هويدي 7-4-2003
بائع (عراقي) في محله، ينزل صور «الرئيس» بامتعاض، ويرميها جانبا بغضب، تدك صواريخ «اجنبية» احدى ضواحي مدينته، يركض البائع الى الصورة، ويرفعها عن الارض بعناد وقلة حيلة، ويعيدها الى الجدار.
هذه «اللقطة» اوردتها كاتبة عراقية (هاجر القحطاني ـ القدس العربي 4/1) في سياق تسجيلها لبعض برقيات المعركة الراهنة واحسبها تصور ببساطة وصدق كبيرين موقف الاغلبية من الحالة العراقية، وهي الاغلبية التي عارضت وقاومت باشكال عدة نظام الرئيس صدام حسين، ولم يختلف رأيها فيه كثيرا عن رأي البائع العراقي، ولكنها حين وجدت الوطن العراقي يتعرض للغزو والاغتصاب، فانها لم تنشغل بمعركتها مع الرئيس ونظامه ولكنها التفت حول الوطن تحاول الذود عنه ورد عدوان الغزاة والغاصبين، إذا شئت فقل انه نوع من الاختيار الصعب بين شرين أو كارثتين، كان احتلال الوطن وتدميره هو الشر الاعظم والكارثة الكبرى، التي يتعين على كل ذي حس وطني أو قومي، بل كل ذي عقل رشيد ان يهب لدفعها بكل السبل.
بل اننا اذا امعنا النظر في المشهد، فسنجد العدوان الراهن على العراق هو مقدمة للعدوان على الامة العربية في حقيقة الامر، لست اقول ذلك انطلاقا فقط من الرؤية التي سجلتها قرارات القمة العربية في هذا الصدد، والتي كانت العبارة السابقة من بين نصوصها، ولكن ايضا لان الادارة الامريكية لم تخف ذلك الهدف. وكان اوضح تعبير عن ذلك هو اعلان وزير الخارجية كولن باول في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي ان للحرب اهدافا ثلاثة هي: اسقاط النظام العراقي، واعادة رسم خريطة المنطقة العربية بما يخدم المصالح الامريكية، واغلاق ملف الصراع العربي الاسرائيلي، بانهاء القضية الفلسطينية، وهو اعلان لا يدع مجالا للشك في أن المستهدف ليس العراق وحده، وانما الامة العربية باسرها، ذلك غير الاهداف الاخرى بطبيعة الحال، التي ازعجت قوى دولية اخرى مثل فرنسا والمانيا وروسيا.
من وجهة النظر العربية، فان هذا العدوان يستهدف عند الحد الادنى وطنا عربيا، هو في كل احواله احد الاعمدة الاساسية في النظام العربي، وعند الحد الاقصى، فأنه يستهدف اخضاع الامة العربية كلها، وتطويعها لخدمة المصالح الامريكية. ولست بحاجة لان اناقش مقولات التعددية والديمقراطية وغير ذلك من الدعاوى الزائفة التي يتشدق بها ممثلو الادارة الامريكية ومن لف لفهم من بعض الاصوات النشاز في العالم العربي. فهي دعاوى فندتها من قبل وفضحها آخرون، ثم انها لم تعد تنطلي على أحد، خصوصا بعدما تابع الجميع عمليات القصف ونتائجها على شاشات التليفزيون، واقتنعوا اكثر فاكثر بأنه لا مجال لتصديق مقولة ان الامريكيين جاءوا لكي يخلصوا العراقيين، عن طريق قتلهم وتهديم بيوتهم وقطع المياه والتيار الكهربائي عنهم!
هكذا فان الرؤية الصائبة للمشهد تقتضي وضع العدوان في مكانه واطاره الصحيحين من حيث انه يستهدف وطنا عربيا والامة العربية، من هذه الزاوية فانه يغدو خطرا ينبغي ان يحتل الاولوية القصوى في الادراك العربي، بحيث يصبح على الجميع ان يرتفعوا الى مستوى المسؤولية، ليستنفروا ويحتشدوا في مواجهته ومقاومته، الامر الذي يؤدي تلقائيا الى تراجع الشرور الاخرى بصورة مؤقتة، بحيث تحتل رتبة تالية في الاهتمام والتصدي.
من اسف ان هذه الرؤية التبست على البعض وهؤلاء فريقان. فريق لم ير مكامن الخطر الذي اشرنا اليه، ومن ثم فقد شغل اهله بمراراتهم وثاراتهم الخاصة ازاء النظام العراقي وقيادته ولسان حالهم يقول: ليذهب ذلك النظام الى الجحيم بأي ثمن، وليكن ما يكون، وبسبب هيمنة مشاعر المرارة والثأر، فان هؤلاء اعتبروا ان رفض العدوان الامريكي بمثابة انحياز للنظام العراقي ومحاولة لاطالة عمره، ان شئت فقل انهم تعاملوا مع الاخرين بذات المنطق الذي رفعته الادارة الامريكية في اعقاب 11 سبتمبر، والذي يخير الجميع بين ان يكونوا «معنا أو ضدنا»، بالتالي فكل من لم يؤيد العدوان صنف في مربع «الضد» العراقي.
الفريق الثاني تعامل مع مخطط العدوان باعتباره قدرا لافكاك منه، ومن ثم فان اركانه تسابقوا على الالتحاق بالموجة والتعلق بالمركبة الامريكية، متصورين انها طوق النجاة والورقة الرابحة لا محالة.
وليس خافيا ان الذين خططوا للعدوان استثمروا الى ابعد مدى الرصيد البأس للنظام العراقي في الذاكرة العربية. بل كان رهانهم الاساسي على ذلك الالتباس، حتى تحقق لهم ما ارادوا بدرجة أو اخرى.
خطورة الالتباس في هذه الحالة لا تقف عند حدود الغلط في التشخيص، ولكنها تفتح الباب لتداعيات بالغة السوء في المستقبل، بعضها يتعلق بقطع الوشائج وتعميق الخصومات العربية، والبعض الاخر يتعلق بمستقبل النظام العربي ككل، واسوأ من هذا وذاك ان من شأنه ان يمهد الطريق للاجتياح الكبير الذي يهدد الامة بأسرها.
يحضرني هنا المشهد الاوروبي في عام 1940، حين كانت قوات هتلر تهدد انحاء اوروبا وتجتاحها بلدا تلو الآخر، بينما التناقض قائم بين الاتحاد السوفياتي من جانب، ودول غرب اوروبا وعلى رأسها انجلترا وفرنسا من جانب آخر، وهو تناقض كان يرتكز على الخصومة الايديولوجية المستحكمة بين النظامين الشيوعي والرأسمالي، لكن الطرفين ادركا ان الخطر النازي الزاحف يهددهما معا، وكان امامهما احد طريقين، اما ان يتمسك كل طرف بخصومته فيتعرض الطرفان للاجتياح واحدا بعد الاخر، واما ان يرتفعا فوق الخصومة الايديولوجية وفوق بحر المرارات التي افرزتها ويقفان معا في خندق واحد للتصدي للخطر المشترك. واذ تغلب العقل والنظر البعيد على العاطفة والنظر تحت الاقدام، فان الطرفين وجدا مصلحة مشتركة في تأجيل الخصومات الايديولوجية، وتحالفا معا ضد الخطر النازي، حتى نجحا في صده وهزيمته في نهاية المطاف، ثم عاد كل طرف الى مواقعه التي كان عليها في السابق، فيما عرف لاحقا باسم الحرب الباردة.
الامر ليس مختلفا كثيرا في المشهد الذي نحن بصدده الان، ورغم انني احد الذين يدركون حجم الجرائم التي ارتكبها النظام العراقي بحق شعبه اولا وبحق بعض جيرانه ثانيا، الا ان تلك الجرائم على جسامتها تظل من دون عمق وحدة الصراع الايديولوجي المصيري الذي كان بين الشيوعية والرأسمالية في الاربعينات، واذا لاحظنا ان الاوروبيين الغربيين والسوفيات لم يحسموا خلافاتهم أو تناقضاتهم، وانما قاموا بترحيلها فحسب، فكم كان المرء يتمنى لو تم استلهام النموذج في حالتنا الراهنة، عن طريق ترحيل الخصومات والمرارات والاستنفار لمواجهة الخط المشترك. نعم هذا ما فعلته قطاعات واسعة من الجماهير العراقية بأصالتها، وحسها الحضاري العميق، حين ارتفعت فوق أحزانها ومعاناتها، وهبت في لحظة صدق نبيل لكي تحول دون سقوط الوطن بأيدي الغزاة، على النحو الذي فعله البائع سابق الذكر، فمنهم من تصدى للغزو بما يملك من سلاح متواضع، ومنهم من ابتلع الجراح والتزم الصمت، مخيباً آمال الذين راهنوا على انتفاضة الشارع العراقي على نظامه وحفاوته بالغزاة.
أما فيما يخص الدول المجاورة، وبين بعضها وبين نظام بغداد ما صنع الحداد، فلم يكن يتوقع المرء أن تكرر مع العراق نموذج أوروبا والاتحاد السوفياتي في مواجهة الخطر النازي .. لأسباب يطول شرحها. ومع ذلك فينبغي أن يحمد لايران تمسكها بالوقوف على الحياد النسبي في الحرب، واعلانها عن رفض الاعتراف بأي حكومة ينصبها الامريكان في بغداد، برغم أن النظام العراقي خاض ضدها حرباً استمرت ثماني سنوات، وراح ضحيتها أكثر من 200 ألف قتيل وخلفت 300 ألف معوق، غير عشرة آلاف ايراني اصيبوا بالغازات السامة ويموت منهم اعداد كل يوم.
وبوسع المرء أن يتفهم دوافع الموقف الكويتي، خصوصاً ما اتسم به من غضب وسخط على النظام العراقي. ولا أعرف ما اذا كان بمقدور الكويت أن تقف على الحياد في الحرب أم لا، رغم أن الحديث في هذه النقطة فات أوانه. الا أن المرء لا يستطيع أن يخفي دهشته ازاء حالة الانفعال المبالغ فيها التي اتسم بها الخطاب الاعلامي الكويتي، والتي دفعت بعض المعبرين عنه الى الاسراف في الحفاوة بالعدوان الامريكي، والمسارعة الى اتهام كل الذين استنكروا العدوان، على نحو لم يخل من تجريح وتطاول في بعض الأحيان. وهو تطاول لم تسلم منه مؤسسات العمل العربي المشترك، بل والأمين العام للجامعة العربية نفسه. وقد قرأت في كتابات عدة تهجماً على الجامعة حفلت بالتحقير والازدراء. في حين أن تلك الجامعة التي دعت بعض الأقلام الى «الاستغناء عن خدماتها» ودفنها، هي التي وقفت الى جانب سيادة الكويت وأكدت حقها في الاستقلال حين طالب العراق بضمها اليه في عام 1961، الأمر الذي أغضب حكومة بغداد وقتذاك ودفعها الى التهديد بالانسحاب من الجامعة.
أدري أن ذلك الخطاب الاعلامي لا يعبر عن كل شرائح المجتمع الكويتي، وأعرف من أبنائه أناساً وقطاعات مازالت قابضة بثبات وشجاعة على انتمائها العربي والاسلامي، ومن ثم فهي لا تقبل ذلك المنهج وتستنكره، لكن لا مفر من الاعتراف بأن الصوت المرتفع في الخطاب الاعلامي السائد حالياً شوه كثيراً صورة الكويت وأساء اليها، واذا لاحظت أن الشارع العربي كله يقف مع العراق ضد العدوان، فلك أن تتصور حجم التصدعات التي أصابت العلاقات الكويتية العربية بشكل عام، وكيف انها تحتاج الى جهد هائل لعلاجها ورأبها في المستقبل، حين يرحل الغرباء الغزاة، وتحين لحظة الحقيقة، ويكتشف الجميع أنه لا بديل من أن يعيشوا معاً بقلوب صافية في سلام ووئام. ليت الغاضبين والمتشنجين من اخوتنا في الكويت يعملون على تقريب ذلك اليوم وليس ابعاده.
بائع (عراقي) في محله، ينزل صور «الرئيس» بامتعاض، ويرميها جانبا بغضب، تدك صواريخ «اجنبية» احدى ضواحي مدينته، يركض البائع الى الصورة، ويرفعها عن الارض بعناد وقلة حيلة، ويعيدها الى الجدار.
هذه «اللقطة» اوردتها كاتبة عراقية (هاجر القحطاني ـ القدس العربي 4/1) في سياق تسجيلها لبعض برقيات المعركة الراهنة واحسبها تصور ببساطة وصدق كبيرين موقف الاغلبية من الحالة العراقية، وهي الاغلبية التي عارضت وقاومت باشكال عدة نظام الرئيس صدام حسين، ولم يختلف رأيها فيه كثيرا عن رأي البائع العراقي، ولكنها حين وجدت الوطن العراقي يتعرض للغزو والاغتصاب، فانها لم تنشغل بمعركتها مع الرئيس ونظامه ولكنها التفت حول الوطن تحاول الذود عنه ورد عدوان الغزاة والغاصبين، إذا شئت فقل انه نوع من الاختيار الصعب بين شرين أو كارثتين، كان احتلال الوطن وتدميره هو الشر الاعظم والكارثة الكبرى، التي يتعين على كل ذي حس وطني أو قومي، بل كل ذي عقل رشيد ان يهب لدفعها بكل السبل.
بل اننا اذا امعنا النظر في المشهد، فسنجد العدوان الراهن على العراق هو مقدمة للعدوان على الامة العربية في حقيقة الامر، لست اقول ذلك انطلاقا فقط من الرؤية التي سجلتها قرارات القمة العربية في هذا الصدد، والتي كانت العبارة السابقة من بين نصوصها، ولكن ايضا لان الادارة الامريكية لم تخف ذلك الهدف. وكان اوضح تعبير عن ذلك هو اعلان وزير الخارجية كولن باول في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي ان للحرب اهدافا ثلاثة هي: اسقاط النظام العراقي، واعادة رسم خريطة المنطقة العربية بما يخدم المصالح الامريكية، واغلاق ملف الصراع العربي الاسرائيلي، بانهاء القضية الفلسطينية، وهو اعلان لا يدع مجالا للشك في أن المستهدف ليس العراق وحده، وانما الامة العربية باسرها، ذلك غير الاهداف الاخرى بطبيعة الحال، التي ازعجت قوى دولية اخرى مثل فرنسا والمانيا وروسيا.
من وجهة النظر العربية، فان هذا العدوان يستهدف عند الحد الادنى وطنا عربيا، هو في كل احواله احد الاعمدة الاساسية في النظام العربي، وعند الحد الاقصى، فأنه يستهدف اخضاع الامة العربية كلها، وتطويعها لخدمة المصالح الامريكية. ولست بحاجة لان اناقش مقولات التعددية والديمقراطية وغير ذلك من الدعاوى الزائفة التي يتشدق بها ممثلو الادارة الامريكية ومن لف لفهم من بعض الاصوات النشاز في العالم العربي. فهي دعاوى فندتها من قبل وفضحها آخرون، ثم انها لم تعد تنطلي على أحد، خصوصا بعدما تابع الجميع عمليات القصف ونتائجها على شاشات التليفزيون، واقتنعوا اكثر فاكثر بأنه لا مجال لتصديق مقولة ان الامريكيين جاءوا لكي يخلصوا العراقيين، عن طريق قتلهم وتهديم بيوتهم وقطع المياه والتيار الكهربائي عنهم!
هكذا فان الرؤية الصائبة للمشهد تقتضي وضع العدوان في مكانه واطاره الصحيحين من حيث انه يستهدف وطنا عربيا والامة العربية، من هذه الزاوية فانه يغدو خطرا ينبغي ان يحتل الاولوية القصوى في الادراك العربي، بحيث يصبح على الجميع ان يرتفعوا الى مستوى المسؤولية، ليستنفروا ويحتشدوا في مواجهته ومقاومته، الامر الذي يؤدي تلقائيا الى تراجع الشرور الاخرى بصورة مؤقتة، بحيث تحتل رتبة تالية في الاهتمام والتصدي.
من اسف ان هذه الرؤية التبست على البعض وهؤلاء فريقان. فريق لم ير مكامن الخطر الذي اشرنا اليه، ومن ثم فقد شغل اهله بمراراتهم وثاراتهم الخاصة ازاء النظام العراقي وقيادته ولسان حالهم يقول: ليذهب ذلك النظام الى الجحيم بأي ثمن، وليكن ما يكون، وبسبب هيمنة مشاعر المرارة والثأر، فان هؤلاء اعتبروا ان رفض العدوان الامريكي بمثابة انحياز للنظام العراقي ومحاولة لاطالة عمره، ان شئت فقل انهم تعاملوا مع الاخرين بذات المنطق الذي رفعته الادارة الامريكية في اعقاب 11 سبتمبر، والذي يخير الجميع بين ان يكونوا «معنا أو ضدنا»، بالتالي فكل من لم يؤيد العدوان صنف في مربع «الضد» العراقي.
الفريق الثاني تعامل مع مخطط العدوان باعتباره قدرا لافكاك منه، ومن ثم فان اركانه تسابقوا على الالتحاق بالموجة والتعلق بالمركبة الامريكية، متصورين انها طوق النجاة والورقة الرابحة لا محالة.
وليس خافيا ان الذين خططوا للعدوان استثمروا الى ابعد مدى الرصيد البأس للنظام العراقي في الذاكرة العربية. بل كان رهانهم الاساسي على ذلك الالتباس، حتى تحقق لهم ما ارادوا بدرجة أو اخرى.
خطورة الالتباس في هذه الحالة لا تقف عند حدود الغلط في التشخيص، ولكنها تفتح الباب لتداعيات بالغة السوء في المستقبل، بعضها يتعلق بقطع الوشائج وتعميق الخصومات العربية، والبعض الاخر يتعلق بمستقبل النظام العربي ككل، واسوأ من هذا وذاك ان من شأنه ان يمهد الطريق للاجتياح الكبير الذي يهدد الامة بأسرها.
يحضرني هنا المشهد الاوروبي في عام 1940، حين كانت قوات هتلر تهدد انحاء اوروبا وتجتاحها بلدا تلو الآخر، بينما التناقض قائم بين الاتحاد السوفياتي من جانب، ودول غرب اوروبا وعلى رأسها انجلترا وفرنسا من جانب آخر، وهو تناقض كان يرتكز على الخصومة الايديولوجية المستحكمة بين النظامين الشيوعي والرأسمالي، لكن الطرفين ادركا ان الخطر النازي الزاحف يهددهما معا، وكان امامهما احد طريقين، اما ان يتمسك كل طرف بخصومته فيتعرض الطرفان للاجتياح واحدا بعد الاخر، واما ان يرتفعا فوق الخصومة الايديولوجية وفوق بحر المرارات التي افرزتها ويقفان معا في خندق واحد للتصدي للخطر المشترك. واذ تغلب العقل والنظر البعيد على العاطفة والنظر تحت الاقدام، فان الطرفين وجدا مصلحة مشتركة في تأجيل الخصومات الايديولوجية، وتحالفا معا ضد الخطر النازي، حتى نجحا في صده وهزيمته في نهاية المطاف، ثم عاد كل طرف الى مواقعه التي كان عليها في السابق، فيما عرف لاحقا باسم الحرب الباردة.
الامر ليس مختلفا كثيرا في المشهد الذي نحن بصدده الان، ورغم انني احد الذين يدركون حجم الجرائم التي ارتكبها النظام العراقي بحق شعبه اولا وبحق بعض جيرانه ثانيا، الا ان تلك الجرائم على جسامتها تظل من دون عمق وحدة الصراع الايديولوجي المصيري الذي كان بين الشيوعية والرأسمالية في الاربعينات، واذا لاحظنا ان الاوروبيين الغربيين والسوفيات لم يحسموا خلافاتهم أو تناقضاتهم، وانما قاموا بترحيلها فحسب، فكم كان المرء يتمنى لو تم استلهام النموذج في حالتنا الراهنة، عن طريق ترحيل الخصومات والمرارات والاستنفار لمواجهة الخط المشترك. نعم هذا ما فعلته قطاعات واسعة من الجماهير العراقية بأصالتها، وحسها الحضاري العميق، حين ارتفعت فوق أحزانها ومعاناتها، وهبت في لحظة صدق نبيل لكي تحول دون سقوط الوطن بأيدي الغزاة، على النحو الذي فعله البائع سابق الذكر، فمنهم من تصدى للغزو بما يملك من سلاح متواضع، ومنهم من ابتلع الجراح والتزم الصمت، مخيباً آمال الذين راهنوا على انتفاضة الشارع العراقي على نظامه وحفاوته بالغزاة.
أما فيما يخص الدول المجاورة، وبين بعضها وبين نظام بغداد ما صنع الحداد، فلم يكن يتوقع المرء أن تكرر مع العراق نموذج أوروبا والاتحاد السوفياتي في مواجهة الخطر النازي .. لأسباب يطول شرحها. ومع ذلك فينبغي أن يحمد لايران تمسكها بالوقوف على الحياد النسبي في الحرب، واعلانها عن رفض الاعتراف بأي حكومة ينصبها الامريكان في بغداد، برغم أن النظام العراقي خاض ضدها حرباً استمرت ثماني سنوات، وراح ضحيتها أكثر من 200 ألف قتيل وخلفت 300 ألف معوق، غير عشرة آلاف ايراني اصيبوا بالغازات السامة ويموت منهم اعداد كل يوم.
وبوسع المرء أن يتفهم دوافع الموقف الكويتي، خصوصاً ما اتسم به من غضب وسخط على النظام العراقي. ولا أعرف ما اذا كان بمقدور الكويت أن تقف على الحياد في الحرب أم لا، رغم أن الحديث في هذه النقطة فات أوانه. الا أن المرء لا يستطيع أن يخفي دهشته ازاء حالة الانفعال المبالغ فيها التي اتسم بها الخطاب الاعلامي الكويتي، والتي دفعت بعض المعبرين عنه الى الاسراف في الحفاوة بالعدوان الامريكي، والمسارعة الى اتهام كل الذين استنكروا العدوان، على نحو لم يخل من تجريح وتطاول في بعض الأحيان. وهو تطاول لم تسلم منه مؤسسات العمل العربي المشترك، بل والأمين العام للجامعة العربية نفسه. وقد قرأت في كتابات عدة تهجماً على الجامعة حفلت بالتحقير والازدراء. في حين أن تلك الجامعة التي دعت بعض الأقلام الى «الاستغناء عن خدماتها» ودفنها، هي التي وقفت الى جانب سيادة الكويت وأكدت حقها في الاستقلال حين طالب العراق بضمها اليه في عام 1961، الأمر الذي أغضب حكومة بغداد وقتذاك ودفعها الى التهديد بالانسحاب من الجامعة.
أدري أن ذلك الخطاب الاعلامي لا يعبر عن كل شرائح المجتمع الكويتي، وأعرف من أبنائه أناساً وقطاعات مازالت قابضة بثبات وشجاعة على انتمائها العربي والاسلامي، ومن ثم فهي لا تقبل ذلك المنهج وتستنكره، لكن لا مفر من الاعتراف بأن الصوت المرتفع في الخطاب الاعلامي السائد حالياً شوه كثيراً صورة الكويت وأساء اليها، واذا لاحظت أن الشارع العربي كله يقف مع العراق ضد العدوان، فلك أن تتصور حجم التصدعات التي أصابت العلاقات الكويتية العربية بشكل عام، وكيف انها تحتاج الى جهد هائل لعلاجها ورأبها في المستقبل، حين يرحل الغرباء الغزاة، وتحين لحظة الحقيقة، ويكتشف الجميع أنه لا بديل من أن يعيشوا معاً بقلوب صافية في سلام ووئام. ليت الغاضبين والمتشنجين من اخوتنا في الكويت يعملون على تقريب ذلك اليوم وليس ابعاده.