيدة عن تدخل نسبي من جانب الذين يديرون العملية ويتولون اخراج المشهد، وهو ما يختلف عليه أحد من المراقبين السياسيين في العاصمة الجزائرية، وكان من أهم تلك النتائج ما يلي:
ـ فوز حزب جبهة التحرير بأغلبية 199مقعدا من أصل 389 مقعدا للغرفة الأولى من البرلمان، وكان الحزب قد حصل على 64 مقعدا في الانتخابات السابقة «1997».
ـ التراجع الكبير في تمثيل حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي حصل على 155 مقعدا في الانتخابات السابقة، ولم يفز هذه المرة بأكثر من 48 مقعدا.
ـ تدهور حظوظ حزب النهضة المنسوب الى التوجه الاسلامي وحصوله على مقعد واحد فقط، وكان له 34 مقعدا في البرلمان السابق.
ـ تقدم حركة الاصلاح الوطني الاسلامية التي تشارك في الانتخابات لأول مرة، وحصولها على 43 مقعدا.
ـ تراجع تمثيل حركة مجتمع السلم «حمس» الاسلامية والحليفة للسلطة، حيث حصلت على 38 مقعدا، في حين انها كانت ممثلة في السابق بـ69 مقعدا.
ـ تقدم المستقلين الذين حصلوا على 29 مقعدا، وكان نصيبهم في البرلمان السابق عشرة مقاعد.
ـ تقدم حزب العمال الذي يمثل أقصى اليسار، وحصوله على 21 مقعدا بينما لم ينل في الانتخابات السابقة سوى أربعة مقاعد فقط.
وفي تحليل تلك النتائج لابد أن يستوقفنا التفوق الكبير الذي حققه حزب جبهة التحرير، وهو تفوق له مبرراته، رغم انه لا يستبعد ان يكون للسلطة يد في دفعه وتشجيعه، فحزب جبهة التحرير له جذوره لا ريب في المجتمع، وبعد الذي عانى منه الناس خلال العقدين السابقين، فإنهم اتجهوا للحنين الى ايام جبهة التحرير، ليس حبا فيها بالضرورة، ولكن رفضا وكرها لما هو قائم، ثم ان الخيارات امام الناس كانت محدودة، فإما الجبهة أو الاحزاب الاسلامية أو حزب العمال اليساري. ثم لاحظ ان ذلك الفوز يلقى مباركة وترحيبا من جانب الرئيس بوتفليقة والمؤسسة العسكرية في مهدها الراهن، فحزب التجمع الديمقراطي الذي تشكل في عام 97 ليكون حزب الرئيس زروال (الأمين العام للحزب أحمد أويحيى كان رئيسا لديوانه وقد عين آنذاك رئيسا للحكومة» وخاض الانتخابات في ذات العام، ورتب له ان يحصل على الاغلبية ويحكم، هذا الحزب كان مصطنعا واستنفد اغراضه، وكان البديل الوحيد المرشح لملء فراغه هو حزب جبهة التحرير، الذي جرى «ترويضه» وتفريغه من مضمونه بعد الانقلاب الذي احدثته المؤسسة العسكرية في عام 96 على قيادته الممثلة في أمينها العام السابق، السيد عبدالحميد المهري، وجيله من مناضلي الحزب.
عودة حزب جبهة التحرير بعد غيبة 19عاما ـ التي أحتفى بها البعض ـ هي بمثابة توظيف لرصيد الحزب في الذاكرة الوطنية لمحاولة تعزيز موقف النظام القائم، بعد أن اطمأنت القوى المهنية الى انه يأتي من الماضي بعد ان تعرض لعملية تدجين «وتهذيب» جعلت منه كيانا سياسيا احتفظ بالعنوان القديم بينما اختلف مضمونه بدرجة كبيرة (لاحظ ان الأمين العام للحزب رئيس الحكومة الحالي السيد علي بن فليس كان بدوره رئيسا لديوان الرئيس بوتفليقة).
والأمر كذلك فلا غرابة في أن يتراجع حظ التجمع الديمقراطي، ولا غرابة أيضا في أن يتدهور نصيب حزب النهضة الذي شهد بدوره انقلابا اطاح بمؤسسه الشيخ عبدالله جاب الله، على غرار ما جرى مع السيد عبدالحميد المهري، اذ ان الجهة التي رتبت الانقلابين واحدة، اذ فقد حزب النهضة بسبب هذه التجربة ثقة الصوت الاسلامي، واهتزت تلك الثقة أكثر حين حاولت القيادة الراهنة للحزب ان تتقوى هذه المرة بعناصر من جبهة الانقاذ، لكي تستفيد من شعبيتها، حيث أدرك الجميع ان تلك مجرد حيلة لحفظ ماء الوجه.
بالمقابل فلم تكن هناك مفاجأة في حصول حركة الاصلاح التي يقودها الشيخ جاب الله على 43 مقعدا، رغم حداثتها النسبية، وهو المعارض الذي ظل ثابتا على موقفه وتوجهه الاسلامي، رافضا الدخول في مساومات مع السلطة (لهذا السبب انقلبت عليه ودبرت عملية اقصائه من حزب النهضة).
بذات القدر فلم تكن هناك مفاجأة في فوز حزب العمال بواحد وعشرين مقعدا، فمؤسسته السيدة لويزة حنون كانت ومازالت تقف في المعارضة الصلبة، التي تلقى اعجاب كثيرين، الذين قدروا ثباتها، وكان طبيعيا ان يصوت لصالحها بعض معارضي النظام الذين اتجه بعضهم الآخر الى دعم المستقلين الذين تضاعفت المقاعد التي حصدوها ثلاث مرات.
لم أجد غرابة ايضا في هبوط اسهم حزب «حمس» المتحالف مع الحكومة، لأن الصوت الاسلامي الذي ايد الحزب في السابق وجد في حزب الاصلاح بعد تأسيسه بقيادة الشيخ عبدالله جاب الله تعبيرا صادقا عنه، ويبدو ان السلطة التي ساعدت الحزب في الماضي لم توفر له نفس المساعدة هذه المرة، حيث اكتفت في ايحائها بالشفافية بالسماح لثلاثة احزاب اسلامية بخوض الانتخابات ولم تمانع في ان يتوزع الصوت الاسلامي عليها، خصوصا بعدما اطمأنت الى ان حزب جبهة التحرير حصل على اغلبية أكثر من نصف اعضاء البرلمان، وبالتالي فإنه لن يكون بحاجة للتحالف مع آخرين في المجلس، ثم انه لن يكون مصدر ازعاج للحكومة.
من الملاحظات الجديرة بالرصد في هذا السياق ان ممثلي الاحزاب الاسلامية بمختلف مشاربهم وصل عددهم الى 82 عضوا، وهي كتلة تعني انه رغم كل ما جرى خلال العقدين الأخيرين، فإن القاعدة الاسلامية تظل حقيقة سياسية مهمة في الجزائر يتعذر تجاهلها.
يبقى السؤال الكبير: ما الذي يعنيه ذلك كله؟
لقد استبقت وأجبت على السؤال في البداية، حين ذكرت ان ما جرى كان حركة لا ريب، لكنها لن تستصحب تغييرا يذكر في المواقف السياسية الاساسية، ومن ثم فإنها تظل حركة في ذات المكان، ويتعذر اعتبارها خطوة للأمام، انه الاخراج الجديد لذات الفيلم القديم، الذي تلعب بطولته ـ مازالت ـ المؤسسة العسكرية صاحبة القرار، التي استطاعت توفيق اوضاعها مع الرئيس بوتفليقة، وتأقلم بدوره معها، أما متى يلعب الشعب الجزائري دور البطولة في المشهد السياسي، فالله وحده يعلم، وان كنا لا نكاد نرى له اجلا قريبا!