هويدي 4-2-2002
اتصل بي هاتفيا أحد محرري صحيفة «وول ستريت جورنال» في نيويورك، ليسألني عما اذا كنت أوافق على التوقيع على مناشدة تدعو الى اطلاق سراح الصحفي الاميركي دانيال بيرل، الذي اختطفته احدى الجماعات الباكستانية، وهددت بقتله اذا لم تستجب الولايات المتحدة لطلبها توفير ظروف افضل للأسرى الذين نقلهم الاميركيون الى «جوانتانامو». تعاطفت مع الصحفي، وهو الاميركي واليهودي، لما عرفته عنه من التزام بالموضوعية وباحترام قيم المهنة، لذلك لم أتردد في ضم اسمي الى قائمة الموقعين على المناشدة، تضامنا مع مظلوميته، من ناحية، ورفضا للاسلوب الذي اتبع ازاءه من ناحية ثانية.
لا أعرف (إذ اكتب هذا المقال) ما اذا كانت الجماعة التي اختطفته ستنفذ تهديدها بقتله أم لا، وأرجو ان تثوب الى رشدها وتعدل عما انتوته، بقدر ما أرجو أن يدرك أصحاب القرار في واشنطون أن هذه العملية الحمقاء، بصرف النظر عن ملابساتها وما تردد عن احتمالات ضلوع الهند فيها، من أولى النتائج البائسة المترتبة على حملتها المزعومة ضد الارهاب، وهو ما يؤيد ما سبق ان قلناه ـ وقاله آخرون ـ من أن الاسلوب الذي اتبع في تلك الحملة من شأنه أن يغذي نزعة الانتقام والكراهية، ومن ثم يزيد من مساحة العنف، لا أن يقلصها، وان تصرفات من ذلك القبيل الذي اتبعه الاميركيون في افغانستان وفي غيرها كان الظن ان ردود أفعالها السلبية ستحدث في الأجل البعيد، لكنها لاحت بأسرع مما توقعنا، وما جرى في كراتشي لصحفي «وول ستريت جورنال» نموذج لتلك الردود المرشحة للتكرار في اماكن اخرى كثيرة للأسف الشديد. انه بعض حصاد ما تم زرعه خلال القصف العنيف.
حملة جمع التوقيعات التي قام بها زملاء الصحفي الاميركي، وحرصوا على أن تشمل عددا من المثقفين بينهم صحفيون عرب ومسلمون من زملاء المهنة، اثارت عندي اسئلة عدة حول الاسلوب الذي نتبعه في الدفاع عن قضايانا، وكيف أننا لا نحسن اساليب النضال المدني والديمقراطي، كما أننا لا نسعى الى كسب الرأي العام الى صفنا، من خلال التفاعل مع المثقفين الشرفاء في الغرب والشرق ممن يؤمنون بعدالة قضايانا، ويتعاطفون مع مواقفنا.
ادري ان الاهتمام العام بمصيره ليس راجعا فقط الى مظلوميته، ولكن ايضا لأنه اميركي اذ ليس خافيا ان الاميركيين وأضرابهم من الاوروبيين لهم وضع خاص في «بورصة» اسعار البشر، ولو ان الصحفي كان منسوبا الى بلد أسيوي أو افريقي لما اعتنى أحد بمصيره، والطريف هنا ان هذا التفاوت بين قيمة انسان العالم الأول ونظيره في العالم الثالث، ليس مقصورا على النظر الغربي وحده، ولكنه معترف به ضمنا في العالم الثالث ذاته، آية ذلك أن الصحفي الغربي حين يوفد مثلا الى أي من مناطق الخطر أو الصراع في العالم فإن صحيفته تؤمن على حياته بمئات الآلاف من الدولارات، بينما صحف العالم الثالث، لا يعني أحد بحياته، ولا يخطر على بال المؤسسة التي ينتمي اليها ان تنفق دولارا واحدا في التأمين عليه، وحين كنت في كابول مؤخرا علمت ان مندوب الـ «سي. ان. ان» الاميركية مؤمن عليه بمليون دولار، أما مندبو التليفزيونات العربية فهم على باب الله، وحياتهم بالمجان، ولا أحد منهم يعرف مصير اسرته اذا فقد حياته، لا قدر الله.
ولماذا نذهب بعيدا وبعض اقطارنا العربية ما زالت تتعامل مع الانسان الغربي باعتباره مواطنا من الدرجة الأولى الممتاز، أما الوافد العربي، أو الغربي ذو الأصل العربي، فينبغي ان يكون دونه بكثير، حتى وان حمل ذات المؤهل العلمي وذات الخبرة أو تخرج من ذات الكلية أو كان متجنسا بذات الجنسية، ذلك ان انتسابه العربي يخصم من رصيده وينزل من قيمته.
نعم قيمة الانسان مختلفة هناك وهنا، لأسباب يطول شرحها ولا مجال للخوض فيها في السياق الذي نحن بصدده، ومع ادراكي لتلك الحقيقة فإن تضامني مع الصحفي بيرل لا علاقة له بكونه اميركيا، واذا كان زملاؤه قد تحركوا لانقاذ حياته، واذا كانت وكالات الانباء قد حرصت على متابعة حالاته والاهتمام بمصيره، فإننا لا نستطيع ان نلوم الرجل على ذلك، وانما علينا أن نلوم انفسنا سواء، لأننا لا نحترم قيمة الانسان في بلادنا، أو لأننا لا نعني بمد الجسور والتفاعل مع الشرفاء في أنحاء العالم في الدفاع عن قضايانا وحقوقنا المهدورة.
أخشى من اطلاق الحكم، لأن ثمة محاولة استثنائية سعى اصحابها لسد تلك الثغرة عن طريق اقامة تجمع للمثقفين المسلمين والغربيين للحوار والدفاع عن القضايا العادلة والقيم المشتركة، وهذا التجمع الذي اطلق عليه اسم «الحلقة» تأسس في لندن عام 1996ـ قبل الدخول في صرعة حوار الحضارات ـ وكان مؤسسوه 24 شخصا يمثلون الجانبين، وبعدما عقد اعضاؤه أكثر من دورة واصدروا عدة بيانات مشتركة، فإن مسيرة «الحلقة» تباطأت لصعوبات تعلقت بالتكوين في الأغلب، وهناك جمهود تبذل الآن لإنعاش المشروع وتجديد مسيرته.
ان أمامنا الآن ثلاث قضايا تتطلب احتشادا ثقافيا لتنوير الرأي العام العالمي وتنبيهه الى خطورتها ومدى تهديدها لقيم التعايش والسلام، أو اهدارها لحقوق الانسان وكرامته، هذه القضايا الثلاث هي:
ـ الحملة الوحشية على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
ـ الأسرى والمعتقلون في افغانستان والذين نقلوا منهم في جوانتانامو.
ـ التوجه الاميركي صوب قصف العراق وتهديد ايران بعد افغانستان، تذرعا بحملة مكافحة الارهاب.
ـ الحملة العنصرية التي تستهدف الاسلام والمسلمين والعرب منهم بوجه أخص.
ـ انهم يتحركون ويحشدون المثقفين للدفاع عن صحفي اختطف، وهذا موقف يحترم ويقدر لا ريب.
وهذه شعوب كامنة وجماعات انسانية كبيرة العدد، تهدد بالتدمير والترويع والتركيع، وهي أولى بالتضامن واجدر بأن يحتشد المثقفون الشرفاء في انحاء العالم للدفاع عنها، وادانة كل عدوان عليها، ومن حقنا وواجبنا ان ندعو مثقفي العالم ـ أو من نستطيع ان نصل اليه منهم ـ لكي يعلنوا موافقتهم في بيانات نعدها وندعوهم للتوقيع عليها. وحتى اذا لم تؤد تلك البيانات الى نتائج عملية ولم تعد شيئا من المظالم التي تتعرض لها شعوبنا وأمتنا، فإن تلك البيانات تظل شهادات ادبية وتاريخية تدفع الظلمة والمستكبرين والعنصرين، وهي من قبيل انكار المنكر باللسان على أي حال.
لماذا اسقطنا النضال المدني من حساباتنا في العالم العربي والاسلامي؟
قبل أن اجيب أرجو ان لا يلتبس السؤال، ويظن احد من الناس انني أدعو الى الغاء وسائل النضال الأخرى، كما يفعل آخرون من المروجين للانهزام والانبطاح، لكن أقول ان لكل مقام مقالا، ولكل ساحة أهلها والنضال تختلف اساليبه من ساحة الى أخرى، ومن شريحة الى أخرى ولا غضاضة ـ بل قد يكون مطلوبا احيانا ـ ان نمارس الاساليب المختلفة بشكل مواز على الجبهة الواحدة، ففي حالة احتلال الأرض مثلا، فإن الجهاد بالسنان له أهله وساحته، كما ان الجهاد بالكلمة واللسان له أهله وساحته، وليس لأي منهما أن يلغي الثاني أو يتقاطع معه.
اذا عدنا الى السؤال، وحاولنا تفسير ظاهرة غياب النضال المدني في ساحتنا الثقافية، فإنني قد أرجع ذلك الى اسباب عدة في مقدمتها صوت المجتمع المدني في اقطارنا، وتغول السلطات التي مكنتها ادوات الدولة الحديثة من بسط هيمنتها وتكبيل قوى المجتمع ومن ثم تهميشها والغاء دورها، حتى قلت ذات مرة ان الناظر الى عالمنا العربي من خارجه يظن انه يضم حكومات بلا شعوب، لأن صوت الحكومات هو المعلا، بينما لا يكاد يسمع للشعوب صوت، ان شئت فقل ان غياب الديمقراطية عن أغلب اقطارنا يتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية عن تغيب اساليب النضال المدني، حيث هذا النضال يستلزم وجود مجتمع مدني بالاساس، فمثلا في المؤسسات الفاعلة وما يستصحب ذلك من اذكاء لحق الجماهير في المشاركة والمحاسبة، واذا لم يوجد ذلك البنيان المؤسسي، فإن كل ما يرجى منه يظل في اطار التمني والحلم.
ومن اسف ان أكثر من منظمات المجتمع المدني التي تشكلت حديثا في العالم العربي تعتمد على التمويل الاجنبي، الأمر الذي يفرض عليها الالتزام بالاجندة الغربية، وقد شهدت القاهرة في الاسبوع الماضي مؤتمرا دوليا كبيرا حول الارهاب وحقوق الانسان، انصبت أكثر الاحاديث عما جرى في 11 سبتمبر (ايلول)، الأمر الذي استفز الدكتور عزمي بشارة، القيادي الفلسطيني المعروف، فعبر عن استيائه ازاء هيمنة المنظور الغربي على خطاب المؤتمر، ودعا الحضور للانتباه الى ما يجرى في فلسطين، حيث تمارس الحكومة الاسرائيلية ترهيبا يوميا، لا يقل في مداه ولا عمق أثره عما جرى في 11 سبتمبر 2001.
ربما اسهم في تغييب فكرة النضال المدني ان الأنظمة التي احتكرت السلطة لعدد من العقود في العالم العربي نجحت في استقطاب قطاعات واسعة من المثقفين، الذين تحولوا بمضي الوقت، ومع استمرار الموت السياسي، وفي ظل الغوايات الكثيرة الى ابواق للسلطة، ومن ثم شغلوا انفسهم بالتعبير عن سياساتها بأكثر من انشغالهم بالتعبير عن ضمير المجتمع وهموم الأمة.
وربما كان لشيوع ثقافة الانكفاء على الذات دوره ايضا في تشكيل الظاهرة، وهو ما تمثل في ارتفاع نبرة الحديث عن الأنا، واستغراق كثيرين في ما هو خاص، انسحابا من العام، وعزوفا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعدما جرى اختزاله وابتذاله احيانا، وتحويله من قيمة للفاعلية والايجابية واستنفار مصادر الخير لاصلاح ما هو معوج، الى شأن متواضع يلاحق باسمه العصاة وبعض المتفلتين من تكاليف والتزامات الشريعة الشخصية.
على صعيد آخر، فإن عدم الالتفات الى اهمية التفاعل مع المثقفين الشرفاء في العالم ربما كان راجعا الى نظرة البعض عندنا الى الغرب باعتباره كتلة واحدة، دون تمييز كاف بين السلطة والقوى السياسية والمراكز الثقافية والاحزاب والمؤسسات الدينية.. الخ.
لا نستطيع ان ننتظر حتى ينصلح كل العوج في بلادنا ثم نتحرك بعد ذلك لاستنهاض الهمم ودعوة المثقفين وأهل الضمير الى التضامن معنا في رد ما تتعرض له امتنا وديننا من عدوان ومظالم. لماذا لا تبادر بعض تجمعاتنا أو رموزنا الثقافية التي نجت من الاحتكار والتغول الى اطلاق دعوة الشرفاء من مثقفي العالم لكي يسجلوا موقفهم من تلك القضايا والتحديات الملحة التي تواجه امتنا في الوقت الراهن.
اتصل بي هاتفيا أحد محرري صحيفة «وول ستريت جورنال» في نيويورك، ليسألني عما اذا كنت أوافق على التوقيع على مناشدة تدعو الى اطلاق سراح الصحفي الاميركي دانيال بيرل، الذي اختطفته احدى الجماعات الباكستانية، وهددت بقتله اذا لم تستجب الولايات المتحدة لطلبها توفير ظروف افضل للأسرى الذين نقلهم الاميركيون الى «جوانتانامو». تعاطفت مع الصحفي، وهو الاميركي واليهودي، لما عرفته عنه من التزام بالموضوعية وباحترام قيم المهنة، لذلك لم أتردد في ضم اسمي الى قائمة الموقعين على المناشدة، تضامنا مع مظلوميته، من ناحية، ورفضا للاسلوب الذي اتبع ازاءه من ناحية ثانية.
لا أعرف (إذ اكتب هذا المقال) ما اذا كانت الجماعة التي اختطفته ستنفذ تهديدها بقتله أم لا، وأرجو ان تثوب الى رشدها وتعدل عما انتوته، بقدر ما أرجو أن يدرك أصحاب القرار في واشنطون أن هذه العملية الحمقاء، بصرف النظر عن ملابساتها وما تردد عن احتمالات ضلوع الهند فيها، من أولى النتائج البائسة المترتبة على حملتها المزعومة ضد الارهاب، وهو ما يؤيد ما سبق ان قلناه ـ وقاله آخرون ـ من أن الاسلوب الذي اتبع في تلك الحملة من شأنه أن يغذي نزعة الانتقام والكراهية، ومن ثم يزيد من مساحة العنف، لا أن يقلصها، وان تصرفات من ذلك القبيل الذي اتبعه الاميركيون في افغانستان وفي غيرها كان الظن ان ردود أفعالها السلبية ستحدث في الأجل البعيد، لكنها لاحت بأسرع مما توقعنا، وما جرى في كراتشي لصحفي «وول ستريت جورنال» نموذج لتلك الردود المرشحة للتكرار في اماكن اخرى كثيرة للأسف الشديد. انه بعض حصاد ما تم زرعه خلال القصف العنيف.
حملة جمع التوقيعات التي قام بها زملاء الصحفي الاميركي، وحرصوا على أن تشمل عددا من المثقفين بينهم صحفيون عرب ومسلمون من زملاء المهنة، اثارت عندي اسئلة عدة حول الاسلوب الذي نتبعه في الدفاع عن قضايانا، وكيف أننا لا نحسن اساليب النضال المدني والديمقراطي، كما أننا لا نسعى الى كسب الرأي العام الى صفنا، من خلال التفاعل مع المثقفين الشرفاء في الغرب والشرق ممن يؤمنون بعدالة قضايانا، ويتعاطفون مع مواقفنا.
ادري ان الاهتمام العام بمصيره ليس راجعا فقط الى مظلوميته، ولكن ايضا لأنه اميركي اذ ليس خافيا ان الاميركيين وأضرابهم من الاوروبيين لهم وضع خاص في «بورصة» اسعار البشر، ولو ان الصحفي كان منسوبا الى بلد أسيوي أو افريقي لما اعتنى أحد بمصيره، والطريف هنا ان هذا التفاوت بين قيمة انسان العالم الأول ونظيره في العالم الثالث، ليس مقصورا على النظر الغربي وحده، ولكنه معترف به ضمنا في العالم الثالث ذاته، آية ذلك أن الصحفي الغربي حين يوفد مثلا الى أي من مناطق الخطر أو الصراع في العالم فإن صحيفته تؤمن على حياته بمئات الآلاف من الدولارات، بينما صحف العالم الثالث، لا يعني أحد بحياته، ولا يخطر على بال المؤسسة التي ينتمي اليها ان تنفق دولارا واحدا في التأمين عليه، وحين كنت في كابول مؤخرا علمت ان مندوب الـ «سي. ان. ان» الاميركية مؤمن عليه بمليون دولار، أما مندبو التليفزيونات العربية فهم على باب الله، وحياتهم بالمجان، ولا أحد منهم يعرف مصير اسرته اذا فقد حياته، لا قدر الله.
ولماذا نذهب بعيدا وبعض اقطارنا العربية ما زالت تتعامل مع الانسان الغربي باعتباره مواطنا من الدرجة الأولى الممتاز، أما الوافد العربي، أو الغربي ذو الأصل العربي، فينبغي ان يكون دونه بكثير، حتى وان حمل ذات المؤهل العلمي وذات الخبرة أو تخرج من ذات الكلية أو كان متجنسا بذات الجنسية، ذلك ان انتسابه العربي يخصم من رصيده وينزل من قيمته.
نعم قيمة الانسان مختلفة هناك وهنا، لأسباب يطول شرحها ولا مجال للخوض فيها في السياق الذي نحن بصدده، ومع ادراكي لتلك الحقيقة فإن تضامني مع الصحفي بيرل لا علاقة له بكونه اميركيا، واذا كان زملاؤه قد تحركوا لانقاذ حياته، واذا كانت وكالات الانباء قد حرصت على متابعة حالاته والاهتمام بمصيره، فإننا لا نستطيع ان نلوم الرجل على ذلك، وانما علينا أن نلوم انفسنا سواء، لأننا لا نحترم قيمة الانسان في بلادنا، أو لأننا لا نعني بمد الجسور والتفاعل مع الشرفاء في أنحاء العالم في الدفاع عن قضايانا وحقوقنا المهدورة.
أخشى من اطلاق الحكم، لأن ثمة محاولة استثنائية سعى اصحابها لسد تلك الثغرة عن طريق اقامة تجمع للمثقفين المسلمين والغربيين للحوار والدفاع عن القضايا العادلة والقيم المشتركة، وهذا التجمع الذي اطلق عليه اسم «الحلقة» تأسس في لندن عام 1996ـ قبل الدخول في صرعة حوار الحضارات ـ وكان مؤسسوه 24 شخصا يمثلون الجانبين، وبعدما عقد اعضاؤه أكثر من دورة واصدروا عدة بيانات مشتركة، فإن مسيرة «الحلقة» تباطأت لصعوبات تعلقت بالتكوين في الأغلب، وهناك جمهود تبذل الآن لإنعاش المشروع وتجديد مسيرته.
ان أمامنا الآن ثلاث قضايا تتطلب احتشادا ثقافيا لتنوير الرأي العام العالمي وتنبيهه الى خطورتها ومدى تهديدها لقيم التعايش والسلام، أو اهدارها لحقوق الانسان وكرامته، هذه القضايا الثلاث هي:
ـ الحملة الوحشية على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
ـ الأسرى والمعتقلون في افغانستان والذين نقلوا منهم في جوانتانامو.
ـ التوجه الاميركي صوب قصف العراق وتهديد ايران بعد افغانستان، تذرعا بحملة مكافحة الارهاب.
ـ الحملة العنصرية التي تستهدف الاسلام والمسلمين والعرب منهم بوجه أخص.
ـ انهم يتحركون ويحشدون المثقفين للدفاع عن صحفي اختطف، وهذا موقف يحترم ويقدر لا ريب.
وهذه شعوب كامنة وجماعات انسانية كبيرة العدد، تهدد بالتدمير والترويع والتركيع، وهي أولى بالتضامن واجدر بأن يحتشد المثقفون الشرفاء في انحاء العالم للدفاع عنها، وادانة كل عدوان عليها، ومن حقنا وواجبنا ان ندعو مثقفي العالم ـ أو من نستطيع ان نصل اليه منهم ـ لكي يعلنوا موافقتهم في بيانات نعدها وندعوهم للتوقيع عليها. وحتى اذا لم تؤد تلك البيانات الى نتائج عملية ولم تعد شيئا من المظالم التي تتعرض لها شعوبنا وأمتنا، فإن تلك البيانات تظل شهادات ادبية وتاريخية تدفع الظلمة والمستكبرين والعنصرين، وهي من قبيل انكار المنكر باللسان على أي حال.
لماذا اسقطنا النضال المدني من حساباتنا في العالم العربي والاسلامي؟
قبل أن اجيب أرجو ان لا يلتبس السؤال، ويظن احد من الناس انني أدعو الى الغاء وسائل النضال الأخرى، كما يفعل آخرون من المروجين للانهزام والانبطاح، لكن أقول ان لكل مقام مقالا، ولكل ساحة أهلها والنضال تختلف اساليبه من ساحة الى أخرى، ومن شريحة الى أخرى ولا غضاضة ـ بل قد يكون مطلوبا احيانا ـ ان نمارس الاساليب المختلفة بشكل مواز على الجبهة الواحدة، ففي حالة احتلال الأرض مثلا، فإن الجهاد بالسنان له أهله وساحته، كما ان الجهاد بالكلمة واللسان له أهله وساحته، وليس لأي منهما أن يلغي الثاني أو يتقاطع معه.
اذا عدنا الى السؤال، وحاولنا تفسير ظاهرة غياب النضال المدني في ساحتنا الثقافية، فإنني قد أرجع ذلك الى اسباب عدة في مقدمتها صوت المجتمع المدني في اقطارنا، وتغول السلطات التي مكنتها ادوات الدولة الحديثة من بسط هيمنتها وتكبيل قوى المجتمع ومن ثم تهميشها والغاء دورها، حتى قلت ذات مرة ان الناظر الى عالمنا العربي من خارجه يظن انه يضم حكومات بلا شعوب، لأن صوت الحكومات هو المعلا، بينما لا يكاد يسمع للشعوب صوت، ان شئت فقل ان غياب الديمقراطية عن أغلب اقطارنا يتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية عن تغيب اساليب النضال المدني، حيث هذا النضال يستلزم وجود مجتمع مدني بالاساس، فمثلا في المؤسسات الفاعلة وما يستصحب ذلك من اذكاء لحق الجماهير في المشاركة والمحاسبة، واذا لم يوجد ذلك البنيان المؤسسي، فإن كل ما يرجى منه يظل في اطار التمني والحلم.
ومن اسف ان أكثر من منظمات المجتمع المدني التي تشكلت حديثا في العالم العربي تعتمد على التمويل الاجنبي، الأمر الذي يفرض عليها الالتزام بالاجندة الغربية، وقد شهدت القاهرة في الاسبوع الماضي مؤتمرا دوليا كبيرا حول الارهاب وحقوق الانسان، انصبت أكثر الاحاديث عما جرى في 11 سبتمبر (ايلول)، الأمر الذي استفز الدكتور عزمي بشارة، القيادي الفلسطيني المعروف، فعبر عن استيائه ازاء هيمنة المنظور الغربي على خطاب المؤتمر، ودعا الحضور للانتباه الى ما يجرى في فلسطين، حيث تمارس الحكومة الاسرائيلية ترهيبا يوميا، لا يقل في مداه ولا عمق أثره عما جرى في 11 سبتمبر 2001.
ربما اسهم في تغييب فكرة النضال المدني ان الأنظمة التي احتكرت السلطة لعدد من العقود في العالم العربي نجحت في استقطاب قطاعات واسعة من المثقفين، الذين تحولوا بمضي الوقت، ومع استمرار الموت السياسي، وفي ظل الغوايات الكثيرة الى ابواق للسلطة، ومن ثم شغلوا انفسهم بالتعبير عن سياساتها بأكثر من انشغالهم بالتعبير عن ضمير المجتمع وهموم الأمة.
وربما كان لشيوع ثقافة الانكفاء على الذات دوره ايضا في تشكيل الظاهرة، وهو ما تمثل في ارتفاع نبرة الحديث عن الأنا، واستغراق كثيرين في ما هو خاص، انسحابا من العام، وعزوفا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعدما جرى اختزاله وابتذاله احيانا، وتحويله من قيمة للفاعلية والايجابية واستنفار مصادر الخير لاصلاح ما هو معوج، الى شأن متواضع يلاحق باسمه العصاة وبعض المتفلتين من تكاليف والتزامات الشريعة الشخصية.
على صعيد آخر، فإن عدم الالتفات الى اهمية التفاعل مع المثقفين الشرفاء في العالم ربما كان راجعا الى نظرة البعض عندنا الى الغرب باعتباره كتلة واحدة، دون تمييز كاف بين السلطة والقوى السياسية والمراكز الثقافية والاحزاب والمؤسسات الدينية.. الخ.
لا نستطيع ان ننتظر حتى ينصلح كل العوج في بلادنا ثم نتحرك بعد ذلك لاستنهاض الهمم ودعوة المثقفين وأهل الضمير الى التضامن معنا في رد ما تتعرض له امتنا وديننا من عدوان ومظالم. لماذا لا تبادر بعض تجمعاتنا أو رموزنا الثقافية التي نجت من الاحتكار والتغول الى اطلاق دعوة الشرفاء من مثقفي العالم لكي يسجلوا موقفهم من تلك القضايا والتحديات الملحة التي تواجه امتنا في الوقت الراهن.