هويدي 4-6-2001
هل يجوز للمسلمين المقيمين في بريطانيا، أن يشاركوا في الانتخابات المفترض اجراؤها يوم الخميس المقبل؟
قرأت في «الشرق الأوسط» (عدد 5/14) رأيا دعا إلى مقاطعة تلك الانتخابات، تبناه اثنان من المسلمين المقيمين هناك، أحدهما ابتدع شيئاً اسمه «المحكمة الشرعية» وترأسها، والثاني اخترع كياناً آخر باسم «جماعة أنصار الشريعة» وتحدث باسمه. قال الأول في ما اعتبرته الصحيفة «فتوى» ذكر فيها أن مفهوم التوحيد «هو افراد العبودية لله وحده، أي أن الله هو الذي ينفرد بحق التشريع وليس مجلس العموم البريطاني». أضافت الفتوى أنه «يكفر من يصوت لرجل يشرع، ويكفر من يشارك في التشريع البريطاني. أما الذي غرر به أبناء الجالية المسلمة، وكان جاهلاً، فيعذر بجهله، وان أصر فان الجهل بالشرك لا عذر فيه». من ثم فان صاحب الفتوى دعا المسلمين إلى عدم المشاركة في ما أسماه بالانتخابات «الجاهلية»، سواء بالتصويت لصالح الأحزاب البريطانية، أو الترشيح باسمهم في الانتخابات النيابية المقبلة.
أما صاحب جماعة أنصار الشريعة، فقد نقلت عنه الصحيفة قوله: انه لا ينبغي للمسلم أن يبيع دينه من أجل وثيقة سفر أو جواز بريطاني أو غير ذلك من الأغراض الدنيوية الرخيصة، ثم نسبت إليه أنه دعا المسلمين في المسجد الذي يخطب فيه شمال لندن، إلى عدم المشاركة في الانتخابات البريطانية.
طبقاً لهذا الرأي فمطلوب من المسلمين الموجودين في بريطانيا أن يظلوا إلى الأبد خارج دائرة الحياة السياسية، بحيث يبقون أقلية مهمشة ومعزولة، عاجزة عن الدفاع عن حقوقها، أو حماية نفسها من خلال أي منبر عام، على مستوى البلديات أو المجالس النيابية، بل مطلوب منهم أيضاً أن يتجردوا من أية قوة تمكنهم من الضغط بأصواتهم للاعتراف بالدين الاسلامي في القانون البريطاني وبالتالي تحصينه ضد عدوان البعض عليه وتجريحهم له، مثلما حدث في كتاب «آيات شيطانية» الذي ألفه سلمان رشدي.
إذا صح ذلك فمعناه أن الفتوى لم تؤد وظيفتها في حل اشكال يواجهه المسلمون وانما تحولت إلى عبء يسهم في عزلتهم عن المجتمع، ويكرس ما قد يتعرضون له من مظالم، لأنه يحرمهم من أي تمثيل يرفع تلك المظالم أو يخفف منها. ناهيك من أن اختيارهم لهذا الموقف سوف يحول دون تفاعلهم مع المجتمع وتبليغهم بالرسالة التي يحملونها، ومن ثم تعطيل ذلك الواجب الشرعي الذي يكلفون بأدائه، بالحكمة والموعظة الحسنة.
كان يمكن أن يتجاهل المرء هذا الكلام، سواء لتهافته من الناحية الفقهية، أو لمحدودية تأثيره من الناحية العملية إلا أنني رجحت كفة مناقشته في العلن لأسباب عدة، منها أن «الشرق الأوسط» نشرت خبراً عنه تحت عنوان يقول: أصوليو لندن يدعون إلى مقاطعة الانتخابات البريطانية. ومنها ان هذا الرأي يتبناه ويردد حجته نفر من الشباب الذين يعيشون في الغرب، بل الذين يعيشون في العالم العربي ذاته، ممن يدعون اقرانهم إلى مقاطعة أي انتخابات نيابية، سواء بالتصويت أو الترشيح، وهؤلاء ممن يخاصمون الديمقراطية ويعتبرونها كفراً، بحجة انها تجعل من الشعب مصدر السلطات، بينما الله هو مصدر السلطات والتشريع في المفهوم الاسلامي الذي يتبنونه.
لن أتعرض لمجمل الموقف من الديمقراطية، وانما فقط أذكر بأن مؤيديها والداعين إليها من الناشطين الاسلاميين يقبلون بها في حدود الضوابط الشرعية المقررة، أي شريطة ألا تحل حراماً أو تحرم حلالاً. وهم أيضاً يفرقون بين مرجعية السلطة ومرجعية القانون ولا يرون غضاضة في أن يكون الشعب مصدر السلطات، بل ويقرون على حق الشعب في اختيار من يتولى أمره، ويتمسكون بأن يظل الكتاب والسنة هما مصدر القانون والتشريع.
فكرة مقاطعة الانتخابات تستند بالدرجة الأولى الى حجة أن الأنظمة لا تطبق شرع الله، وهي حجة تثير مسألتين، احداهما في تحديد المقصود بشرع الله، والثانية في ما إذا كانت الأنظمة مطالبة بتطبيق شرع الله أم لا.
في المسألة الأولى، الذي أفهمه أن شرع الله ليس فقط مجموعة القوانين أو الحدود، لكنه كل ما شرعه الله لتنظيم حياة الخلق، في عباداتهم ومعاملاتهم. ولذلك فالقول إن بعض الأنظمة العربية لا تطبق شرع الله يعوزه الدقة، وغاية ما يقال بحق تلك الأنظمة انها لا تطبق كل شرع الله. ذلك انها لا تحول مثلاً بين الناس وبين عباداتهم، ولا تمنع من الاحتكام إلى الشريعة الاسلامية في أمور الأحوال الشخصية، وفي العديد من المنازعات المدنية. نعم ليس هذا هو المنشود، لكنه لا يعني أن شرع الله غير مطبق باطلاق، من ثم فالقول بمقاطعة الانتخابات التي تجريها تلك الأنظمة العربية لا يستند إلى سند صحيح.
أما في المسألة الثانية فانه يتعين التفرقة بين دولة يمثل المسلمون أغلبية فيها، وأخرى يعد المسلمون فيها أقلية، لا يملكون فيها قراراً. وفي مثل هذه الدول الأخيرة لا تطرح مسألة تطبيق شرع الله، إلا في حدود دوائر المسلمين أنفسهم، بالدرجة الأولى في سلوكياتهم وأخلاقهم وأحوالهم الشخصية. ذلك ان غاية ما يطالب به المسلمون في تلك المجتمعات ان يحافظوا على هويتهم ودينهم أولاً، وأن يبلغوا الآخرين بما عندهم من خير بعد ذلك.
والأمر كذلك فانه يصبح من العبث القول في بلد كبريطانيا بأن الله هو الذي يشرع وليس مجلس العموم البريطاني، وأنه يكفر من يصوت لرجل يشرع، ويكفر من يشارك في التشريع البريطاني وهو عبث يقترن بدرجة عالية من الهزل والذهول عن الواقع. ذلك ان المجتمع لا يعترف إلا بمجلس العموم وقد ارتضاه مشرعاً، ثم ما معنى أن يكفر من يصوت لرجل يشرع أو يشارك في التشريع البريطاني، إذا كان ذلك التشريع يخاطب اناساً غير مسلمين أساساً؟
لقد نشرت «الشرق الأوسط» الخبر تحت عنوان «أصوليو لندن» يدعون إلى كذا وكذا. وربما كان مفيداً لنا أن نرجع في تقييم الموقف إلى الأصوليين الحقيقيين، وليس المدعين أو المزيفين.
لقد سئل شيخ الاسلام ابن تيمية في جواز تولي بعض الولايات في دولة ظالمة (وهو ما ينطبق على الدولة التي لا تطبق شرع الله جزئياً أو كلياً) ، إذا كان من شأن ذلك تخفيف بعض الظلم، أو تقليل حجم الشر والفساد. فرد على السؤال بما نصه:
نعم، إذا كان مجتهداً في العدل ورفع الظلم بحسب امكانه. وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الاقطاع خير من استيلاء غيره، كما قد ذكر: فانه يجوز له البقاء على الولاية والاقطاع، ولا اثم عليه في ذلك. بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه اذا لم يشتغل ـ إذا تركه ـ بما هو أفضل منه. وقد يكون ذلك واجباً عليه اذا لم يقم به غيره. فنشر العدل بحسب الامكان، ورفع الظلم بقدر الامكان فرض على الكفاية، يقوم كل انسان بما يقدر عليه من ذلك، إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب ـ والحالة هذه ـ بما يعجز عنه من رفع الظلم (مجموعة فتاوى شيخ الاسلام ـ جـ3 ص 356).
لقد استخدم ابن تيمية عقله الكبير، ووازن بين المصلحة والمفسدة في هذه الحالة. لم يقل كما قال أصحابنا إما كل شيء أو لا شيء. اما أن يطبق شرع الله في بريطانيا أو يخاصم المسلمون التصويت والترشيح، وان فعلوا ذلك صنفوا كفاراً والعياذ بالله. ولكنه اعتبر وجود المسلم في موقع من ذلك القبيل من شأنه تخفيف بعض الظلم، أو تقليل حجم الشر والفساد. ومن ثم فهو مفيد للمسلمين في كل الحالات.
الامام عز الدين بن عبد السلام، سلطان العلماء، تبنى نفس الموقف، حيث ذكر في كتابه «قواعد الأحكام في مصالح الامام» (ص 85) ما نصه «ولو استولى الكفار على اقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقدم مصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر: انقاذ ذلك كله جلباً للمصالح العامة، ودفعاً للمفاسد الشاملة، إذ يبعد من رحمة الشرع ورعايته لمصالح العباد، تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة، لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو «أحل لها».
الشيخ يوسف القرضاوي سار على نهج أولئك الأئمه الكبار، ففي الجزء الثالث من كتاب «فتاوى معاصرة» (ص 425) أجاب على سؤال وجه إليه حول جواز المشاركة في حكم غير اسلامي، والمقصود هنا نظام في بلد اسلامي لا يلتزم بالتطبيق الكامل للشريعة الاسلامية، فقال ان الاصل الا يشارك المسلم إلا في حكم يستطيع فيه أن ينفذ شرع الله فيما يوكل إليه من مهام الولاية أو الزيارة، وألا يخالف أمر الله تعالى ورسوله، الذي يجب أن يخضع لهما بمقتضى ايمانه. وإذا كان الأصل تحريم التعاون مع الذين ظلموا، إلا أن هناك حالات يخرج فيها عن الأصل لاعتبارات يقدرها الشرع قدرها.
من الاعتبارات التي وجدها الشيخ القرضاوي مسوغة للخروج على ذلك الأصل، ان تقليل الشر والظلم مطلوب بقدر الاستطاعة، وان العلماء أقروا بارتكاب أخف الضررين أو أهون الشرين دفعاً لاعلاهما، إلى جانب أن الضرورات تبيح المحظورات، ثم أن سنة التدرج التي هي من سنن الله في خلقه، تقتضي ان يبدأ الشيء صغيراً ثم يكبر.
اشترط الشيخ القرضاوي توفر عدة شروط في مثل تلك المشاركة، أولها أن تكون حقيقية وليست وهمية، حتى لا يصبح الطرف المسلم مطية لغيره، وألا يكون النظام موسوماً بالطغيان والعدوان على حقوق الانسان، إذ المفترض في هذه الحالة أن يقاوم المسلمون ذلك الوضع لا أن يكونوا عوناً له، وأن يكون للمسلم حق معارضة ما يخالف الاسلام أو التحفظ عليه. وأخيراً اشترط الشيخ أن يقدم المسلمون تجربتهم في هذا الصدد بين الحين والآخر، لكي يتحققوا من أن المشاركة حققت مصلحة للمسلمين أو قللت ضرراً، ولم تتسبب في مفسدة من أي نوع.
لقد تحدث القرضاوي في فتواه عن المشاركة في نظام حكم في بلد مسلم، وما نحن بصدده حالة أخف من ذلك بكثير، باعتبار أننا نناقش مشاركة المسلمين في نظام حكم لبلد غير مسلم، لا وجه لالزامه بتطبيق الشريعة. ذلك أن اجازة المشاركة في الحالة الأولى. تتحول إلى واجب في الحالة الثانية، خصوصاً في البلاد الديمقراطية، التي لا تتوفر فيها الحماية للناس إلا من خلال القانون والمؤسسات القائمة، لذلك لا تجوز مخاصمة تلك المؤسسات أو مقاطعتها لأن من شأن ذلك الحاق ضرر محقق بمصالح المسلمين، هو نتيجة طبيعية لانكفائهم وعزلتهم.
هل يجوز للمسلمين المقيمين في بريطانيا، أن يشاركوا في الانتخابات المفترض اجراؤها يوم الخميس المقبل؟
قرأت في «الشرق الأوسط» (عدد 5/14) رأيا دعا إلى مقاطعة تلك الانتخابات، تبناه اثنان من المسلمين المقيمين هناك، أحدهما ابتدع شيئاً اسمه «المحكمة الشرعية» وترأسها، والثاني اخترع كياناً آخر باسم «جماعة أنصار الشريعة» وتحدث باسمه. قال الأول في ما اعتبرته الصحيفة «فتوى» ذكر فيها أن مفهوم التوحيد «هو افراد العبودية لله وحده، أي أن الله هو الذي ينفرد بحق التشريع وليس مجلس العموم البريطاني». أضافت الفتوى أنه «يكفر من يصوت لرجل يشرع، ويكفر من يشارك في التشريع البريطاني. أما الذي غرر به أبناء الجالية المسلمة، وكان جاهلاً، فيعذر بجهله، وان أصر فان الجهل بالشرك لا عذر فيه». من ثم فان صاحب الفتوى دعا المسلمين إلى عدم المشاركة في ما أسماه بالانتخابات «الجاهلية»، سواء بالتصويت لصالح الأحزاب البريطانية، أو الترشيح باسمهم في الانتخابات النيابية المقبلة.
أما صاحب جماعة أنصار الشريعة، فقد نقلت عنه الصحيفة قوله: انه لا ينبغي للمسلم أن يبيع دينه من أجل وثيقة سفر أو جواز بريطاني أو غير ذلك من الأغراض الدنيوية الرخيصة، ثم نسبت إليه أنه دعا المسلمين في المسجد الذي يخطب فيه شمال لندن، إلى عدم المشاركة في الانتخابات البريطانية.
طبقاً لهذا الرأي فمطلوب من المسلمين الموجودين في بريطانيا أن يظلوا إلى الأبد خارج دائرة الحياة السياسية، بحيث يبقون أقلية مهمشة ومعزولة، عاجزة عن الدفاع عن حقوقها، أو حماية نفسها من خلال أي منبر عام، على مستوى البلديات أو المجالس النيابية، بل مطلوب منهم أيضاً أن يتجردوا من أية قوة تمكنهم من الضغط بأصواتهم للاعتراف بالدين الاسلامي في القانون البريطاني وبالتالي تحصينه ضد عدوان البعض عليه وتجريحهم له، مثلما حدث في كتاب «آيات شيطانية» الذي ألفه سلمان رشدي.
إذا صح ذلك فمعناه أن الفتوى لم تؤد وظيفتها في حل اشكال يواجهه المسلمون وانما تحولت إلى عبء يسهم في عزلتهم عن المجتمع، ويكرس ما قد يتعرضون له من مظالم، لأنه يحرمهم من أي تمثيل يرفع تلك المظالم أو يخفف منها. ناهيك من أن اختيارهم لهذا الموقف سوف يحول دون تفاعلهم مع المجتمع وتبليغهم بالرسالة التي يحملونها، ومن ثم تعطيل ذلك الواجب الشرعي الذي يكلفون بأدائه، بالحكمة والموعظة الحسنة.
كان يمكن أن يتجاهل المرء هذا الكلام، سواء لتهافته من الناحية الفقهية، أو لمحدودية تأثيره من الناحية العملية إلا أنني رجحت كفة مناقشته في العلن لأسباب عدة، منها أن «الشرق الأوسط» نشرت خبراً عنه تحت عنوان يقول: أصوليو لندن يدعون إلى مقاطعة الانتخابات البريطانية. ومنها ان هذا الرأي يتبناه ويردد حجته نفر من الشباب الذين يعيشون في الغرب، بل الذين يعيشون في العالم العربي ذاته، ممن يدعون اقرانهم إلى مقاطعة أي انتخابات نيابية، سواء بالتصويت أو الترشيح، وهؤلاء ممن يخاصمون الديمقراطية ويعتبرونها كفراً، بحجة انها تجعل من الشعب مصدر السلطات، بينما الله هو مصدر السلطات والتشريع في المفهوم الاسلامي الذي يتبنونه.
لن أتعرض لمجمل الموقف من الديمقراطية، وانما فقط أذكر بأن مؤيديها والداعين إليها من الناشطين الاسلاميين يقبلون بها في حدود الضوابط الشرعية المقررة، أي شريطة ألا تحل حراماً أو تحرم حلالاً. وهم أيضاً يفرقون بين مرجعية السلطة ومرجعية القانون ولا يرون غضاضة في أن يكون الشعب مصدر السلطات، بل ويقرون على حق الشعب في اختيار من يتولى أمره، ويتمسكون بأن يظل الكتاب والسنة هما مصدر القانون والتشريع.
فكرة مقاطعة الانتخابات تستند بالدرجة الأولى الى حجة أن الأنظمة لا تطبق شرع الله، وهي حجة تثير مسألتين، احداهما في تحديد المقصود بشرع الله، والثانية في ما إذا كانت الأنظمة مطالبة بتطبيق شرع الله أم لا.
في المسألة الأولى، الذي أفهمه أن شرع الله ليس فقط مجموعة القوانين أو الحدود، لكنه كل ما شرعه الله لتنظيم حياة الخلق، في عباداتهم ومعاملاتهم. ولذلك فالقول إن بعض الأنظمة العربية لا تطبق شرع الله يعوزه الدقة، وغاية ما يقال بحق تلك الأنظمة انها لا تطبق كل شرع الله. ذلك انها لا تحول مثلاً بين الناس وبين عباداتهم، ولا تمنع من الاحتكام إلى الشريعة الاسلامية في أمور الأحوال الشخصية، وفي العديد من المنازعات المدنية. نعم ليس هذا هو المنشود، لكنه لا يعني أن شرع الله غير مطبق باطلاق، من ثم فالقول بمقاطعة الانتخابات التي تجريها تلك الأنظمة العربية لا يستند إلى سند صحيح.
أما في المسألة الثانية فانه يتعين التفرقة بين دولة يمثل المسلمون أغلبية فيها، وأخرى يعد المسلمون فيها أقلية، لا يملكون فيها قراراً. وفي مثل هذه الدول الأخيرة لا تطرح مسألة تطبيق شرع الله، إلا في حدود دوائر المسلمين أنفسهم، بالدرجة الأولى في سلوكياتهم وأخلاقهم وأحوالهم الشخصية. ذلك ان غاية ما يطالب به المسلمون في تلك المجتمعات ان يحافظوا على هويتهم ودينهم أولاً، وأن يبلغوا الآخرين بما عندهم من خير بعد ذلك.
والأمر كذلك فانه يصبح من العبث القول في بلد كبريطانيا بأن الله هو الذي يشرع وليس مجلس العموم البريطاني، وأنه يكفر من يصوت لرجل يشرع، ويكفر من يشارك في التشريع البريطاني وهو عبث يقترن بدرجة عالية من الهزل والذهول عن الواقع. ذلك ان المجتمع لا يعترف إلا بمجلس العموم وقد ارتضاه مشرعاً، ثم ما معنى أن يكفر من يصوت لرجل يشرع أو يشارك في التشريع البريطاني، إذا كان ذلك التشريع يخاطب اناساً غير مسلمين أساساً؟
لقد نشرت «الشرق الأوسط» الخبر تحت عنوان «أصوليو لندن» يدعون إلى كذا وكذا. وربما كان مفيداً لنا أن نرجع في تقييم الموقف إلى الأصوليين الحقيقيين، وليس المدعين أو المزيفين.
لقد سئل شيخ الاسلام ابن تيمية في جواز تولي بعض الولايات في دولة ظالمة (وهو ما ينطبق على الدولة التي لا تطبق شرع الله جزئياً أو كلياً) ، إذا كان من شأن ذلك تخفيف بعض الظلم، أو تقليل حجم الشر والفساد. فرد على السؤال بما نصه:
نعم، إذا كان مجتهداً في العدل ورفع الظلم بحسب امكانه. وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الاقطاع خير من استيلاء غيره، كما قد ذكر: فانه يجوز له البقاء على الولاية والاقطاع، ولا اثم عليه في ذلك. بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه اذا لم يشتغل ـ إذا تركه ـ بما هو أفضل منه. وقد يكون ذلك واجباً عليه اذا لم يقم به غيره. فنشر العدل بحسب الامكان، ورفع الظلم بقدر الامكان فرض على الكفاية، يقوم كل انسان بما يقدر عليه من ذلك، إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب ـ والحالة هذه ـ بما يعجز عنه من رفع الظلم (مجموعة فتاوى شيخ الاسلام ـ جـ3 ص 356).
لقد استخدم ابن تيمية عقله الكبير، ووازن بين المصلحة والمفسدة في هذه الحالة. لم يقل كما قال أصحابنا إما كل شيء أو لا شيء. اما أن يطبق شرع الله في بريطانيا أو يخاصم المسلمون التصويت والترشيح، وان فعلوا ذلك صنفوا كفاراً والعياذ بالله. ولكنه اعتبر وجود المسلم في موقع من ذلك القبيل من شأنه تخفيف بعض الظلم، أو تقليل حجم الشر والفساد. ومن ثم فهو مفيد للمسلمين في كل الحالات.
الامام عز الدين بن عبد السلام، سلطان العلماء، تبنى نفس الموقف، حيث ذكر في كتابه «قواعد الأحكام في مصالح الامام» (ص 85) ما نصه «ولو استولى الكفار على اقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقدم مصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر: انقاذ ذلك كله جلباً للمصالح العامة، ودفعاً للمفاسد الشاملة، إذ يبعد من رحمة الشرع ورعايته لمصالح العباد، تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة، لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو «أحل لها».
الشيخ يوسف القرضاوي سار على نهج أولئك الأئمه الكبار، ففي الجزء الثالث من كتاب «فتاوى معاصرة» (ص 425) أجاب على سؤال وجه إليه حول جواز المشاركة في حكم غير اسلامي، والمقصود هنا نظام في بلد اسلامي لا يلتزم بالتطبيق الكامل للشريعة الاسلامية، فقال ان الاصل الا يشارك المسلم إلا في حكم يستطيع فيه أن ينفذ شرع الله فيما يوكل إليه من مهام الولاية أو الزيارة، وألا يخالف أمر الله تعالى ورسوله، الذي يجب أن يخضع لهما بمقتضى ايمانه. وإذا كان الأصل تحريم التعاون مع الذين ظلموا، إلا أن هناك حالات يخرج فيها عن الأصل لاعتبارات يقدرها الشرع قدرها.
من الاعتبارات التي وجدها الشيخ القرضاوي مسوغة للخروج على ذلك الأصل، ان تقليل الشر والظلم مطلوب بقدر الاستطاعة، وان العلماء أقروا بارتكاب أخف الضررين أو أهون الشرين دفعاً لاعلاهما، إلى جانب أن الضرورات تبيح المحظورات، ثم أن سنة التدرج التي هي من سنن الله في خلقه، تقتضي ان يبدأ الشيء صغيراً ثم يكبر.
اشترط الشيخ القرضاوي توفر عدة شروط في مثل تلك المشاركة، أولها أن تكون حقيقية وليست وهمية، حتى لا يصبح الطرف المسلم مطية لغيره، وألا يكون النظام موسوماً بالطغيان والعدوان على حقوق الانسان، إذ المفترض في هذه الحالة أن يقاوم المسلمون ذلك الوضع لا أن يكونوا عوناً له، وأن يكون للمسلم حق معارضة ما يخالف الاسلام أو التحفظ عليه. وأخيراً اشترط الشيخ أن يقدم المسلمون تجربتهم في هذا الصدد بين الحين والآخر، لكي يتحققوا من أن المشاركة حققت مصلحة للمسلمين أو قللت ضرراً، ولم تتسبب في مفسدة من أي نوع.
لقد تحدث القرضاوي في فتواه عن المشاركة في نظام حكم في بلد مسلم، وما نحن بصدده حالة أخف من ذلك بكثير، باعتبار أننا نناقش مشاركة المسلمين في نظام حكم لبلد غير مسلم، لا وجه لالزامه بتطبيق الشريعة. ذلك أن اجازة المشاركة في الحالة الأولى. تتحول إلى واجب في الحالة الثانية، خصوصاً في البلاد الديمقراطية، التي لا تتوفر فيها الحماية للناس إلا من خلال القانون والمؤسسات القائمة، لذلك لا تجوز مخاصمة تلك المؤسسات أو مقاطعتها لأن من شأن ذلك الحاق ضرر محقق بمصالح المسلمين، هو نتيجة طبيعية لانكفائهم وعزلتهم.