هويدي 10-3-2003
هناك أكثر من سبب للشعور بالقلق إزاء عقد مؤتمر بحث مستقبل شيعة العراق، الذي استضافته طهران يوم الخميس الماضي، فعلى صعيد شخصي، أخشى ان يساء فهم كلامي من جانب الذين تبنوا فكرة المؤتمر ونظموه، وفي المقدمة منهم السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق، الذي تربطني به علاقة مودة واحترام، احسبها متبادلة، بذات القدر فانني أخشى أن يساء توظيف كلامي من قبل الصائدين في الماء العكر، الذين يلحون على اثارة الشكوك بالنسبة للشيعة، ويسعون الى الوقيعة بينهم وبين السنة وتعميق أزمة الثقة بين الطرفين، كما أنني أخشى أن يستخدم المؤتمر ليس لضرب التعايش الشيعي السني فحسب، وإنما أيضا لتفتيت وحدة الصف الشيعي ذاته، فضلا عن الصف الوطني بطبيعة الحال، وقد لمسنا شيئا من ذلك القبيل في البيان الاحتجاجي والاستنكاري لفكرة عقد المؤتمر، الذي وقعه أكثر من خمسين شخصية شيعية معروفة، ونشر يوم الجمعة الماضي (3/7).
رغم ثقتي في شخص السيد الحكيم وفريقه، واطمئناني الى حسن نواياهم، إلا انني أزعم انهم تبنوا الفكرة الغلط، في التوقيت الغلط، والمكان الغلط، لماذا؟
حتى اذا افترضنا ان المائتين وخمسين شخصا الذين شاركوا في مؤتمر اليوم الواحد في طهران يمثلون شيعة العراق ـ وهذا غير دقيق ـ فإن الحديث عن مطالب الشيعة الآن يعد خطأ استراتيجيا قاتلا، أدري ان الشيعة في العراق لهم مشكلة مزمنة، تتلخص في أنهم أغلبية في المجتمع وأقلية في السلطة، التي جرى العرف على ان تكون بيد أهل السنة، وسواء كان ذلك العرف قد جرى التمسك به في ظل الدولة العثمانية، أو في ظل الاحتلال البريطاني، فالشاهد ان التقليد استمر واستقر، الأمر الذي أشعر الاغلبية الشيعية (60% تقريبا) بالغبن، منذ اقامة دولة العراق في عشرينيات القرن الماضي، وبعد نجاح الثورة الاسلامية في ايران، وانتعاش الحالة الشيعية بوجه عام، فان الشعور بالمظلومية تضاعف، الأمر الذي عمق من اشواق المتطلعين الى الانصاف الذي يعطي للشيعة حصة في هرم السلطة تعبر عن حجمهم الحقيقي على مستوى القاعدة، وذلك مطلب لا غبار عليه، وله مشروعيته لا ريب، لكن السؤال الذي يثيره المطلب هو كيف يتحقق ذلك؟
المشكلة ليست مقصورة على العراق، وإنما هي ظاهرة في العالم الثالث، الذي تعاني كثير من دوله من احتكار الأقلية للسلطة، سواء كانت تلك الاقلية تنتمي الى دين مغاير لعقيدة الأغلبية، كما هو الحاصل في عدة دول افريقية اغلبيتها مسلمة ولكن الحكم احتكرته أقلية غير مسلمة، وقد تكون تلك الأقلية المهيمنة طائفة أو حزبا أو عشيرة، وتلك كلها أوضاع غير طبيعية، ان دلت على شيء فإنما تدل على افتقاد الدافع السياسي الى الشفافية التي تستعجب التطبيق الديمقراطي، بحيث تكون السلطة معبرا تعبيرا أمينا عن خرائط ذلك الواقع وتضاريسه، بكلام آخر، فإننا لا نبالغ اذا ما قلنا بأن كل المجتمعات التي عانت من احتكار الأقلية للسلطة هي مجتمعات غير ديمقراطية، ولذلك فان مشكلتها لن تحل إلا اذا خضعت لنظام ديمقراطي حقيقي يعبر بصدق عن كل مكونات المجتمع، لذلك فإنني كنت أتمنى ألا ينطلق المؤتمر من نقطة الدفاع عن حصة الشيعة ونصيبهم في سلطة العراق الجديد، وذلك يقتضي ألا يكون الحضور مقصورا على ممثلي الشيعة وحدهم، لان القضية هي قضية ديمقراطية في الأساس، وهي بهذه الصفة تهم كل القوى السياسية العراقية.
ان مشكلة حظوظ الشيعة في السلطة لن تحل إلا اذا حلت قضية الديمقراطية، واذا ما تصور أي أحد ان التمثيل العادل للشيعة يمكن أن يتحقق في ظل وضع غير ديمقراطي، فهو يخطئ خطأ جسيما، ثم آن لنا أن نسأل: أيهما أهم وأنفع للناس، ان تكون السلطة بيد حاكم عادل أم أن يكون الحاكم شيعيا؟، رب قائل يقول ان الجمع بين الصفتين في مجتمع أغلبيته شيعة هو الوضع الأمثل، لكن ذلك الوضع اذا لم يتحقق، وكان للناس ان يختاروا بين الحالتين، فاحسب ان عدل الحاكم أهم من انتمائه المذهبي، وقد ذهب العقل الاسلامي الى ما هو أبعد، حين وجدنا فقيها جللا مثل ابن تيمية يتبنى في كتابه «السياسة الشرعية» موقف الانحياز الى الكافر العادل في مواجهة المسلم الجائر، استنادا الى من قال ان الكافر العادل كفره عليه لكن عدله للناس، أما المسلم الجائر فان اسلامه له وجوره يعاني منه الناس، واذا كان ابن تيمية في اعلائه لقيمة العدل قد قدم الكافر على المسلم، فحري بنا ـ والموضوع الذي بين أيدينا أهم من ذلك بكثير ـ ان نقدم الحاكم العادل على الحاكم الشيعي، بحيث نضع العدل على رأس الأولويات، بحيث يتراجع شرط المذهب، وهو ما يسلط الضوء على جسامة الخطأ في حصر المناقشة في الشيعة وحدهم، على نحو يكاد يخرجهم من النسيج الوطني، ويعالج قضيتهم بمعزل عن نسيج المجتمع العراقي، فضلا عن انه يثير العديد من علامات الاستفهام لدى أهل السنة.
ذلك بالنسبة لفكرة عقد المؤتمر، أما توقيته فالخطأ فيه ظاهر، ذلك انه ينعقد بينما طبول الحرب تدق، والحديث متواتر عن اجتياح قادم، صحيح انه يستهدف النظام القائم كما يقال، إلا ان من المؤكد انه يستهدف نفط العراق في الوقت ذاته، واذا ما قاوم النظام عملية الغزو، فان ذلك يؤدي الى سقوط اعداد كبيرة من العراقيين، واشاعة الخراب في البلاد، وهو يعني ان البلد كله في خطر، وان سفينته معرضة للغرق. فهل ان اجواء من ذلك القبيل تشكل ظرفا مناسبا للحديث عن حصة الطائفة أو ما يسمى بـ«ترتيب البيت الشيعي» من دون غيره. لقد تمنيت في الوقت الراهن ان يلزم الجميع انفسهم بشعار لا صوت يعلو فوق صوت الوطن، ولكن اجتماع طهران برز في الساحة لكي يسمعنا صوت الطائفة، الأمر الذي أدى الى تراجع صوت الوطن، وتنزيل رتبته من الأولى الى الثانية.
صحيح ان هناك من يقول إن الولايات المتحدة تجاهلت شيعة العراق بصورة نسبية، ونقلت إليهم رسالة ضمنية تدعوهم الى عدم المبالغة في تطلعاتهم، وان الذي سيحكم العراق في الأجل المنظور ليس الشيعة أو السنة، ولكن ادارة اميركية هي التي ستمسك بزمام السلطة لفترة انتقالية، الى حين تسليمها الى هيئة عراقية منتخبة، وبالاجتماع الذي عقد فان الشيعة أرادوا أن يثبتوا وجودهم ويرفعوا صوتهم في اللحظات الأخيرة التي تسبق عملية الغزو، لكي لا يبخسهم الاميركيون حقهم، ورغم ان تلك حجة لها وجاهتها، إلا ان سلبياتها كثيرة، ومعالجتها بهذه الطريقة في الظرف الراهن أضرت أكثر مما نفعت.
اذا جئنا الى الخطأ الثالث المتعلق بعقد المؤتمر في طهران، فأول ما يتبادر الى الذهن ان السلطة الايرانية ليست بعيدة عن موضوع المؤتمر، وان شيعة العراق ـ أو الذين اجتمعوا منهم في طهران ـ كانت لهم حساباتهم وهم يتنادون للاجتماع، ولكن السلطة الايرانية كانت لها حساباتها ايضا وهي تستضيفه على أراضيها، وقد يكون صحيحا ما يقوله البعض في ايران من ان الحكومة الايرانية لا تقف وراء المؤتمر، وإنما الأمر كله مرتب مع حرس الثورة، وهؤلاء يدللون على رأيهم بقولهم ان الاعلام الايراني الرسمي لم يهتم بالمؤتمر ولم يبرزه، لكن من الصحيح ايضا ان الحكومة الايرانية لو لم تكن راضية بالمؤتمر ومرحبة بنتائجه، لحالت دون عقده، وان السكوت في هذه الحالة لا يبعد السلطة الايرانية عن أجواء المؤتمر وأهدافه، وإنما هي من قبيل السكوت الذي يعد علامة على الرضى.
هناك من يقول إنه اذا كان شيعة العراق قد أرادوا ان يبعثوا الى الاميركيين برسالة عبر المؤتمر، فان ايران بدورها أرادت ان تبعث الى واشنطن برسالة أخرى موازية وان ورقة الشيعة لا ينبغي تجاهلها، وهي من الاوراق المؤثرة التي مازالت بيد ايران.
هناك تحليل آخر يرى ان ايران كان لها دورها المهم في اسقاط نظام حركة طالبان في افغانستان، وبعد ان تمت العملية فان الاميركيين عملوا على تقليص الدور الايراني والانفراد بسلطة القرار هناك، وهو ما لا يريد الايرانيون له أن يتكرر في حالة العراق، التي تختلف كثيرا عن افغانستان، لكنها بالغة الأهمية بالنسبة لايران، ليس فقط من الناحية الاستراتيجية والأمنية، ولكن من الناحية المذهبية أيضا، فالشيعة أغلبية هناك، كما ان أحد المقدسات الشيعية موجود هناك أيضا، وعلى رأسها ضريح الامام علي في النجف الاشرف، والامام الحسين في كربلاء، وهناك مقدسات أخرى في الكاظمية وسامراء، ولا ينسى في هذا الصدد ان «الحوزة العلمية» في النجف الاشرف كانت بمثابة «الأزهر» بالنسبة للشيعة في العالم الاسلامي، ولكن بطش النظام البعثي أضعفها، في حين ادى قيام الثورة الاسلامية في ايران الى صعود نجم «قم» والحوزة العلمية بها.
لقد كانت استضافة طهران للمؤتمر اشارة يمكن ان تستقبل بحسبانها دليلا على ان المجتمعين ضمن الفريق الموالي لايران، الأمر الذي قد يثير قلق بعض الدوائر في المنطقة في حالة ما اذا تحقق للمجتمعين ما يريدونه من حصة أكبر في الوضع العراقي الذي سينشأ بعد الحرب، وهي ذات الدوائر التي كانت قلقة في السابق من النفوذ الايراني، وفي احتمالات «تصدير الثورة» الى الجيران، وسواء كانت تلك الشكوى قوية أو ضعيفة، فان مجرد انعقاد المؤتمر يعد مسوغا لها، ليس ذلك فحسب، وإنما يعد ايضا سابقة تفتح الباب لامكانية عقد مؤتمرات أخرى بالعاصمة الايرانية لبحث مستقبل الشيعة في دول بالمنطقة غير ايران، وهو افتراض قد يبدو بعيدا في الوقت الراهن، لكن وقوع «السابقة» يجعله واردا تحت أي ظرف، الأمر الذي يستدعي شكوكا كان يمكن تجنبها لو ان المؤتمر عقد في مكان آخر.
أكرر انني أثق كثيرا في حسن نية الذين رتبوا عقد المؤتمر واستضافوه، لكنني أزعم ان حسن النية وحده لا يكفي، وإنما ينبغي ان يقترن ذلك بحسن التقدير، ومن أسف ان التوفيق لم يحالفهم في هذا الشق الأخير، ولذلك فان جهدا خاصا ينبغي أن يبذل لتدارك ما جرى، ومن ثم إزالة آثار الهواجس والالتباسات التي نشأت من جرائه.
هناك أكثر من سبب للشعور بالقلق إزاء عقد مؤتمر بحث مستقبل شيعة العراق، الذي استضافته طهران يوم الخميس الماضي، فعلى صعيد شخصي، أخشى ان يساء فهم كلامي من جانب الذين تبنوا فكرة المؤتمر ونظموه، وفي المقدمة منهم السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق، الذي تربطني به علاقة مودة واحترام، احسبها متبادلة، بذات القدر فانني أخشى أن يساء توظيف كلامي من قبل الصائدين في الماء العكر، الذين يلحون على اثارة الشكوك بالنسبة للشيعة، ويسعون الى الوقيعة بينهم وبين السنة وتعميق أزمة الثقة بين الطرفين، كما أنني أخشى أن يستخدم المؤتمر ليس لضرب التعايش الشيعي السني فحسب، وإنما أيضا لتفتيت وحدة الصف الشيعي ذاته، فضلا عن الصف الوطني بطبيعة الحال، وقد لمسنا شيئا من ذلك القبيل في البيان الاحتجاجي والاستنكاري لفكرة عقد المؤتمر، الذي وقعه أكثر من خمسين شخصية شيعية معروفة، ونشر يوم الجمعة الماضي (3/7).
رغم ثقتي في شخص السيد الحكيم وفريقه، واطمئناني الى حسن نواياهم، إلا انني أزعم انهم تبنوا الفكرة الغلط، في التوقيت الغلط، والمكان الغلط، لماذا؟
حتى اذا افترضنا ان المائتين وخمسين شخصا الذين شاركوا في مؤتمر اليوم الواحد في طهران يمثلون شيعة العراق ـ وهذا غير دقيق ـ فإن الحديث عن مطالب الشيعة الآن يعد خطأ استراتيجيا قاتلا، أدري ان الشيعة في العراق لهم مشكلة مزمنة، تتلخص في أنهم أغلبية في المجتمع وأقلية في السلطة، التي جرى العرف على ان تكون بيد أهل السنة، وسواء كان ذلك العرف قد جرى التمسك به في ظل الدولة العثمانية، أو في ظل الاحتلال البريطاني، فالشاهد ان التقليد استمر واستقر، الأمر الذي أشعر الاغلبية الشيعية (60% تقريبا) بالغبن، منذ اقامة دولة العراق في عشرينيات القرن الماضي، وبعد نجاح الثورة الاسلامية في ايران، وانتعاش الحالة الشيعية بوجه عام، فان الشعور بالمظلومية تضاعف، الأمر الذي عمق من اشواق المتطلعين الى الانصاف الذي يعطي للشيعة حصة في هرم السلطة تعبر عن حجمهم الحقيقي على مستوى القاعدة، وذلك مطلب لا غبار عليه، وله مشروعيته لا ريب، لكن السؤال الذي يثيره المطلب هو كيف يتحقق ذلك؟
المشكلة ليست مقصورة على العراق، وإنما هي ظاهرة في العالم الثالث، الذي تعاني كثير من دوله من احتكار الأقلية للسلطة، سواء كانت تلك الاقلية تنتمي الى دين مغاير لعقيدة الأغلبية، كما هو الحاصل في عدة دول افريقية اغلبيتها مسلمة ولكن الحكم احتكرته أقلية غير مسلمة، وقد تكون تلك الأقلية المهيمنة طائفة أو حزبا أو عشيرة، وتلك كلها أوضاع غير طبيعية، ان دلت على شيء فإنما تدل على افتقاد الدافع السياسي الى الشفافية التي تستعجب التطبيق الديمقراطي، بحيث تكون السلطة معبرا تعبيرا أمينا عن خرائط ذلك الواقع وتضاريسه، بكلام آخر، فإننا لا نبالغ اذا ما قلنا بأن كل المجتمعات التي عانت من احتكار الأقلية للسلطة هي مجتمعات غير ديمقراطية، ولذلك فان مشكلتها لن تحل إلا اذا خضعت لنظام ديمقراطي حقيقي يعبر بصدق عن كل مكونات المجتمع، لذلك فإنني كنت أتمنى ألا ينطلق المؤتمر من نقطة الدفاع عن حصة الشيعة ونصيبهم في سلطة العراق الجديد، وذلك يقتضي ألا يكون الحضور مقصورا على ممثلي الشيعة وحدهم، لان القضية هي قضية ديمقراطية في الأساس، وهي بهذه الصفة تهم كل القوى السياسية العراقية.
ان مشكلة حظوظ الشيعة في السلطة لن تحل إلا اذا حلت قضية الديمقراطية، واذا ما تصور أي أحد ان التمثيل العادل للشيعة يمكن أن يتحقق في ظل وضع غير ديمقراطي، فهو يخطئ خطأ جسيما، ثم آن لنا أن نسأل: أيهما أهم وأنفع للناس، ان تكون السلطة بيد حاكم عادل أم أن يكون الحاكم شيعيا؟، رب قائل يقول ان الجمع بين الصفتين في مجتمع أغلبيته شيعة هو الوضع الأمثل، لكن ذلك الوضع اذا لم يتحقق، وكان للناس ان يختاروا بين الحالتين، فاحسب ان عدل الحاكم أهم من انتمائه المذهبي، وقد ذهب العقل الاسلامي الى ما هو أبعد، حين وجدنا فقيها جللا مثل ابن تيمية يتبنى في كتابه «السياسة الشرعية» موقف الانحياز الى الكافر العادل في مواجهة المسلم الجائر، استنادا الى من قال ان الكافر العادل كفره عليه لكن عدله للناس، أما المسلم الجائر فان اسلامه له وجوره يعاني منه الناس، واذا كان ابن تيمية في اعلائه لقيمة العدل قد قدم الكافر على المسلم، فحري بنا ـ والموضوع الذي بين أيدينا أهم من ذلك بكثير ـ ان نقدم الحاكم العادل على الحاكم الشيعي، بحيث نضع العدل على رأس الأولويات، بحيث يتراجع شرط المذهب، وهو ما يسلط الضوء على جسامة الخطأ في حصر المناقشة في الشيعة وحدهم، على نحو يكاد يخرجهم من النسيج الوطني، ويعالج قضيتهم بمعزل عن نسيج المجتمع العراقي، فضلا عن انه يثير العديد من علامات الاستفهام لدى أهل السنة.
ذلك بالنسبة لفكرة عقد المؤتمر، أما توقيته فالخطأ فيه ظاهر، ذلك انه ينعقد بينما طبول الحرب تدق، والحديث متواتر عن اجتياح قادم، صحيح انه يستهدف النظام القائم كما يقال، إلا ان من المؤكد انه يستهدف نفط العراق في الوقت ذاته، واذا ما قاوم النظام عملية الغزو، فان ذلك يؤدي الى سقوط اعداد كبيرة من العراقيين، واشاعة الخراب في البلاد، وهو يعني ان البلد كله في خطر، وان سفينته معرضة للغرق. فهل ان اجواء من ذلك القبيل تشكل ظرفا مناسبا للحديث عن حصة الطائفة أو ما يسمى بـ«ترتيب البيت الشيعي» من دون غيره. لقد تمنيت في الوقت الراهن ان يلزم الجميع انفسهم بشعار لا صوت يعلو فوق صوت الوطن، ولكن اجتماع طهران برز في الساحة لكي يسمعنا صوت الطائفة، الأمر الذي أدى الى تراجع صوت الوطن، وتنزيل رتبته من الأولى الى الثانية.
صحيح ان هناك من يقول إن الولايات المتحدة تجاهلت شيعة العراق بصورة نسبية، ونقلت إليهم رسالة ضمنية تدعوهم الى عدم المبالغة في تطلعاتهم، وان الذي سيحكم العراق في الأجل المنظور ليس الشيعة أو السنة، ولكن ادارة اميركية هي التي ستمسك بزمام السلطة لفترة انتقالية، الى حين تسليمها الى هيئة عراقية منتخبة، وبالاجتماع الذي عقد فان الشيعة أرادوا أن يثبتوا وجودهم ويرفعوا صوتهم في اللحظات الأخيرة التي تسبق عملية الغزو، لكي لا يبخسهم الاميركيون حقهم، ورغم ان تلك حجة لها وجاهتها، إلا ان سلبياتها كثيرة، ومعالجتها بهذه الطريقة في الظرف الراهن أضرت أكثر مما نفعت.
اذا جئنا الى الخطأ الثالث المتعلق بعقد المؤتمر في طهران، فأول ما يتبادر الى الذهن ان السلطة الايرانية ليست بعيدة عن موضوع المؤتمر، وان شيعة العراق ـ أو الذين اجتمعوا منهم في طهران ـ كانت لهم حساباتهم وهم يتنادون للاجتماع، ولكن السلطة الايرانية كانت لها حساباتها ايضا وهي تستضيفه على أراضيها، وقد يكون صحيحا ما يقوله البعض في ايران من ان الحكومة الايرانية لا تقف وراء المؤتمر، وإنما الأمر كله مرتب مع حرس الثورة، وهؤلاء يدللون على رأيهم بقولهم ان الاعلام الايراني الرسمي لم يهتم بالمؤتمر ولم يبرزه، لكن من الصحيح ايضا ان الحكومة الايرانية لو لم تكن راضية بالمؤتمر ومرحبة بنتائجه، لحالت دون عقده، وان السكوت في هذه الحالة لا يبعد السلطة الايرانية عن أجواء المؤتمر وأهدافه، وإنما هي من قبيل السكوت الذي يعد علامة على الرضى.
هناك من يقول إنه اذا كان شيعة العراق قد أرادوا ان يبعثوا الى الاميركيين برسالة عبر المؤتمر، فان ايران بدورها أرادت ان تبعث الى واشنطن برسالة أخرى موازية وان ورقة الشيعة لا ينبغي تجاهلها، وهي من الاوراق المؤثرة التي مازالت بيد ايران.
هناك تحليل آخر يرى ان ايران كان لها دورها المهم في اسقاط نظام حركة طالبان في افغانستان، وبعد ان تمت العملية فان الاميركيين عملوا على تقليص الدور الايراني والانفراد بسلطة القرار هناك، وهو ما لا يريد الايرانيون له أن يتكرر في حالة العراق، التي تختلف كثيرا عن افغانستان، لكنها بالغة الأهمية بالنسبة لايران، ليس فقط من الناحية الاستراتيجية والأمنية، ولكن من الناحية المذهبية أيضا، فالشيعة أغلبية هناك، كما ان أحد المقدسات الشيعية موجود هناك أيضا، وعلى رأسها ضريح الامام علي في النجف الاشرف، والامام الحسين في كربلاء، وهناك مقدسات أخرى في الكاظمية وسامراء، ولا ينسى في هذا الصدد ان «الحوزة العلمية» في النجف الاشرف كانت بمثابة «الأزهر» بالنسبة للشيعة في العالم الاسلامي، ولكن بطش النظام البعثي أضعفها، في حين ادى قيام الثورة الاسلامية في ايران الى صعود نجم «قم» والحوزة العلمية بها.
لقد كانت استضافة طهران للمؤتمر اشارة يمكن ان تستقبل بحسبانها دليلا على ان المجتمعين ضمن الفريق الموالي لايران، الأمر الذي قد يثير قلق بعض الدوائر في المنطقة في حالة ما اذا تحقق للمجتمعين ما يريدونه من حصة أكبر في الوضع العراقي الذي سينشأ بعد الحرب، وهي ذات الدوائر التي كانت قلقة في السابق من النفوذ الايراني، وفي احتمالات «تصدير الثورة» الى الجيران، وسواء كانت تلك الشكوى قوية أو ضعيفة، فان مجرد انعقاد المؤتمر يعد مسوغا لها، ليس ذلك فحسب، وإنما يعد ايضا سابقة تفتح الباب لامكانية عقد مؤتمرات أخرى بالعاصمة الايرانية لبحث مستقبل الشيعة في دول بالمنطقة غير ايران، وهو افتراض قد يبدو بعيدا في الوقت الراهن، لكن وقوع «السابقة» يجعله واردا تحت أي ظرف، الأمر الذي يستدعي شكوكا كان يمكن تجنبها لو ان المؤتمر عقد في مكان آخر.
أكرر انني أثق كثيرا في حسن نية الذين رتبوا عقد المؤتمر واستضافوه، لكنني أزعم ان حسن النية وحده لا يكفي، وإنما ينبغي ان يقترن ذلك بحسن التقدير، ومن أسف ان التوفيق لم يحالفهم في هذا الشق الأخير، ولذلك فان جهدا خاصا ينبغي أن يبذل لتدارك ما جرى، ومن ثم إزالة آثار الهواجس والالتباسات التي نشأت من جرائه.