هويدي 5-2-2001
الذي يقرأ ما تكتبه بعض الأقلام العربية عما يحدث في مصر، يخيل إليه أن كل أديب أصبح ملاحقاً بشرطي، وأن «المبدعين» قطعت ألسنتهم، وأن حرية التعبير قمعت حتى لم يبق مسموحاً إلا بالهمس والكتابة على الجدران تحت جنح الظلام. كل ذلك لأن أحد أجهزة وزارة الثقافة طبع ثلاث روايات تضمنت ألفاظاً بذيئة وخادشة للحياء العام، وحين وجه أحد أعضاء مجلس الشعب سؤالاً بصددها إلى وزير الثقافة، فان الوزير انتبه إلى أن ثمة خطأ فادحاً وقع، فأصدر قراراً بسحب الروايات الثلاث من الأسواق، وعزل المسؤولين عن هذا الخطأ.
هذه هي خلاصة الواقعة التي بولغ في أمرها، حتى أصبحت واحدة من أهم القضايا التي شغلت الصحافة العربية خلال الأسابيع الأخيرة، وتناولتها مختلف الأقلام بالتحليل بعد التهويل. ولم يخل الأمر من أصوات ملأت الفضاء نواحاً وصراخاً وحسرة على مصير الابداع والتنوير، أمام زحف «قوى الرجعية» و«جيوش الظلام» والذين يريدون اعادة التاريخ الى الوراء! وقبل أن أسترسل في وصف ما جرى وتحليله، أذكر بأن المشكلة الحقيقية لم تكن في ما تضمنته الروايات الثلاث من بذاءات وغير ذلك من متطلبات الابداع والتنوير المزعومين في عرف بعض الكاتبين في هذا الزمان، لكن المشكلة تمثلت في تبني وزارة الثقافة مثل ذلك النوع من الكتابات، وطباعتها بأموال دافع الضرائب المصري، والترويج لها عن طريق عرضها للبيع بأسعار زهيدة تصبح في متناول الجميع. بكلام آخر، فان السؤال الذي أثارته القضية هو : إذا كان من الضروري أن تقوم الدولة بدور في عملية النشر، وهو ما يحتاج إلى مراجعة، فهل توجه مواردها لأحد لكي تسوّق أمثال تلك الكتابات، أم أنه من الأجدى أن تتخير مستوى آخر من المعارف أكثر عمقاً وأصالة، وأقل اثارة للجدل أو الخلاف؟ أم أنها لا تفعل هذا وذاك، وانما ترفع يدها عن عملية النشر، وتتركها للقطاع الخاص؟
لقد كان مدهشاً حقاً أن تتنافس أقلام كثيرة في الصياح والنواح، بدون أن تتبين وجه الخلاف، وبدون أن تحاط علماً بمضمون الروايات التي نفضت وزارة الثقافة يديها منها، وأعلنت على لسان وزيرها أنها تربأ بنفسها عن أن تروج للبذاءات، بل ذهب الوزير الى حد انه تحدى الذين دافعوا عن الروايات ان ينشروا في صحفهم نصوصها على الناس، وبالطبع فان أحداً لم يجرؤ على نشر تلك النصوص، لأن الجميع يعلمون سلفاً كم هي جارحة للشعور العام، ويعرفون أيضاً أنها ستقابل بما تستحقه من استياء وغضب، يعلم الله وحده مداهما.
ولعل أكثر ما كشفت عنه التجربة ان المنابر الثقافية في أكثر المطبوعات العربية يهيمن عليها تيار واحد، يتحدث بلغة واحدة، ويتحيز لرؤية واحدة، رغم أن القابضين على تلك المنابر يزعمون دفاعاً عن التعددية ولا يفتئون يرددون شعارات الدفاع عن حق الآخر في الاختلاف، وضرورة افساح المجال لكل الأزهار والأفكار لكي تتفتح وتغني ساحتنا الابداعية. ومن المفارقات التي تعزز ما نقول ان احدى الصحف العربية اللندنية زفت الينا حيناً من الدهر أنها بصدد تخصيص جزء خاص منها يعبر عن «التيارات» المختلفة، ويتحول إلى «هايدبارك» اعلامي، يطرح فيه كل صاحب رأي رأيه، غير أن الممارسة العملية جاءت معاكسة تماماً لعنوان «التيارات»، حيث تبين أن تياراً واحداً ـ علمانياً بامتياز ـ انفرد بذلك الجزء، ومضى أصحابه يعزفون معزوفة واحدة، ويعبرون عن منظور واحد، في كافة المجالات الفكرية والسياسية. وفي حدود علمي فان أصحاب الأقلام من التيارات الأخرى المحجوبة، يتداولون في ما بينهم الآن اقتراحاً بتجميع مقالاتهم التي استبعدها الفريق المهيمن في «كتاب أسود»، يفضح زعم أولئك النفر الذين دافعوا عن التعددية وحرية الرأي والاختلاف في العلن، ثم احتكروا الخطاب، وتمسكوا بحقهم وحدهم في إبداء الرأي في حقيقة الأمر، فقمعوا مخالفيهم وحرموهم من محاورتهم والرد على مقولاتهم، وأعلنوا أمام الملأ «نحن التيارات»! لست أزعم أن حرية التعبير بخير في مصر، وانما لا أتردد في القول بأن ثمة سقوفاً تحد من تلك الحرية، شأنها في ذلك شأن أقطار عربية أخرى كثيرة، لكن ما يحيرني أن الغيرة على حرية التعبير لا يسمع لها صوت إلا إذا كان الكاتب أديباً أو شاعراً، وكان الموضوع متعلقاً بالمقدسات الدينية والقيم الأخلاقية. أما إذا كان الكاتب سياسياً، وكان الموضوع الذي يتناوله يتعلق بمجمل النظام أو ممارسات المؤسسة السياسية، فان مثل هذه الغيرة لا يظهر لها أثر، وهو ما يدفعني إلى طرح السؤال التالي: لماذا يشجع الاجراء على المساس بالأديان والقيم الأخلاقية، بينما يحذر الجميع من نقد الأوضاع والأنظمة السياسية؟ ولماذا يعد الاجتراء الأول ابداعاً، ويوصف الاحجام في الحالة الثانية بأنه حكمة؟
هل يعد هذا موقفاً مبدئياً، ان يشجع الاندفاع إلى حد التجاوز في التعبير عن الرأي في الروايات وقصائد الشعر، بينما يتجنب الجميع الافصاح عن آرائهم الحقيقية في الشأن السياسي؟
انني لا أعرف حقاً العلاقة بين الابداع والتنوير وبين البذاءة في التعبير والانحطاط في الأفكار. ولا أفهم هذا الاصرار على ان يقاس الابداع والتنوير بمدى الهامش المتاح للنيل من ثوابت المجتمع وقيمه الدينية والأخلاقية، وانما أذهب إلى أن الذين يسيئون إلى الابداع حقاً ويشوهونه هم أولئك الذين يتوسلون باللافتة ويسعون إلى هدم مختلف القيم النبيلة في مجتمعاتنا، لتفكيكها وتشويهها، بل ويتمسكون بأن تتولى الدولة الترويج لأفكارهم، من ميزانياتها التي تتوفر من عرق الشعب والضرائب المفروضة عليه.
ان الذين يدافعون عن حرية البذاءة وعن الأسلوب الفج الذي تعالج به المشاهد الجنسية، يسقطون من حسابهم واعتبارهم الأغلبية الساحقة من أبناء مجتمعاتنا التي تتعلق بتلك القيم وتحميها. ومن الخطأ البين والمغالطة الجسيمة ان تحتكر فئة أو تيار بذاته صفات المثقفين والمبدعين والمتنورين، الأمر الذي يقصي ويلغي الأغلبية، ويحذف رموزها من الساحة الثقافية تماماً.
مع ذلك فإن وجهة النظر الأخرى التي تعترض على مبدأ العدوان على القيم والثوابت لا تطالب باسكات أصوات «المبدعين» من ذلك الطراز الذي نحن بصدد مشكلته، وانما تطالب فقط بألا تتبنى الدولة الشطط الذي تتضمنه أعمالهم، بحيث يترك الأمر كله إلى القطاع الخاص، حيث يطبع الناشر الكتاب على مسؤوليته، بحيث يكون له غنمه وعليه غرمه، ولا يحسب على خط الدولة أو سياستها في نهاية المطاف.
من أغرب ما قيل في نقد قرار وزير الثقافة المصري ان صاحب السؤال الذي وجه إليه من أعضاء حركة الاخوان الذين دخلوا مجلس الشعب في الانتخابات الأخيرة، ولأنه كذلك فقد بنى بعض الناقدين على صفته ـ التي ركزوا عليها بشدة ـ ان الأمر لا يخلو من «مؤامرة» تستهدف المبدعين، وتعزز موقف التيار الرجعي والظلامي والمتطرف..إلخ.
وقد قلت في مقام آخر إن في الأمر اختزالاً مخلاً، لأن مسألة الأخلاق ليست بالضرورة شأن المتدينين ناهيك من المتطرفين، وانما هي أيضاً شأن العقلاء والأسوياء والراشدين، حيث لا يحتاج الأمر لأكثر من شخص عنى أبواه بتربيته، فترفع عن البذاءة والفحش، وعرف حدود ما ينبغي أن يقال أو لا يقال.
ان المعادلة التي تصور لنا الأمر بحسبانه خياراً بين ان يكون المرء بذيئاً وفاحشاً أو أن يكون متطرفاً، هي أقوى دعاية تشجع التطرف وتسوغه، ذلك أنها ستجد كثيرين يفتحون أذرعهم مرحبين بالتطرف طالما أنه بدا عاصماً من البذاءة والتسفل. اما اساءة تلك المعادلة اليائسة إلى مفهوم الابداع وقضية المبدعين، التي أشرت إليها توا، فهي بغير حدود وفوق ما يتصور أي أحد.
لقد قرأت وصفاً لما يجري في مصر بأنه «صراعات متخلفة»، الأمر الذي يوحي بأن اطلاق الفرصة لاشاعة الفاحشة بين الناس هو من قبيل التقدم، فضلاً عن أنه من مقتضى التنوير. ولأن الكاتب انقطع عن مصر سنين عددا، واستقر به المقام في الغرب، فلعله حاكم ما يجري في مصر بعين غربية، الأمر الذي لا بد أن ينتهي بوصف ذلك الذي يجري بأنه من مظاهر «التخلف». وهو ما سبقتنا الدول الغربية الى تجاوزه على النحو الذي يعرفه الجميع، فاطلقت العنان لاشباع الرغبات والشهوات، وهتكت المقدس، الذي لم يبق منه سوى تقديس الانسان لذاته ونزواته.
وهو أمر مؤسف حقاً ان لا نرى في الغرب أو نأخذ عنه إلا أتعس ما فيه، فنتجاهل الحرية السياسية والتقدم الاقتصادي والصناعي والزراعي، وننسى كل ما فيه من ايجابية، ثم نأسى على أننا لم نأخذ عنه التفلت والتحلل وهتك المقدسات! ترى، هل يختلف هذا النمط من التفكير كثيراً عن أولئك، الواقفين في المعسكر الآخر الذين لا يرون في الغرب سوى اباحته للشذوذ الجنسي؟
الذي يقرأ ما تكتبه بعض الأقلام العربية عما يحدث في مصر، يخيل إليه أن كل أديب أصبح ملاحقاً بشرطي، وأن «المبدعين» قطعت ألسنتهم، وأن حرية التعبير قمعت حتى لم يبق مسموحاً إلا بالهمس والكتابة على الجدران تحت جنح الظلام. كل ذلك لأن أحد أجهزة وزارة الثقافة طبع ثلاث روايات تضمنت ألفاظاً بذيئة وخادشة للحياء العام، وحين وجه أحد أعضاء مجلس الشعب سؤالاً بصددها إلى وزير الثقافة، فان الوزير انتبه إلى أن ثمة خطأ فادحاً وقع، فأصدر قراراً بسحب الروايات الثلاث من الأسواق، وعزل المسؤولين عن هذا الخطأ.
هذه هي خلاصة الواقعة التي بولغ في أمرها، حتى أصبحت واحدة من أهم القضايا التي شغلت الصحافة العربية خلال الأسابيع الأخيرة، وتناولتها مختلف الأقلام بالتحليل بعد التهويل. ولم يخل الأمر من أصوات ملأت الفضاء نواحاً وصراخاً وحسرة على مصير الابداع والتنوير، أمام زحف «قوى الرجعية» و«جيوش الظلام» والذين يريدون اعادة التاريخ الى الوراء! وقبل أن أسترسل في وصف ما جرى وتحليله، أذكر بأن المشكلة الحقيقية لم تكن في ما تضمنته الروايات الثلاث من بذاءات وغير ذلك من متطلبات الابداع والتنوير المزعومين في عرف بعض الكاتبين في هذا الزمان، لكن المشكلة تمثلت في تبني وزارة الثقافة مثل ذلك النوع من الكتابات، وطباعتها بأموال دافع الضرائب المصري، والترويج لها عن طريق عرضها للبيع بأسعار زهيدة تصبح في متناول الجميع. بكلام آخر، فان السؤال الذي أثارته القضية هو : إذا كان من الضروري أن تقوم الدولة بدور في عملية النشر، وهو ما يحتاج إلى مراجعة، فهل توجه مواردها لأحد لكي تسوّق أمثال تلك الكتابات، أم أنه من الأجدى أن تتخير مستوى آخر من المعارف أكثر عمقاً وأصالة، وأقل اثارة للجدل أو الخلاف؟ أم أنها لا تفعل هذا وذاك، وانما ترفع يدها عن عملية النشر، وتتركها للقطاع الخاص؟
لقد كان مدهشاً حقاً أن تتنافس أقلام كثيرة في الصياح والنواح، بدون أن تتبين وجه الخلاف، وبدون أن تحاط علماً بمضمون الروايات التي نفضت وزارة الثقافة يديها منها، وأعلنت على لسان وزيرها أنها تربأ بنفسها عن أن تروج للبذاءات، بل ذهب الوزير الى حد انه تحدى الذين دافعوا عن الروايات ان ينشروا في صحفهم نصوصها على الناس، وبالطبع فان أحداً لم يجرؤ على نشر تلك النصوص، لأن الجميع يعلمون سلفاً كم هي جارحة للشعور العام، ويعرفون أيضاً أنها ستقابل بما تستحقه من استياء وغضب، يعلم الله وحده مداهما.
ولعل أكثر ما كشفت عنه التجربة ان المنابر الثقافية في أكثر المطبوعات العربية يهيمن عليها تيار واحد، يتحدث بلغة واحدة، ويتحيز لرؤية واحدة، رغم أن القابضين على تلك المنابر يزعمون دفاعاً عن التعددية ولا يفتئون يرددون شعارات الدفاع عن حق الآخر في الاختلاف، وضرورة افساح المجال لكل الأزهار والأفكار لكي تتفتح وتغني ساحتنا الابداعية. ومن المفارقات التي تعزز ما نقول ان احدى الصحف العربية اللندنية زفت الينا حيناً من الدهر أنها بصدد تخصيص جزء خاص منها يعبر عن «التيارات» المختلفة، ويتحول إلى «هايدبارك» اعلامي، يطرح فيه كل صاحب رأي رأيه، غير أن الممارسة العملية جاءت معاكسة تماماً لعنوان «التيارات»، حيث تبين أن تياراً واحداً ـ علمانياً بامتياز ـ انفرد بذلك الجزء، ومضى أصحابه يعزفون معزوفة واحدة، ويعبرون عن منظور واحد، في كافة المجالات الفكرية والسياسية. وفي حدود علمي فان أصحاب الأقلام من التيارات الأخرى المحجوبة، يتداولون في ما بينهم الآن اقتراحاً بتجميع مقالاتهم التي استبعدها الفريق المهيمن في «كتاب أسود»، يفضح زعم أولئك النفر الذين دافعوا عن التعددية وحرية الرأي والاختلاف في العلن، ثم احتكروا الخطاب، وتمسكوا بحقهم وحدهم في إبداء الرأي في حقيقة الأمر، فقمعوا مخالفيهم وحرموهم من محاورتهم والرد على مقولاتهم، وأعلنوا أمام الملأ «نحن التيارات»! لست أزعم أن حرية التعبير بخير في مصر، وانما لا أتردد في القول بأن ثمة سقوفاً تحد من تلك الحرية، شأنها في ذلك شأن أقطار عربية أخرى كثيرة، لكن ما يحيرني أن الغيرة على حرية التعبير لا يسمع لها صوت إلا إذا كان الكاتب أديباً أو شاعراً، وكان الموضوع متعلقاً بالمقدسات الدينية والقيم الأخلاقية. أما إذا كان الكاتب سياسياً، وكان الموضوع الذي يتناوله يتعلق بمجمل النظام أو ممارسات المؤسسة السياسية، فان مثل هذه الغيرة لا يظهر لها أثر، وهو ما يدفعني إلى طرح السؤال التالي: لماذا يشجع الاجراء على المساس بالأديان والقيم الأخلاقية، بينما يحذر الجميع من نقد الأوضاع والأنظمة السياسية؟ ولماذا يعد الاجتراء الأول ابداعاً، ويوصف الاحجام في الحالة الثانية بأنه حكمة؟
هل يعد هذا موقفاً مبدئياً، ان يشجع الاندفاع إلى حد التجاوز في التعبير عن الرأي في الروايات وقصائد الشعر، بينما يتجنب الجميع الافصاح عن آرائهم الحقيقية في الشأن السياسي؟
انني لا أعرف حقاً العلاقة بين الابداع والتنوير وبين البذاءة في التعبير والانحطاط في الأفكار. ولا أفهم هذا الاصرار على ان يقاس الابداع والتنوير بمدى الهامش المتاح للنيل من ثوابت المجتمع وقيمه الدينية والأخلاقية، وانما أذهب إلى أن الذين يسيئون إلى الابداع حقاً ويشوهونه هم أولئك الذين يتوسلون باللافتة ويسعون إلى هدم مختلف القيم النبيلة في مجتمعاتنا، لتفكيكها وتشويهها، بل ويتمسكون بأن تتولى الدولة الترويج لأفكارهم، من ميزانياتها التي تتوفر من عرق الشعب والضرائب المفروضة عليه.
ان الذين يدافعون عن حرية البذاءة وعن الأسلوب الفج الذي تعالج به المشاهد الجنسية، يسقطون من حسابهم واعتبارهم الأغلبية الساحقة من أبناء مجتمعاتنا التي تتعلق بتلك القيم وتحميها. ومن الخطأ البين والمغالطة الجسيمة ان تحتكر فئة أو تيار بذاته صفات المثقفين والمبدعين والمتنورين، الأمر الذي يقصي ويلغي الأغلبية، ويحذف رموزها من الساحة الثقافية تماماً.
مع ذلك فإن وجهة النظر الأخرى التي تعترض على مبدأ العدوان على القيم والثوابت لا تطالب باسكات أصوات «المبدعين» من ذلك الطراز الذي نحن بصدد مشكلته، وانما تطالب فقط بألا تتبنى الدولة الشطط الذي تتضمنه أعمالهم، بحيث يترك الأمر كله إلى القطاع الخاص، حيث يطبع الناشر الكتاب على مسؤوليته، بحيث يكون له غنمه وعليه غرمه، ولا يحسب على خط الدولة أو سياستها في نهاية المطاف.
من أغرب ما قيل في نقد قرار وزير الثقافة المصري ان صاحب السؤال الذي وجه إليه من أعضاء حركة الاخوان الذين دخلوا مجلس الشعب في الانتخابات الأخيرة، ولأنه كذلك فقد بنى بعض الناقدين على صفته ـ التي ركزوا عليها بشدة ـ ان الأمر لا يخلو من «مؤامرة» تستهدف المبدعين، وتعزز موقف التيار الرجعي والظلامي والمتطرف..إلخ.
وقد قلت في مقام آخر إن في الأمر اختزالاً مخلاً، لأن مسألة الأخلاق ليست بالضرورة شأن المتدينين ناهيك من المتطرفين، وانما هي أيضاً شأن العقلاء والأسوياء والراشدين، حيث لا يحتاج الأمر لأكثر من شخص عنى أبواه بتربيته، فترفع عن البذاءة والفحش، وعرف حدود ما ينبغي أن يقال أو لا يقال.
ان المعادلة التي تصور لنا الأمر بحسبانه خياراً بين ان يكون المرء بذيئاً وفاحشاً أو أن يكون متطرفاً، هي أقوى دعاية تشجع التطرف وتسوغه، ذلك أنها ستجد كثيرين يفتحون أذرعهم مرحبين بالتطرف طالما أنه بدا عاصماً من البذاءة والتسفل. اما اساءة تلك المعادلة اليائسة إلى مفهوم الابداع وقضية المبدعين، التي أشرت إليها توا، فهي بغير حدود وفوق ما يتصور أي أحد.
لقد قرأت وصفاً لما يجري في مصر بأنه «صراعات متخلفة»، الأمر الذي يوحي بأن اطلاق الفرصة لاشاعة الفاحشة بين الناس هو من قبيل التقدم، فضلاً عن أنه من مقتضى التنوير. ولأن الكاتب انقطع عن مصر سنين عددا، واستقر به المقام في الغرب، فلعله حاكم ما يجري في مصر بعين غربية، الأمر الذي لا بد أن ينتهي بوصف ذلك الذي يجري بأنه من مظاهر «التخلف». وهو ما سبقتنا الدول الغربية الى تجاوزه على النحو الذي يعرفه الجميع، فاطلقت العنان لاشباع الرغبات والشهوات، وهتكت المقدس، الذي لم يبق منه سوى تقديس الانسان لذاته ونزواته.
وهو أمر مؤسف حقاً ان لا نرى في الغرب أو نأخذ عنه إلا أتعس ما فيه، فنتجاهل الحرية السياسية والتقدم الاقتصادي والصناعي والزراعي، وننسى كل ما فيه من ايجابية، ثم نأسى على أننا لم نأخذ عنه التفلت والتحلل وهتك المقدسات! ترى، هل يختلف هذا النمط من التفكير كثيراً عن أولئك، الواقفين في المعسكر الآخر الذين لا يرون في الغرب سوى اباحته للشذوذ الجنسي؟