مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
فريضة الوقت الغائبة: مخاطبة الرأي العام الغربي
هويدي 8-4-2002

في لقاءاته بالقاهرة طيلة الأسبوع الماضي، كرر الباحث الأمريكي المرموق جون اسبوزيتو، الاستاذ بجامعة جورج تاون، انتقاده أكثر من مرة للغياب العربي عن المحيط الاعلامي والأكاديمي في الولايات المتحدة. وقال انه منذ وقعت الواقعة في 11 سبتمبر (أيلول)، فانه أصبح ينفق حوالي 8 ساعات من وقته يومياً لكي يجيب على أسئلة أجهزة الاعلام ويتحدث في المحافل والندوات التي تناقش موضوع العلاقة مع الاسلام والمسلمين. ذلك أنه بحكم اختصاصه كاستاذ للشؤون الدولية والدراسات الاسلامية، فضلاً عن كونه واحداً من أبرز الذين ناقشوا وردوا في وقت مبكر مقولة «الخطر الاسلامي»، واعتبرها وهما وادعاء، فإنه وجد نفسه مستدعى في كل مناسبة لكي يتحدث أمام مختلف المنابر الأكاديمية والاعلامية مجيباً عن الأسئلة المثارة حول الموضوع.
ملاحظة ذلك الغياب يسمعها المرء من كثيرين من المقيمين بالولايات المتحدة أو العائدين منها، وبينهم اجماع على أن الساحة تكاد تكون حكراً على الأبواق الاعلامية والأصوات المعبرة عن وجهة النظر الاسرائيلية. ان شئنا الدقة فقد نقول انه ليس غياباً فقط، وانما هناك تغييب أيضاً، حيث تحرص مراكز القوى المنحازة لاسرائيل على حجب واقصاء وجهة النظر الأخرى (العربية والاسلامية)، ما وجدت الى ذلك سبيلاً. أكثر من ذلك فإن تلك الأطراف المنحازة والمعادية للعرب والمسلمين بذلت طيلة السنوات الأخيرة جهداً حثيثاً لابعاد حتى العناصر المنصفة من الأمريكيين أنفسهم، من مواقع التأثير والقرار. ذلك ملحوظ بشدة مثلاً في وزارة الخارجية الأمريكية وفي أغلب مراكز البحوث المتعلقة بالشرق الأوسط. وقد حدثني أحد الخبراء العرب الأمريكيين المقيمين في واشنطون عن أن عملية «تطهير» أجهزة وزارة الخارجية من كافة العناصر غير الموالية لاسرائيل استمرت طيلة العقود الثلاثة الأخيرة، منذ كان هنري كيسنجر وزيراً للخارجية، وهو أبرز إن لم يكن أول يهودي يحتل ذلك المنصب. وكانت نتيجة ذلك ان كل ما له علاقة بالشرق الأوسط في الخارجية الأمريكية أصبح حكراً على العناصر الموالية لاسرائيل.
في كتابات البروفسور ادوارد سعيد أكثر من شهادة تحدثت عن جريمة الاعلام في الولايات المتحدة، الذي تولى «صهينة» العقل الأمريكي، إذ غسل أدمغة الناس عامداً، ونجح في اقناعهم بأن الاسرائيليين هم ضحايا «الارهاب» الفلسطيني، وان كل ما يفعلونه الآن انهم يدافعون عن أنفسهم ضد هجمات «الارهابيين». وهو المنطق الذي أصبح الرئيس بوش يتبناه في تصريحاته المعلنة، حتى في أوج عنف الاجتياحات والمظالم الاسرائيلية.
واذ أسجل ظاهرة التغييب التي تعمد اليها الدوائر المنحازة الى اسرائيل، فانني أتمنى ألا نعتبرها مشجباً نبرر به الغياب والقصور العربيين. ولا أريد أن أدخل في جدل حول السبب والنتيجة في هذا وذاك، وانما ألفت النظر الى أنهم بعملية التغييب التي يلجأون إليها يقومون بواجبهم في الدفاع عن مصالحهم ومشروعهم، أما نحن فبغيابنا واستسلامنا لعملية التغييب نتقاعس عن الدفاع عن حقوقنا ومصالحنا.
في هذا الصدد، يلاحظ الخبراء العرب الموجودون في الولايات المتحدة أن ثمة تجاهلاً شبه تام من جانب العالم العربي للرأي العام الأمريكي، وان الدول العربية تنشر ملاحق اعلانية في بعض الصحف والمجلات، ولكنها عادة ما تهتم بتحسين صورة الدولة المعلنة والحديث عن «انجازاتها». وذلك لا يهم ولا يؤثر في الرأي العام بأي شكل. يلاحظ أولئك الخبراء أيضاً أن المسؤولين العرب الذين يزورون العاصمة الأمريكية، بل والعواصم الأوربية أيضاً، لا تنظم لهم لقاءات مع وسائل الاعلام أو مراكز البحوث المعنية، وانما هم عادة ما يتحركون في دوائر ضيقة للغاية، لا تتجاوز بعض المسؤولين في الحكومة، أو أبناء جاليات الدولة التي ينتمون اليها، بينما يُعنى المسؤولون الاسرائيليون بلقاء المراسلين الصحفيين، ويحرصون أثناء زياراتهم على التواجد الدائم في وسائل الاعلام لمخاطبة الرأي العام.
بعد 11 سبتمبر (أيلول) بوجه أخص، وصلت معاناة العرب والمسلمين من جراء ذلك الغياب الى الذروة. وأدركوا كم نحن بحاجة الى التواصل مع الرأي العام الغربي بعامة، والأمريكي بوجه أخص، وسمعنا في تلك الأجواء كلاماً كثيراً من بعض المخلصين والمنصفين عن أهمية مخاطبة الرأي العام في الدول الديمقراطية، وكيف ان السياسي الغربي والأمريكي تحديداً عينه دائماً على الشارع وأصوات الناخبين، اذ يرى في استمرار كسب تلك الأصوات الضمانة الأهم لاستمراره في الحياة السياسية، ولذلك فانه لابد أن يضع رأي الجماهير في الاعتبار، وأن يكون شديد الحذر من الوقوع في محظور اتخاذ مواقف مخالفة لما تراه الجماهير.
ولا بد أن كثيرين لاحظوا أن الأجواء في أوروبا مختلفة بصورة نسبية عنها في الولايات المتحدة، من حيث أنه لاتزال في أوروبا ـ الأقرب نسبياً الى العالم العربي ـ عناصر ومؤسسات مدنية أقل تحيزاً لاسرائيل، وأكثر ادراكاً لعدالة الموقف الفلسطيني. ربما ساهم في ذلك ان اسرائيل أكثر اهتماماً بالولايات المتحدة، باعتبارها صاحبة الصدارة والقرار في النظام الدولي الراهن، ولذلك فان حرصها على احكام السيطرة على مؤسسات القرار ووسائل الاعلام هناك أشد منه بكثير في أوروبا، وقد ساعدتها على ذلك ظروف كثيرة بينها عزلة القارة الامريكية ومن ثم سهولة التأثير على الرأي العام وكسبه، ثم القدرات المالية الضخمة التي تتمتع بها الجالية اليهودية هناك، وفي هذا السياق لا يمكن اسقاط الأثر الناتج عن الغياب العربي عن الساحة الامريكية، الأمر الذي أحدث فراغا تمدد فيه الآخرون.
نعم ثمة اصوات عربية واسلامية هناك تسعى جاهدة للتصويب والتعبير عن وجهة النظر المصادرة، ولكن تلك الأصوات محدودة الفاعلية والامكانية ولم تستطع ان تصل الى الرأي العام، وهناك استثناءات محدودة بطبيعة الحال.
في الآونة الأخيرة لاحظنا ان في أوروبا روحا أخرى عبرت عنها التظاهرات التي خرجت في عواصم عدة، ووفود نشطاء السلام الذين توجهوا الى الأرض المحتلة، معبرين عن تضامنهم مع الرئيس عرفات والشعب الفلسطيني في المخيمات، كما لاحظنا ان الاتحاد الاوروبي عبر عن موقف مغاير للخط الامريكي، وأرسل وفدا للقاء عرفات ولكنه مُنع من ذلك.
كيف يمكن ان يصل الصوت العربي الى الرأي العام الغربي، والامريكي منه بوجه أخص؟ هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه، بعد ان نمر بتلك المشاهد، ونخلص الى ان تحقيق ذلك الهدف هو احدى أهم وسائل التأثير على القرار السياسي.
خلال الأشهر الأخيرة سافرت الى بعض العواصم الغربية بعض الوفود العربية، التي تدرك الآن انها لم تنجز شيئا يذكر، اذ ربما خاطبت بعض عناصر النخب، لكنها لم توصل شيئا الى الرأي العام، الذي لا تؤثر فيه مثل تلك الزيارة الخاطفة، ناهيك من الفوضى التي اتسمت بها عملية ارسال الوفود، الأمر الذي انتقدته في هذا المكان.
(مقال بعنوان «هرولة غير مبررة نحو حوار عقيم» نشر في 3/25) ومن مظاهر تلك الفوضى ما أدركته لاحقا من أن مؤتمر وزراء خارجية الدول الاسلامية كان قد أصدر قرارا في عام 2001 كلف فيه المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة «ايسيسكو» بمباشرة الانشطة المقرر عقدها باسم العالم الاسلامي في اطار «سنة الأمم المتحدة للحوار بين الحضارات» وقد بذلت المنظمة جهودا عدة ونظمت أكثر من مؤتمر لاجراء ذلك الحوار ولكن الدول العربية والاسلامية حين تحركت بعد 11 سبتمبر لتنشيط الحوار مع الاخر، فإنها تجاهلت تماما ان ثمة جهة مكلفة بهذه العملية من قبل منظمة المؤتمر الاسلامي، وتصرف كل طرف بمفرده وعلى مسؤوليته، ودون تنسيق او ترتيب مع الآخر. هذا ما فهمته من رسالة مسكونة بالعتاب والأسف تلقيتها بعد نشر مقالي من مدير «الايسيسكو» الدكتور عبد العزيز التويجري.
لدي اقتراح محدد قد يساعد في توصيل الحقيقة المحجوبة والمسكوت عليها الى الرأي العام في اوروبا واميركا استقيته من التجربة المصرية إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي شنته اسرائيل بالاشتراك مع بريطانيا وفرنسا، ذلك انه حين وقع العدوان جرى تصوير ما فعلته القوات البريطانية في مدينة بور سعيد بعد احتلالها، ثم طبعت نسخ من الصور وكلف الرئيس جمال عبد الناصر اثنين من الشخصيات ذات العلاقة بالنخبة الاوروبية بحمل تلك الصور وتوزيعها على الصحف في انجلترا وفرنسا، وكان الرجلان هما الاستاذ مصطفى أمين الصحفي المصري المعروف، وشخص آخر لبناني من اسرة البستاني، لا يحضرني اسمه كاملا، سافر الاثنان على الطائرة الخاصة للبستاني وتم توصيل الصور الى الصحف البريطانية والفرنسية وكان لهذه العملية تأثيرها على الرأي العام في العاصمتين، حتى خرجت تظاهرة كبيرة في ميدان «الطرف الأغر» بلندن، هتفت بسقوط رئيس الوزراء البريطاني ـ آنذاك ـ انتوني ايدن.
اقتراحي هو ان تستثمر الاشرطة التي سجلت الفظائع التي تجري في الضفة الغربية التي شاهدناها على الهواء خصوصا عبر قناتي «الجزيرة» و«أبو ظبي»، وان نعد من هذه شريطا أو أكثر، ثم يجري اغراق العواصم الغربية، ليتنا لا ننسى أهم العواصم الاسيوية بتلك الاشرطة، لكي يتاح للجماهير العريضة ان ترى ما حجب عنها، ومن السهل شراء وقت محدد في محطات التلفزيون لعرض تلك الاشرطة ، كما ان السفارات العربية والمراكز الاسلامية تستطيع ان تمكن الناس من مشاهدتها، واذا كانت السفارات الاميركية تتولى الآن توزيع حقائب متضمنة اشرطة وتسجيلات ادانة علمائنا للهجوم على نيويورك وواشنطون على كل من يهمه الأمر في العواصم العربية والاسلامية، فلماذا لا تتولى سفاراتنا العربية توصيل اشرطة الجرائم الاسرائيلية في الأرض المحتلة الى كل المعنيين في العواصم الغربية ايضا.
ثمة اسئلة كثيرة تتعلق بالتفاصيل، لا مجال للخوض فيها هنا، ولكن أكثر ما يهمني هو أن نركز الاشرطة المراد توزيعها ليس على الجرائم الاسرائيلية فحسب، وانما على ان الاحتلال هو جوهر المشكلة، وهو الذي يدفع الفلسطينيين الى مقاومته بكل السبل، بما في ذلك العمليات الاستشهادية، التي كانت السلاح الاخير الذي لجأ اليه الفلسطينيون بعدما فشلت كل الوسائل الأخرى في ردع المحتلين واجلائهم.
لنتفكر في الأمر، ومن كان لديه اقتراح افضل للوصول الى الرأي العام الغربي فليتقدم، اذ المهم الا تترك تلك الجبهة لكي ينفرد بها الاسرائيليون ومن لف لفهم. افعلوا شيئا يرحمكم الله.
[email protected]
أضافة تعليق