مخاض الفكر السلفي.. بين الحرية وأشواقها !!
نبيل البكيري [email protected]
ليس من الإنصاف القول إن إشكالية الفكر السلفي تكمن في الفكر نفسه بقدر ما هي كائنة في ما يعانيه هذا الفكر من حالة اغتراب بل حالة اختطاف من قبل بعض شيوخ بلاط السلطان، وهي الإشكالية التي ولدت قديما مع بروز أزمة الصراع السياسي بين الصحابة والتي أطلق عليها في تراثنا «بالفتنة» كـ»تابوه» ولا يمكن الاقتراب منه، وظلت الأمة تدفع الضريبة حتى اليوم مزيدا من التخلف والاستبداد والفوضى والقهر والحرمان بفعل هذا الفكر التبريري الذي أنتج لنا «ولاية المتغلب» مؤصلا بها لجرثومة الاستبداد السياسي كدين من الدين.
وبالتالي فإن إشكالية الفكر السلفي التي برزت بشكل أكبر مع منظرها الكبير الشيخ أبو بكر بن العربي صاحب كتاب العواصم من القواصم، والذي أراد من خلاله أن يؤصل لظلم بني أمية ويشرعن لولايتهم السياسية ومن ثم دولتهم التي كانت انتكاسة كبرى، قُوض بها أهم مبادئ الإسلام المتمثل بـ»الشورى» في الحكم القائم على حرية الإرادة والاختيار والتي لا زلنا حتى اليوم ندفع ثمن غيابها وتغييبها مزيدا من التخلف والفوضى.
إشكالية السلفية اليوم كما قلنا ليس فيها كفكر وظاهرة وتيار بل في من يختطفونها ويوجهونها حيثما يريد منهم ولاة «أمورهم» ونعمهم، خدمة لكراسي الملوك والأمراء والسلاطين الذين يفتقدون لأدنى معايير الشرعية السياسية فضلا عن الدينية لولا ما يضفيه عليهم ولهم فكر هذه الطائفة من الشيوخ باسم الدين، من شرعية وقداسة مبررين لهم تصرفاتهم وأفعالهم ولو كانت مخالفة للعقل والنقل.
ومع هذا فإن الظاهرة السلفية ليست لوننا واحدا بل هي خليط فسيفسائي من رؤى وتوجهات واجتهادات وأفكار متعددة ومتباينة وإن كان يغلب عليها اليوم سلفية «أولي الأمر» التي باتت تعرف اليوم السلفية الوهابية، كتيار كبير مدفوع بقوة الطفرة النفطية، والتي لم تكن تمثل شيئاً ما قبل هذه الطفرة وكانت محصورة في إطار جغرافي صحراوي ضيق.
وما أعتقده أنا بالنسبة لما بات يعرف بالسلفية الوهابية أنه قد تم تشويهها كثيرا مذ لحظات الولادة الأولى بفعل ارتباطها السياسي مبكرا، ومن ثم أُسيئ لها وبالتالي ظهرت وكأنها مسخ مشوه للفكر السلفي الحقيقي الذي عبر عنه على امتداد عصور مضت الكثير من الإعلام الكبار ابتداء بالإمام الكبير أحمد بن حنبل ومن بعده أحمد بن نصر الخزاعي صاحب فكرة التنظيم السياسي السري لقلب نظام الحكم العباسي ومن جاء بعدهم كابن تيمية والعز بن عبد السلام «بائع الأمراء» أمراء الدولة المملوكية وقادتها بعد أن كثر ظلمهم وبطشهم والذين باعهم كعبيد في سوق النخاسة وأعاد ثمنهم لبيت مال المسلمين.
الحديث عن السلفية «كمرحلة مباركة وليست مذهبا فقهياً» كما يوصفها الدكتور محمد سيعد البوطي، حديث ذي شجون وهي كظاهرة بحاجة إلى مزيد من القراءة والبحث، لأنها ظلمت كثيراً من قبل صنفين من الناس، الصنف الأول هم أدعياؤها والذي أساءوا لها أكثر من غيرهم والصنف الثاني هم خصومها وشانئوها الذين شط بهم الجور مندفعا بهم إلى مخاصمة كل ما يمت إلى هذا اللفظ بصلة بالحق وبالباطل.
لقد مثلت سلفية رواد النهضة الإسلامية المعاصرة خلال القرنين الماضيين من رشيد رضى ومحمد عبده وولي الله الدهلوي والأفغاني وعلال الفاسي وابن باديس والسنوسي والكواكبي والألوسي والبنا وقبلهم الشوكاني وابن الأمير والمقبلي، كل هؤلاء مثلت أفكارهم وساهموا فكرا وعملا في الحفاظ على الأمة ودينها وعقيدتها ووسطيتها طوال القرنين الماضيين حيث عملت اجتهاداتهم الفكرية والفقهية كأجراس الإيقاظ للأمة من سباتها وتخلفها في غمرة الهجمة الصليبية قديما وحديثا على العالم الإسلامي.
أما اليوم فرغم حالة التيه والحيرة والتفتت والتشظي الذي تعيشه الحالة السلفية فإن هناك الكثير من الدلائل والشواهد على أنه في مقابل هذه الحالة السلبية هناك حالة من الانتباه وبدايات لرشد قادم بدأت تتفتق عنها هنا أو هناك محاولة إعادة الاعتبار، بل إطلاق السلفية من أسرها وتحريرها من مختطفيها، الذين جعلوا الدين بها كقرابين تذبح في معابد السلاطين والأمراء.
لقد مثلت حرب الخليج الثانية 1990م إثر الاجتياح العراقي للكويت مرحلة هامة وفاصلة في تبلور الخطاب السلفي بشكل أكثر وضوحا وتمايزت الحالة السلفية بين ثلاثة خطابات رئيسية ساهمت في تشريح مكنونات العقل السلفي ومن ثم رسم خارطة فكرية لهذه الظاهرة وتبايناتها ومن ثم تلاشي تلك الحالة الضبابية التي كانت تحيط بها.
لقد تمايزت السلفية «الوهابية» بين ثلاثة اتجاهات رئسية متصارعة، هي السلفية التقليدية «المختطفة» في بلاط الحكام والأمراء والسلفية الجهادية «المنحرفة» والسلفية الإصلاحية «التجديدية» وهي المولود المنتظر لمخاضات الفكر السلفي القادم والمتعسر.
هذه السلفية الإصلاحية التي لا شك ستعيد الاعتبار للفكر السلفي المختطف طويلا، من خلال رؤيتها الإنسانية العصرية المتجددة للدين والحياة معا جاعلة منهما وسيلة وغاية لخدمة هذا الإنسان «خليفة الله في الأرض» بعد أن ذاق مرارة القهر والخوف والاستبداد والظلم ممن نصبوا أنفسهم أوصياء عليه.
وهذا ما يلاحظه المهتمون اليوم بالظاهرة السلفية، التي بدأ جناحها الإصلاحي في تلمس خطى التغيير والخروج من تحت عباءة الحكام والسلاطين، بخطاب أكثر رشدا واعتدالا ورؤى أكثر نضجا فكريا وسياسيا وإنسانياً، تقترب كثيرا من هموم الناس ومشاكلهم وأكثر ملامسة لأشواقهم وطموحاتهم، واستجابة لمطالبهم وحاجاتهم.
إننا اليوم أمام ظاهرة سلفية إصلاحية متقدمة لا شك، بدأت تبلور خطابا سلفيا جديدا أكثر حداثة وتجديدا ممن سبقوها في هذا المجال من الإصلاحيين الإخوان وغيرهم، حقيقة لا يمكن إغفالها، تمثلت اليوم باقتحامات جريئة لتابوهات المحظور والممنوع في لغة السلاطين ووعاظهم، ابتداء بالحرية الإنسانية وليس انتهاء بالحق في السلطة والمعارضة والعمل السياسي والتعددية ومن ثم الديمقراطية التي كانت ولا زالت حتى اليوم بمثابة مفردة مرادفة للكفر إن لم تكن هي الكفر بعينه!!
وهذه هي المفارقة التي لم يكن يتوقعها أحد مهما جازف وسمح لنفسه أن يفترض أسوأ الاحتمالات في هذا الجانب فيفترض كل شيء إلا أن يظهر من بين صفوف التيار السلفي بل ومن قيادته الكبيرة من حجم الدكتور حاكم المطيري أمين عام التجمع السلفي الكويتي الذي خرج علينا قبل أكثر من عام من الآن شاهراً كاتبه الشهير «الحرية أو الطوفان» مدافعا من خلاله عن حقيقة الرؤية السياسية للإسلام التي حاول البعض غمطها بل وطمسها من قاموسنا الفكري والسياسي ومن ثم الديني.
هذا الكتاب الذي يعد بمثابة زلزال فكري وصرخة حقوقية ودعوة سياسية جريئة وشجاعة في مجتمع لا زال يفتقر لأبجديات الألف باء فضلا عن وعي سياسي فكري أو ثقافي، بفعل تكالب كل عوامل الجهالة والتخلف والاستبداد السياسي والكهانة الدينية كدعامتين رئيسيتين للإمبريالية في سيطرتها على هذه المنطقة «منطقة النفط والفوضى» بحسب إدوارد سعيد فضلا عن إبقاء إنسان هذه المنطقة من العالم فيما هو فيه من الجهل والتخلف.
إنه لا شك ثورة على المفاهيم الموروثة والثقافة البالية والعتيقة، ثقافة القابلية للاستعمار كما قال عنها المفكر الكبير مالك بن نبي والقابلية للاستحمار كما وصفها المفكر الشيعي الأبرز على شريعتي، وبتالي فإن كتاب المطيري لا يخرج عن هذا الإطار لكونه جرس الإنذار الأخير لإيقاظ الأمة من سباتها وسلبيتها واستكانتها القاتلة والبليدة في نظرتها لواقعها ومصيرها.
وهو ما مثله الكتاب كصيحة قوية ومتألمة للحالة التي وصلت إليها أمتنا وبأثر ومبرر وتنظير ديني بحت تحت رداء عقيدة السلف وولاية ولي الأمر وطاعته ومن خلال استعراض بعض التساءلات التي وضعها الكاتب في مقدمة كتابة سيتبين لنا مدى الثورة التي أحدثها الكتاب في أوساط سلفيي هذه المرحلة وهو ما حققه بالفعل من خلال توالي مثل هذه الإصدارات الفكرية القيمة كما مثله الكتاب الذي صدر مؤخرا للكاتب والصحفي السعودي الإسلامي نواف القديمي تحت عنوان» أشواق الحرية» كمقاربة فكرية للرؤيا السلفية للديمقراطية.
فلننصت إلى المطيري وهو يقرع بأسئلته تلك أدعياء السلف والخلف حيث يبدأ متسائلا بطريقة الاستنكار، بقوله : كيف تم تفريغ الإسلام من مضمونه، فصار الدعاة إليه اليوم يدعون الناس إلى دين لا قيمة فيه للإنسان وحريته وكرامته وحقوقه، إلى دين لا يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، بل يرفض تغيير الواقع ويدعو إلى ترسيخه بدعوى طاعة ولي الأمر؟!
ويضيف متسائلا أيضا: كيف ندعو شعوب العالم الحر الذي تساوى فيها الحاكم والمحكوم حيث الشعب يحاسب رؤساءه، وينتقدهم علانية ويعزلهم بطرح الثقة، ولا يستطيع الحاكم سجن أحد أو مصادرة حريته أو تعذيبه؛ إذ الحاكم وكيل عن المحكوم الذي يحق له عزله؛ إلى دين يدعو أتباعه اليوم إلى الخضوع للحاكم وعدم نقده علانية، وعدم التصدي لجوره، والصبر على ذلك مهما بلغ فساده وظلمه؛ إذ طاعته من طاعة الله ورسوله؟! كما يحرم على هذه الشعوب الحرة أن تقيم الأحزاب السياسية أو تتداول السلطة فيما بينها لو دخلت في الدين الجديد؟!!
لقد أصبح الناس يدعون اليوم إلى دين إن لم يكن ممسوخا مشوها فهو مختزل ناقص، لا تصلح عليه أمة ولا تستقيم عليه ملة، بل هو أغلال وآصار؛ الإسلام الحق منها براء، أدى إلى هذا الواقع الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم من تخلف، وانحطاط، وشيوع للظلم والفساد؛ فكان لابد من مراجعة الخطاب السياسي الإسلامي.
لا شك أن كتاب أشواق الحرية وقبله الحرية أو الطوفان، ليسا إلا ثمرة أولية للحركة الإصلاحية السلفية التي ابتدأ شرف ترشيدها أعلام كبار كان لهم شرف السبق وشرف التضحية في هذا الجانب ابتداء بالشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة والشيخين عائض وعوض القرني والشيخ سفر الحوالي وإن بدرجة أقل فكريا.
لكن الغريب في الأمر كله هو هذا الجمود والاستغباء الذي يضع فيه أنفسهم سلفيو اليمن رغم إمكاناتهم العلمية الكبيرة والهائلة وموروثهم الفكري الناضج، ومع هذا لا تجد لهم صوتاً أو رأياً في شيء وكأنهم تابع ذيلي للآخرين وفتاواهم التي تأتي جاهزة من دور إفتاء الجوار ومكاتبهم.
لقد قطع السلفيون اليوم شوطا كبيرا في الفكر والسياسية وأصبحوا رقما صعبا في كثير من دول الجزيرة، في الوقت الذي لا زال فيه سلفيو اليمن في صراع فتاوى جواز العمل الخيري من عدمه ومن ثم العمل الجماعي والعمل السياسي والديمقراطية التي لا زال ينظر لها سلفيونا ككفر من الكفر ما لم تأت بشيء يبرؤها من ذلك.
صحيح أن هناك بعض الأصوات السلفية المتعقلة والواعية للمتغيرات والأحداث كما هو حال الشيخ عقيل المقطري لكن صوته لا زال خافتاً وغير مسموع رغم ما يقدمه من أفكار متجددة ونيرة، ستلعب دورا كبيرا ومؤثرا في مصير ومستقبل هذه الجماعات ما تخلت عن عقدة الأنا والانتفاخ الأجوف لدى بعضها قادتها.
وفي الأخير فإن مطلب الحرية ليس مطلبا سياسيا أو حزبيا بقدر ما هو مطلب ديني عقائدي في الأساس وإنساني لا يقوم للإيمان أساس بدون هذا المطلب الذي جاء به الإسلام ليحرر الناس من عقدة الخوف والاستعباد والرهبة ليستبدلها بقوة الإيمان المستمدة من فضاء الحرية الإنسانية المقدسة التي كانت شرطا أسياسيا في مناط التكليف التعبدي يرتكز عليه قبولا ورفضا العديد من شعائر الإسلام وعباداته.
.الأهالي نت
نبيل البكيري [email protected]
ليس من الإنصاف القول إن إشكالية الفكر السلفي تكمن في الفكر نفسه بقدر ما هي كائنة في ما يعانيه هذا الفكر من حالة اغتراب بل حالة اختطاف من قبل بعض شيوخ بلاط السلطان، وهي الإشكالية التي ولدت قديما مع بروز أزمة الصراع السياسي بين الصحابة والتي أطلق عليها في تراثنا «بالفتنة» كـ»تابوه» ولا يمكن الاقتراب منه، وظلت الأمة تدفع الضريبة حتى اليوم مزيدا من التخلف والاستبداد والفوضى والقهر والحرمان بفعل هذا الفكر التبريري الذي أنتج لنا «ولاية المتغلب» مؤصلا بها لجرثومة الاستبداد السياسي كدين من الدين.
وبالتالي فإن إشكالية الفكر السلفي التي برزت بشكل أكبر مع منظرها الكبير الشيخ أبو بكر بن العربي صاحب كتاب العواصم من القواصم، والذي أراد من خلاله أن يؤصل لظلم بني أمية ويشرعن لولايتهم السياسية ومن ثم دولتهم التي كانت انتكاسة كبرى، قُوض بها أهم مبادئ الإسلام المتمثل بـ»الشورى» في الحكم القائم على حرية الإرادة والاختيار والتي لا زلنا حتى اليوم ندفع ثمن غيابها وتغييبها مزيدا من التخلف والفوضى.
إشكالية السلفية اليوم كما قلنا ليس فيها كفكر وظاهرة وتيار بل في من يختطفونها ويوجهونها حيثما يريد منهم ولاة «أمورهم» ونعمهم، خدمة لكراسي الملوك والأمراء والسلاطين الذين يفتقدون لأدنى معايير الشرعية السياسية فضلا عن الدينية لولا ما يضفيه عليهم ولهم فكر هذه الطائفة من الشيوخ باسم الدين، من شرعية وقداسة مبررين لهم تصرفاتهم وأفعالهم ولو كانت مخالفة للعقل والنقل.
ومع هذا فإن الظاهرة السلفية ليست لوننا واحدا بل هي خليط فسيفسائي من رؤى وتوجهات واجتهادات وأفكار متعددة ومتباينة وإن كان يغلب عليها اليوم سلفية «أولي الأمر» التي باتت تعرف اليوم السلفية الوهابية، كتيار كبير مدفوع بقوة الطفرة النفطية، والتي لم تكن تمثل شيئاً ما قبل هذه الطفرة وكانت محصورة في إطار جغرافي صحراوي ضيق.
وما أعتقده أنا بالنسبة لما بات يعرف بالسلفية الوهابية أنه قد تم تشويهها كثيرا مذ لحظات الولادة الأولى بفعل ارتباطها السياسي مبكرا، ومن ثم أُسيئ لها وبالتالي ظهرت وكأنها مسخ مشوه للفكر السلفي الحقيقي الذي عبر عنه على امتداد عصور مضت الكثير من الإعلام الكبار ابتداء بالإمام الكبير أحمد بن حنبل ومن بعده أحمد بن نصر الخزاعي صاحب فكرة التنظيم السياسي السري لقلب نظام الحكم العباسي ومن جاء بعدهم كابن تيمية والعز بن عبد السلام «بائع الأمراء» أمراء الدولة المملوكية وقادتها بعد أن كثر ظلمهم وبطشهم والذين باعهم كعبيد في سوق النخاسة وأعاد ثمنهم لبيت مال المسلمين.
الحديث عن السلفية «كمرحلة مباركة وليست مذهبا فقهياً» كما يوصفها الدكتور محمد سيعد البوطي، حديث ذي شجون وهي كظاهرة بحاجة إلى مزيد من القراءة والبحث، لأنها ظلمت كثيراً من قبل صنفين من الناس، الصنف الأول هم أدعياؤها والذي أساءوا لها أكثر من غيرهم والصنف الثاني هم خصومها وشانئوها الذين شط بهم الجور مندفعا بهم إلى مخاصمة كل ما يمت إلى هذا اللفظ بصلة بالحق وبالباطل.
لقد مثلت سلفية رواد النهضة الإسلامية المعاصرة خلال القرنين الماضيين من رشيد رضى ومحمد عبده وولي الله الدهلوي والأفغاني وعلال الفاسي وابن باديس والسنوسي والكواكبي والألوسي والبنا وقبلهم الشوكاني وابن الأمير والمقبلي، كل هؤلاء مثلت أفكارهم وساهموا فكرا وعملا في الحفاظ على الأمة ودينها وعقيدتها ووسطيتها طوال القرنين الماضيين حيث عملت اجتهاداتهم الفكرية والفقهية كأجراس الإيقاظ للأمة من سباتها وتخلفها في غمرة الهجمة الصليبية قديما وحديثا على العالم الإسلامي.
أما اليوم فرغم حالة التيه والحيرة والتفتت والتشظي الذي تعيشه الحالة السلفية فإن هناك الكثير من الدلائل والشواهد على أنه في مقابل هذه الحالة السلبية هناك حالة من الانتباه وبدايات لرشد قادم بدأت تتفتق عنها هنا أو هناك محاولة إعادة الاعتبار، بل إطلاق السلفية من أسرها وتحريرها من مختطفيها، الذين جعلوا الدين بها كقرابين تذبح في معابد السلاطين والأمراء.
لقد مثلت حرب الخليج الثانية 1990م إثر الاجتياح العراقي للكويت مرحلة هامة وفاصلة في تبلور الخطاب السلفي بشكل أكثر وضوحا وتمايزت الحالة السلفية بين ثلاثة خطابات رئيسية ساهمت في تشريح مكنونات العقل السلفي ومن ثم رسم خارطة فكرية لهذه الظاهرة وتبايناتها ومن ثم تلاشي تلك الحالة الضبابية التي كانت تحيط بها.
لقد تمايزت السلفية «الوهابية» بين ثلاثة اتجاهات رئسية متصارعة، هي السلفية التقليدية «المختطفة» في بلاط الحكام والأمراء والسلفية الجهادية «المنحرفة» والسلفية الإصلاحية «التجديدية» وهي المولود المنتظر لمخاضات الفكر السلفي القادم والمتعسر.
هذه السلفية الإصلاحية التي لا شك ستعيد الاعتبار للفكر السلفي المختطف طويلا، من خلال رؤيتها الإنسانية العصرية المتجددة للدين والحياة معا جاعلة منهما وسيلة وغاية لخدمة هذا الإنسان «خليفة الله في الأرض» بعد أن ذاق مرارة القهر والخوف والاستبداد والظلم ممن نصبوا أنفسهم أوصياء عليه.
وهذا ما يلاحظه المهتمون اليوم بالظاهرة السلفية، التي بدأ جناحها الإصلاحي في تلمس خطى التغيير والخروج من تحت عباءة الحكام والسلاطين، بخطاب أكثر رشدا واعتدالا ورؤى أكثر نضجا فكريا وسياسيا وإنسانياً، تقترب كثيرا من هموم الناس ومشاكلهم وأكثر ملامسة لأشواقهم وطموحاتهم، واستجابة لمطالبهم وحاجاتهم.
إننا اليوم أمام ظاهرة سلفية إصلاحية متقدمة لا شك، بدأت تبلور خطابا سلفيا جديدا أكثر حداثة وتجديدا ممن سبقوها في هذا المجال من الإصلاحيين الإخوان وغيرهم، حقيقة لا يمكن إغفالها، تمثلت اليوم باقتحامات جريئة لتابوهات المحظور والممنوع في لغة السلاطين ووعاظهم، ابتداء بالحرية الإنسانية وليس انتهاء بالحق في السلطة والمعارضة والعمل السياسي والتعددية ومن ثم الديمقراطية التي كانت ولا زالت حتى اليوم بمثابة مفردة مرادفة للكفر إن لم تكن هي الكفر بعينه!!
وهذه هي المفارقة التي لم يكن يتوقعها أحد مهما جازف وسمح لنفسه أن يفترض أسوأ الاحتمالات في هذا الجانب فيفترض كل شيء إلا أن يظهر من بين صفوف التيار السلفي بل ومن قيادته الكبيرة من حجم الدكتور حاكم المطيري أمين عام التجمع السلفي الكويتي الذي خرج علينا قبل أكثر من عام من الآن شاهراً كاتبه الشهير «الحرية أو الطوفان» مدافعا من خلاله عن حقيقة الرؤية السياسية للإسلام التي حاول البعض غمطها بل وطمسها من قاموسنا الفكري والسياسي ومن ثم الديني.
هذا الكتاب الذي يعد بمثابة زلزال فكري وصرخة حقوقية ودعوة سياسية جريئة وشجاعة في مجتمع لا زال يفتقر لأبجديات الألف باء فضلا عن وعي سياسي فكري أو ثقافي، بفعل تكالب كل عوامل الجهالة والتخلف والاستبداد السياسي والكهانة الدينية كدعامتين رئيسيتين للإمبريالية في سيطرتها على هذه المنطقة «منطقة النفط والفوضى» بحسب إدوارد سعيد فضلا عن إبقاء إنسان هذه المنطقة من العالم فيما هو فيه من الجهل والتخلف.
إنه لا شك ثورة على المفاهيم الموروثة والثقافة البالية والعتيقة، ثقافة القابلية للاستعمار كما قال عنها المفكر الكبير مالك بن نبي والقابلية للاستحمار كما وصفها المفكر الشيعي الأبرز على شريعتي، وبتالي فإن كتاب المطيري لا يخرج عن هذا الإطار لكونه جرس الإنذار الأخير لإيقاظ الأمة من سباتها وسلبيتها واستكانتها القاتلة والبليدة في نظرتها لواقعها ومصيرها.
وهو ما مثله الكتاب كصيحة قوية ومتألمة للحالة التي وصلت إليها أمتنا وبأثر ومبرر وتنظير ديني بحت تحت رداء عقيدة السلف وولاية ولي الأمر وطاعته ومن خلال استعراض بعض التساءلات التي وضعها الكاتب في مقدمة كتابة سيتبين لنا مدى الثورة التي أحدثها الكتاب في أوساط سلفيي هذه المرحلة وهو ما حققه بالفعل من خلال توالي مثل هذه الإصدارات الفكرية القيمة كما مثله الكتاب الذي صدر مؤخرا للكاتب والصحفي السعودي الإسلامي نواف القديمي تحت عنوان» أشواق الحرية» كمقاربة فكرية للرؤيا السلفية للديمقراطية.
فلننصت إلى المطيري وهو يقرع بأسئلته تلك أدعياء السلف والخلف حيث يبدأ متسائلا بطريقة الاستنكار، بقوله : كيف تم تفريغ الإسلام من مضمونه، فصار الدعاة إليه اليوم يدعون الناس إلى دين لا قيمة فيه للإنسان وحريته وكرامته وحقوقه، إلى دين لا يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، بل يرفض تغيير الواقع ويدعو إلى ترسيخه بدعوى طاعة ولي الأمر؟!
ويضيف متسائلا أيضا: كيف ندعو شعوب العالم الحر الذي تساوى فيها الحاكم والمحكوم حيث الشعب يحاسب رؤساءه، وينتقدهم علانية ويعزلهم بطرح الثقة، ولا يستطيع الحاكم سجن أحد أو مصادرة حريته أو تعذيبه؛ إذ الحاكم وكيل عن المحكوم الذي يحق له عزله؛ إلى دين يدعو أتباعه اليوم إلى الخضوع للحاكم وعدم نقده علانية، وعدم التصدي لجوره، والصبر على ذلك مهما بلغ فساده وظلمه؛ إذ طاعته من طاعة الله ورسوله؟! كما يحرم على هذه الشعوب الحرة أن تقيم الأحزاب السياسية أو تتداول السلطة فيما بينها لو دخلت في الدين الجديد؟!!
لقد أصبح الناس يدعون اليوم إلى دين إن لم يكن ممسوخا مشوها فهو مختزل ناقص، لا تصلح عليه أمة ولا تستقيم عليه ملة، بل هو أغلال وآصار؛ الإسلام الحق منها براء، أدى إلى هذا الواقع الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم من تخلف، وانحطاط، وشيوع للظلم والفساد؛ فكان لابد من مراجعة الخطاب السياسي الإسلامي.
لا شك أن كتاب أشواق الحرية وقبله الحرية أو الطوفان، ليسا إلا ثمرة أولية للحركة الإصلاحية السلفية التي ابتدأ شرف ترشيدها أعلام كبار كان لهم شرف السبق وشرف التضحية في هذا الجانب ابتداء بالشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة والشيخين عائض وعوض القرني والشيخ سفر الحوالي وإن بدرجة أقل فكريا.
لكن الغريب في الأمر كله هو هذا الجمود والاستغباء الذي يضع فيه أنفسهم سلفيو اليمن رغم إمكاناتهم العلمية الكبيرة والهائلة وموروثهم الفكري الناضج، ومع هذا لا تجد لهم صوتاً أو رأياً في شيء وكأنهم تابع ذيلي للآخرين وفتاواهم التي تأتي جاهزة من دور إفتاء الجوار ومكاتبهم.
لقد قطع السلفيون اليوم شوطا كبيرا في الفكر والسياسية وأصبحوا رقما صعبا في كثير من دول الجزيرة، في الوقت الذي لا زال فيه سلفيو اليمن في صراع فتاوى جواز العمل الخيري من عدمه ومن ثم العمل الجماعي والعمل السياسي والديمقراطية التي لا زال ينظر لها سلفيونا ككفر من الكفر ما لم تأت بشيء يبرؤها من ذلك.
صحيح أن هناك بعض الأصوات السلفية المتعقلة والواعية للمتغيرات والأحداث كما هو حال الشيخ عقيل المقطري لكن صوته لا زال خافتاً وغير مسموع رغم ما يقدمه من أفكار متجددة ونيرة، ستلعب دورا كبيرا ومؤثرا في مصير ومستقبل هذه الجماعات ما تخلت عن عقدة الأنا والانتفاخ الأجوف لدى بعضها قادتها.
وفي الأخير فإن مطلب الحرية ليس مطلبا سياسيا أو حزبيا بقدر ما هو مطلب ديني عقائدي في الأساس وإنساني لا يقوم للإيمان أساس بدون هذا المطلب الذي جاء به الإسلام ليحرر الناس من عقدة الخوف والاستعباد والرهبة ليستبدلها بقوة الإيمان المستمدة من فضاء الحرية الإنسانية المقدسة التي كانت شرطا أسياسيا في مناط التكليف التعبدي يرتكز عليه قبولا ورفضا العديد من شعائر الإسلام وعباداته.
.الأهالي نت