مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
إضاءة ديمقراطية في مصر
هويدي 4-9-2000

من مفارقات الحياة السياسية المصرية، ان البلد الذي عرف التعددية الحزبية مع بدايات القرن العشرين، لم يشهد منذ عام 1927 انتخابات ديمقراطية داخل الأحزاب السياسية إلا يوم الجمعة الماضي، أي بعد حوالي سبعة عقود! - فقد تم في ذلك اليوم المشهود انتخاب رئىس جديد لحزب الوفد بعد وفاة زعيمه فؤاد سراج الدين عن تسعين عاماً. وتلك ظاهرة تحتاج إلى تفسير وتحرير. والرئىس الجديد كان نائباً لسراج الدين، وهو استاذ القانون والمحامي المعروف الدكتور نعمان جمعه.
فعام 27 هو الذي مات فيه سعد زغلول باشا، الذي كان آنذاك زعيم الأمة الذي لا ينافس ولا ينازع، وقد أحدثت وفاته صدمة وفجوه كبيرة في حزب الوفد، خصوصاً أن شخصيته العريضة والقوية طغت على من حوله ولم تسمح بسطوع نجم آخر غيره. آنذاك أجريت انتخابات بين اثنين من رجال الصف الثاني في الوفد هما فتح الله بركات ومصطفى النحاس، والأول كان من المقربين «للزعيم الجليل» ومن مساعديه، خصوصاً انه كانت تربطه به صلة قرابة (كان ابن شقيق الزعيم) ـ أما مصطفى النحاس فقد كان السكرتير العام لحزب الوفد. وحين تنافس الاثنان على زعامة الحزب فان أركانه عقدوا اجتماعاً اختاروا فيه النحاس، بعد تصويت رجحت فيه كفته على منافسه بركات. ورغم تواضع التجربة الانتخابية بمعايير زماننا، إلا أنها كانت حدثاً مهماً إذا تابعناه بعين العشرينيات، خصوصاً ان كل الدلائل كانت تشير إلى أن بركات هو الزعيم القادم. حيث راج آنذاك أن ثمة اتفاقاً على ذلك بينه وبين الزعيم الراحل. وحين وقع الاختيار على النحاس فقد عدت تلك مفاجأة للأوساط السياسية جرى التأريخ بها.
ومنذ ذلك العام (1927م) وحتى الآن لم تعرف مصر انتخابات ديمقراطية داخل الأحزاب السياسية، لثلاثة أسباب:
* ان فكرة الاستخلاف أو التوريث هي التي ظلت مهيمنة على أسلوب اختيار القيادات الحزبية، ربما بسبب عدم نضج التجربة الديمقراطية في البلاد في ذلك الوقت المبكر، وربما لأن تركيبة المجتمع كانت أكثر ميلاً إلى ذلك. حيث يرى البعض ان المجتمعات النهرية ـ التي تعتمد على مياه النهر وليس الأمطار ـ مرشحة أكثر من غيرها لأن تصبح مجتمعات «بطريركية»، يقودها دائماً «الرجل الكبير» أو مايسمى بالفرعون في التاريخ المصري القديم. بسبب هيمنة فكرة الاستخلاف فإن زعماء الأحزاب درجوا على تسمية من يخلفهم، الأمر الذي كان يستبعد تلقائياً فكرة اجراء انتخابات لاختيار الخلف. وفي تجربة حزب الاصلاح على المبادئ الدستورية، الذي أسسه الشيخ علي يوسف صاحب جريدة «المؤيد» في بدايات القرن، فان الرجل حين لم يسم خلفا له، مات الحزب بموته واندثر من المسرح السياسي.
* العامل الثاني ان الحياة الحزبية جمدت بعد قيام ثورة يوليو، لمدة ربع قرن تقريباً إذ بعد أن ألغت الثورة الأحزاب السياسية، فانها لم تعد إلى الظهور تباعاً إلا ابتداء من عام 76، حين فتح الرئيس الراحل أنور السادات الباب لما سمي آنذاك بالمنابر، التي تحولت إلى أحزاب في وقت لاحق من العام ذاته. وحين عادت تلك الأحزاب بعد طول غياب، فانها لجأت إلى تنصيب شخصيات عامة وقيادات تاريخية في مواقع رئاستها، ربما لكي تجذب الجمهور، وربما أىضاً لكي تحظى بتأييد السلطة التي ظلت صاحبة القرار في تشكيل الأحزاب واقامتها، لأنه يفترض طبقاً للقانون أن ينشأ أي حزب بعد أجازة لجنة خاصة للأحزاب، هي خاضعة لنفوذ وسياسة الحكومة في نهاية المطاف.
* ولأن القيادة التاريخية ظلت هي محور كل حزب وموضع الاجماع فيه، فإن الأحزاب لم تنص نظمها الأساسية على مدة معينة لرئاسة الحزب. ولذلك فقد بات مستقراً ومعروفاً أن رئيس الحزب يبقى في موقعه إلى أن يتوفاه الله. وأدى ذلك أن أصبح متوسط عمر رئىس الحزب 75 عاماً تقريباً. فقد كان فؤاد سراج الدين باشا زعيم حزب الوفد في التسعين من عمره حين وفاته، والمهندس ابراهيم شكري رئىس حزب العمل عمره الآن 84 عاماً، والاستاذ مصطفى مشهور مرشد الاخوان عمره 79 عاماً، والاستاذ خالد محيي الدين رئيس حزب التجمع عمره 78 عاماً، وضياء الدين داود رئيس الحزب الناصري عمره 75 عاماً، أما رئىس حزب الأمة أحمد الصباحي فعمره الآن 85 عاماً. وحين توفى مصطفى كامل مراد رئىس حزب الأحرار عن 78 عاماً، فقد انفرط عقد الحزب ـ حتى الآن على الأقل ـ وأصبح جسماً بلا رأس.
اختصاراً، فانه منذ عادت الأحزاب إلى الظهور في أواخر السبعينيات لم تتغير قياداتها، استثني من ذلك حركة «الاخوان المسلمين» التي توفي مرشدها الاستاذ عمر التلمساني في عام 86 (عن 82 عاماً)، فوقع الاختيار على الاستاذ حامد أبو النصر الذي كان أكبر أعضاء مكتب الارشاد سناً، خلفاً له، وكان بدوره فوق الثمانين، وحين توفاه الله، عُيّن نائبه الاستاذ مصطفى مشهور مرشداً، بناء على تفاهم واتفاق أعضاء مكتب الارشاد. وأذكر أن الاعلان عن توليه ذلك المنصب تم وفاجأ الجميع أثناء دفن الاستاذ حامد أبو النصر، وقبل ان تنفض جنازته.
في كل الأحوال، فإن التغيير الذي طرأ على قيادة حركة الاخوان لم يتم بالانتخاب الديمقراطي، ربما كان لظروف الحظر القانوني الذي يحجب الشرعية عن الجماعة دخلاً كبيراً في ذلك، حيث يظل متعذراً من الناحية العملية ان يفتح باب الترشيح للقيادة ويتم التصويت لاختيار القائد، في جماعة يفترض انها محظورة قانونياً. واذا ما حدث ذلك فانه يعرض المشاركين في تلك «العملية الديمقراطية» للملاحقة القانونية بتهمة «احياء جماعة منحلة».
غير اننا ونحن نتأمل المشهد السياسي المصري، ونرصد ظاهرة شيخوخة زعماء الأحزاب السياسية، وغياب الديمقراطية في عملية انتخاب قياداتها، فاننا لا نستطيع أن نفصل بين ذلك وبين أجواء الممارسة الديمقراطية في مصر، خصوصاً إذا لاحظنا أن الحزب الحاكم، منذ قيام الثورة في حقيقة الأمر، يعاني من نفس الأعراض التي تحدث عنها.
ثمة حديث مستفيض في مصر حول ما يسمى بالجدب أو الكفاف السياسي، الأمر الذي يسوغ لنا ان نقول ان الجسم السياسي المصري يعاني من تصلب في الشرايين. واذا صح ذلك التشخيص فاننا ينبغي ألا نتوقع أن تدب الحيوية في جزء من الجسم دون آخر. غير ان ما جرى في انتخابات رئاسة حزب الوفد الأخيرة أثبت أن في الجسم بعض الخلايا الحية التي لم يصبها العطب بعد. ومن ثم فهناك ضوء في جانب من المشهد يعيد إلينا الأمل في الغد.. أو ما بعد الغد.
وإذا عددنا المؤشرات الايجابية التي استصحبت تلك الانتخابات فسنجدها كثيرة، بالمعيار النسبي بطبيعة الحال.
من هذه المؤشرات ان الانتخابات جرت بدرجة عالية من النزاهة والشفافية، تكاد تمثل استثناء على الممارسات السياسية «والديمقراطية» التي نعرفها. وان أربعة مرشحين تنافسوا على منصب رئىس الحزب، والحوار بينهم والمفاضلة كانت على أساس البرامج لا الأشخاص، وقد اتسمت الدعاية الانتخابية بالرصانه والرقي إلى حد كبير، الأمر الذي جنّب المعركة مظاهر التدني والاسفاف.
في الوقت ذاته أشرفت على الانتخابات لجان تولى رئاستها عدد من الشخصيات العامة المستقلة. وحين حاولت بعض العناصر استدعاء مؤسسات الدولة وأجهزتها للتدخل، فان تلك المؤسسات اعتبرت الانتخابات شأناً داخلياً للحزب، ليس للسلطة أو أي من أجهزتها أن يتدخل فيه.
من ناحية أخرى فقد وصلت نسبة المشاركة في الانتخابات إلى 76%، وهي نسبة عالية في أي انتخابات ديمقراطية حقيقية. أما الدكتور نعمان جمعه فقد فاز بنسبة 78.25% من الأصوات (لا ننسى أن الحضور في الديمقراطيات العربية التي نعرفها يصل إلى 100% أما الرئىس الفائز فلا تقل نسبة الأصوات التي تُعطى له عن 99%، وأحياناً تضاف إليها 0.9). ومما يجب تسجيله أيضاً ان الاختيار تم على أساس الكفاءة السياسية ولم تتدخل فيه الاعتبارات العائلية أو العاطفية. آية ذلك ان حفيد الزعيم الراحل، السيد فؤاد بدراوي، لم يفز بأكثر من 20.2% من الأصوات.
كان ملاحظاً أيضاً أن الاعلام الرسمي والصحف القومية اهتمت بانتخابات الحزب المعارض، وهو أمر طيب لاريب وإن لم يكن مألوفاً، وان كان بعض الخبثاء ارجعوا ذلك إلى أن الدكتور نعمان جمعة كان محامي الدكتور يوسف والي، نائب رئىس الوزراء والأمين العام للحزب الحاكم، في القضية التي رفعها ضد حزب العمل، واتهم فيها صحيفته «الشعب» بالتشهير به. وهو ما استدلوا منه على أن هناك ترحيباً رسمياً بتولي الدكتور نعمان رئاسة الحزب، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام تفاهم أكبر من الذي كان بين الحزب الحاكم وبين أكبر أحزاب المعارضة.
أياً كان الأمر، فنحن بصدد اضاءة ديمقراطية جديره بالحفاوة، حتى وإن كانت تلك الاضاءة على هامش الملعب السياسي وليس في قلبه.
أضافة تعليق