مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الجزائر: خريف ساخن وشتاء ملتهب!
هويدي 3-9-2001

ثمة «تسخين» حاصل في الجزائر يستحق الرصد والمتابعة. لست أعني أحداث منطقة القبائل، التي انفجر غضب أهلها في شهر ابريل (نيسان) الماضي، اثر مقتل أحد شبابهم على أيدي رجال الدرك، رغم أن ذلك الغضب يستثمر الآن باتجاه آخر. أما الذي أعنيه هو تلك الشواهد التي برزت في الأسابيع الأخيرة، ويشتم منها أن ثمة شيئاً يطبخ تحسباً للمستقبل القريب. وإذا صدقت حاسة الشم عندي، فلربما أطل علينا من هناك خريف ساخن وشتاء أشد سخونة.
صحيح ان كيل الناس قد فاض وصبرهم نفد، بسبب ضغوط الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، اضافة إلى الانسداد السياسي، حتى هددت منطقة «عروش» بمقاطعة الهيئات الحكومية بدءاً بعدم تسديد فواتير الغاز والكهرباء، بدعوى أن أموالهم «تدفع لدعم النظام العسكري»، بل وقام مواطنون في بلدية الشقفة «بولاية جيجل» باغلاق مقر البلدية واغلاق الشوارع، احتجاجاً على الاهمال الذي يعانونه من السلطات المحلية، وهي الاحتجاجات التي تكررت في ولايات أخرى بالشرق والغرب، غير أن هذا بدوره ليس الذي أعنيه، رغم أن الاشارات هنا مما لا ينبغي أن يهوِّن أحد في شأنها أو يتعامى عن دلالتها ومغزاها.
فثمة ظهور لافت للنظر للجنرال خالد نزار، الذي قاد الانقلاب على الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، وأجبره على التنحي في عام 92، وهو الرجل القوي الذي ظل أحد المحركين الرئيسيين للأحداث في الجزائر خصوصاً الحرب المعلنة على التوجه الاسلامي بالبلاد خلال السنوات العشر السابقة على الأقل، فخلال أسبوع واحد خاطب الرأي العام الجزائري مرتين، مرة في مؤتمر صحفي عقده يوم الأربعاء 8/22 ومرة أخرى في حديث تليفزيوني يوم الاثنين 8/27، وكان المحور الأساسي في خطابه هو دعوة العناصر التي أسهمت في انقلاب عام 92 إلى الاحتشاد مرة أخرى للوقوف ضد القوى الاسلامية التي وصفها بالظلامية والرجعية والثيوقراطية، لصالح المشروع العصري الجمهوري الديمقراطي المدني (!)، الذي يحتمي المعسكر بلافتته مؤيدين في ذلك بالقوى العلمانية والتيار الفرانكوفوني في الجزائر.
ظاهر الأمر أن الجنرال المتقاعد كان يرد على الدعاوى التي تحركت في فرنسا، مطالبة بمحاكمته على الجرائم التي ارتكبت خلال فترة وجوده في السلطة. وهي الدعاوى التي اضطرته للهرب من فرنسا في أواخر شهر ابريل الماضي والعودة إلى الجزائر تحت جنح الليل، حتى لا يواجه احتمالات الاحتجاز والتحقيق معه في ما نسب إليه، وقد أشار في المؤتمر الصحفي إلى أن الهدف منها هو «محاكمة الخيار الاستراتيجي بوقف المسار الانتخابي (في عام 1992م).. حيث كان الرهان آنذاك على وضع حد لنظام ثيوقراطي ديني، والعمل من أجل اقامة نظام ديمقراطي يطمح إلى تحقيق الحرية في البلاد».
في ذات الوقت فإن الجنرال نزار أراد أن يبدو في موقف الهجوم لا الدفاع عن ممارسات القيادات العسكرية والأمنية في الحقبة الماضية، فأعلن اعتزامه رفع قضية ضد الملازم السابق الحبيب سويديه، اللاجئ إلى فرنسا وصاحب كتاب «الحرب القذرة» ، الذي فضح تلك الممارسات، وقال ان كتاب سويديه والمطبوعات الأخرى المماثلة التي خرجت في أوروبا، أريد بها «الاساءة إلى الجيش الجزائري وتلطيخ سمعته».
في وقت سابق على ظهور الجنرال نزار ـ الذي يوصف بأنه بينوشيه الجزائر ـ صدرت عن الأمين العام لحزب التجمع الديمقراطي ووزير العدل أحمد أويحيى تصريحات حادة بمناسبة الشائعات التي راجت حول احتمال الافراج عن الشيخ علي بلحاج الرجل الثاني في جبهة الانقاذ، بسبب تدهور حالته الصحية. فنفى بصورة قاطعة ذلك الاحتمال، وقال انه لا توجد نية لاطلاق الرجل. وتطرق في النفي إلى جبهة الانقاذ دون أن يذكر اسمها، فقال «نرفض العودة إلى فترة الفوضى، ونرفض عودة حزب محظور... وبامكان الذين يحلمون بالعودة إلى فترة كانت بمثابة كابوس أن يبقوا متشبثين بحلمهم».
لم يكن عسيراً الربط بين كلام أويحيى الذي يصنف أيضاً (ممثلاً للقبائل، ويعد من أركان التيار الفرانكوفوني)، وبين كلام الجنرال خالد نزار، إذ حين يغلق الأول الباب أمام أحداث انفراج سياسي نسبي باطلاق بلحاج، وحين يدعو الثاني إلى استنفار العناصر التي أيدت قرار الغاء المسار الانتخابي وحل الجبهة الاسلامية للانقاذ، ويتم ذلك في وقت واحد، يتزامن مع التوتر الحاصل في منطقة القبائل وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، فان الأمر يتعذر افتراض البراءة فيه.
ذلك انه ازاء انسداد الأفق السياسي في الجزائر، وما بدا من أن سياسة الوئام المدني لم تحقق المراد منها، الأمر الذي تجلى في استمرار عمليات القتل وما تستصحبه من ذعر وترويع في أنحاء البلاد، فإن الرئيس بوتفليقة بدأ يتحدث الآن عن «مصالحة وطنية» تذهب إلى أبعد مما ذهب إليه مشروع الوئام، ففي خطابه الذي ألقاه بالعاصمة في اختتام المهرجان العالمي للشباب (8/30) دعا إلى «مصالحة وطنية حقيقية» وحدد مفهومها في أن «تعترف كل فئة بالأخرى... إلى جانب شجب العنف والارهاب مهما كان نوعه».
قال في خطابه أيضاً: «إن من يريد أن يتشبث بقناعاته العلمانية فله ذلك، ولكن شريطة أن يعترف بأن الآخر موجود وحقوقه مضمونة. وبالمقابل يتعين على الاسلاميين أن يعترفوا بأن الدين للعامة وأنه لا اكراه في الدين». وأضاف: «ان الوقت قد حان لكي يفتح الجزائريون صفحة جديدة يتم خلالها تحديد ما يليق بالبلاد ومستقبلها». وربط ذلك «بحتمية تغيير عقلية الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، واستخلاص الدروس من الأزمة التي عاناها الشعب الجزائري».
كانت تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس الجزائري عن طبيعة الصراع الدائر في البلاد وأنه بين الاسلاميين والعلمانيين. غير أن ما أثار الانتباه في خطابه أيضاً أنه أعلن لأول مرة كذلك ان أحداث منطقة القبائل والعنف الذي تخلل اثارة «المسألة الأمازيغية»، أريد به ضرب سياسة الوفاق الوطني التي دخلت حيز التطبيق في سنة 99م.
لقد انتقدت صحيفة «ليكسبريسيون» الناطقة بالفرنسية والمقربة من الرئاسة الجزائرية تصريحات وزير العدل أحمد أويحيى، وتساءلت: «بأي حق يتحدث في قضية على بلحاج بصيغة التأكيد؟ وأشارت إلى أنه «لم يختر الوقت المناسب للادلاء بهذه التصريحات، خاصة في ظل اشتداد الاغتيالات التي تشهدها العديد من المناطق في الآونة الأخيرة».
أضافت الصحيفة قائلة أنه «إذا تماشى اطلاق سراح علي بلحاج مع المساعي الرامية إلى تحقيق المصالحة، فإن الرئيس بوتفليقة لن يتردد في اتخاذ هذا القرار، مهما كانت درجة معارضة هذا الطرف أو ذاك»، مؤكدة أن ذلك هو «الثمن الذي يتعين دفعه».
وشددت بالقول: «بخصوص هذه القضية بالذات، فإن للرئيس بوتفليقة وحده الحق في اتخاذ الاجراءات التي يمليها السياق السياسي العام، ولا يحق لأي كان أن يتدخل في الصلاحيات المخولة دستورياً لرئيس الجمهورية».
من ناحية أخرى دخلت على الخط صحيفة «صوت الأحرار» المقربة من حزب جبهة التحرير الوطني الذي ينتمي إليه الرئيس بوتفليقة مشيرة إلى وجود «مخطط لافشال المصالحة الوطنية». واعتبرت تصريحات الجنرال المتقاعد خالد نزار وكلام وزير العدل أحمد أويحيى مؤشراً على صحة وجود المخطط. أما صحيفة «لوسوار دالجيري» الناطقة بالفرنسية، فقد نشرت تقريراً تحت عنوان «أزمة في هرم السلطة.. أوراق على الطاولة»، ذكرت فيه أن وصف الرئيس بوتفليقة في وقت سابق وقف المسار الانتخابي بأنه «أول عنف»، هو الذي دفع خالد نزار إلى تنظيم مؤتمره الصحفي، والدعوة فيه إلى احتشاد العناصر التي أيدت وقف المسار، لمواجهة محاولة محاكمة ممارسات الفترة السابقة (التي كان هو في موقع المسؤولية خلالها وزيراً للدفاع ثم عضواً في المجلس الأعلى للدولة).
تسلط هذه التصريحات الضوء على ما يجري في المطبخ الجزائري. فالرئيس بوتفليقة يتحدث عن مصالحة وطنية مؤيداً في ذلك من حزب جبهة التحرير، ولكن القوى الفرانكوفونية والعلمانية التي قامت بالانقلاب في عام 92 (خالد نزار وصفه بأنه ثورة) ترفض المصالحة، وتصر على اقصاء وقمع الاتجاه الاسلامي بكل فصائله. وتلك القوى تستخدم في التعبير عن رفضها ضغوطاً عدة، ولا تتورع عن اثارة القلاقل والاضطراب في البلاد لاثبات عجز الرئيس بوتفليقة وفشل سياساته، وورقة القبائل في هذا جاهزة للقيام بما يلزم.
هذه القوى المعارضة للمصالحة هي التي تقف الآن وراء الشائعات القوية التي تتردد في الجزائر عن احتمال استقالة الرئيس بوتفليقة وخروجه من المسرح قبل انتهاء فترة ولايته، وترشح اسماء أخرى بديلة مثل مولود حمروش وأحمد غزالي، وهناك من يطرح الدكتور أحمد طالب الابراهيمي. وهذه الشائعات لها ما يبررها، لأنه إذا فشل الوئام وتعذرت المصالحة فان تلك القوى تكون قد قطعت الطريق على بوتفليقة، الأمر الذي لا حل له في النهاية سوى الاستقالة.
لقد قلنا ان الجزائر مقبلة على خريف ساخن، سوف يتحدد فيه مصير المصالحة ومصير الرئيس بوتفليقة، وذلك كله وثيق الصلة بالأحداث المرتقبة في البلاد مع بداية السنة المقبلة، حيث تفترض أن تجرى الانتخابات النيابية والبلدية، الأمر الذي من شأنه أن يبرز الصراع ويعيد الفرز، ويصعد بالضرورة من احتمالات المواجهة بين الأطراف المختلفة، ناهيك مما يثيره من علامات استفهام كبيرة عن موقف السلطة، وهل ستتدخل في الانتخابات بالتوجيه أو التزوير، أم أنها ستتركها حرة لكي تعبر بحق عن خريطة القوى السياسية في البلاد، وما هو الثمن الذي سيدفع لقاء التزوير إذا تم، والنتائج التي يمكن أن تترتب على عدم التزوير ووقوف السلطة على الحياد، ثم ما العلاقة بين الاحتمالات التي نشير إليها وبين دعوة الجنرال نزار رفاقه الذين قاموا بالانقلاب عام 92 إلى الاحتشاد مرة أخرى؟
ألا ينبئ ذلك كله باحتمال بلوغ السخونة ذروتها في الجزائر، مع بدايات السنة الجديدة؟
أضافة تعليق