هويدي 3-6-2002
رغم أن البيان صدر عن المثقفين السعوديين، وأن العاصفة التي أثارها لم تتجاوز حدود المملكة، وان أصداءه التي وصلت الى الصحافة العربية صدرت عن كتاب سعوديين، الا أن القضية التي تصدى لها البيان لم تكن سعودية. وهذا الباب الأخير يسوغ لمثلي من أهل «الخارج» ان يسجل بعض الملاحظات حول الحدث، وحول الأصداء والتعليقات التي تناولته.
الذي يقرأ البيان من خارج المملكة لا يجد مناصا من الحفاوة به، بحسبانه نصا رصينا ومحكما يعبر عن رؤية ناضجة لقيم الحوار والتعايش، وعن قراءة متوازنة لأحداث الساعة، ابتداء من فاجعة 11 سبتمبر وتداعياتها، وانتهاء بما يجري على أرض فلسطين. وقد حالف التوفيق واضعي البيان حين جعلوا عنوانه: على أي أساس نتعايش؟ في ردهم الذي ارادوا اثباته في مواجهة بيان المثقفين الأمريكيين الذي كان عنوانه «على أي أساس نقاتل؟» الأمر الذي حدد من البداية أين يقف كل فريق.
في هذا الصدد، لا يفوت المرء أن يلاحظ أن هذا هو البيان الأول من نوعه الذي يصدر عن مثقفين سعوديين، أغلبهم من ذوي الاتجاه الاسلامي.. متبنياً قضية الحوار والتعايش مع الآخر، خصوصاً غير المسلمين. إذ رغم اننا تابعنا في مناسبات سابقة بيانات عدة صدرت عن جماعات من المثقفين السعوديين الناشطين في الساحة الاسلامية، الا أن تلك البيانات اما عالجت اموراً أخرى، ولم يحدث أن تطرقت لقضية التعايش، أو انها ظلت معبرة عن صوت الفصيل المتشدد بين أولئك الاسلاميين. وهو الفصيل الذي لا يؤمن بفكرة التعايش أصلاً.
من هذه الزاوية فان الموقف الذي عبر عنه البيان يغدو جديداً في حدود ما نعرف عن الخطاب الاسلامي السعودي. وهو مبشر بظهور تيار في الساحة الاسلامية السعودية يتبنى طروحات أكثر اعتدالاً وانفتاحاً، ويضيف الى خطاب الاعتدال في العالم العربي والاسلامي فصيلاً كان مرئياً على مستوى فردي من قبل، لكن لم يكن مسموع الصوت. اذ في حدود علمي فان عناصر ذلك الفصيل كانوا موجودين في الساحة، فطالما لقينا بعضهم والتقينا مع أفكارهم في مناسبات عدة، لكني اسمح لنفسي ان أقول بأنهم كانوا محجوبين ـ مقموعين ان شئت الدقة ـ من جانب عناصر وقوى التشدد المهيمنة، الأمر الذي يسوغ لي ان أقول ان البيان لم يكن منشئاً لذلك التيار المعتدل الداعي الى التعايش والحوار، لكنه جاء كاشفاً له ومنبهاً الى وجوده.
ولا أستبعد أن يكون ارتفاع صوت عناصر ذلك التيار في الآونة الأخيرة، من اصداء ما جرى في 11 سبتمبر، وهو الحدث الذي استصحب تسليطاً للأضواء على الآثار الضارة التي نجمت عن هيمنة الفكر المتشدد، والثمن الباهظ الذي يمكن أن تتحمله الأمة من جراء الترويج لمثل أفكار مخاصمة الآخر وتكفيره وتفسيقه والزعم بنسخ فكرة عدم الاكراه في الدين.
ولأن الأفكار لا تولد أو تتبلور في فراغ، وانما هي كثيراً ما تكون استجابة لمتطلبات الواقع، وكما أن الساحة العربية شهدت نمواً ملحوظاً في أدبيات الدفاع عن الحرية والديمقراطية بين الباحثين الاسلاميين، بعدما اكتووا بنار الممارسات الاستبدادية، فان هذه الخبرة تفسر لنا ارتفاع صوت دعاة التعايش مؤخراً في السعودية، في مواجهة دعاة التقاطع والتخاصم والمفاصلة.
قلت ان الدعوة الأساسية للبيان جديرة بالحفاوة، وأضيف هنا أن تلك الحفاوة تتضاعف اذا لاحظنا ان الموقعين على البيان حوالي 170 من المثقفين السعوديين بينهم حوالي عشرين امرأة وهو ما لم نعهده في أكثر النشاطات العامة بالسعودية، خصوصاً تلك التي يكون الاسلاميون طرفاً فيها، الأمر الذي يعطي انطباعاً بأنه لا يعكس رؤية أحاد الأفراد، وانما يعبر عن قطاع معتبر من المثقفين من الجنسين لا يمكن التقليل من شأنه أو دوره.
لكل ذلك فان قارئ البيان، خصوصاً اذا كان متابعاً للخطاب الديني في السعودية، يخرج منه مقتنعا بأنه يمثل حدثاً ثقافياً مثيراً، ومنعطفاً لافتاً للانتباه في مسار ذلك الخطاب الذي جنح طويلاً الى التشدد، وفتح الباب واسعاً لمزايدة آخرين على تشدده، وهو ما عانت منه طويلاً أصوات الاعتدال، ليس في داخل المملكة فحسب، وانما في خارجها أيضاً. وقد كنت واحداً من كثيرين لم يسلموا من تجريح أولئك المزايدين، الذين أصدروا كتباً صدرت في عدة مئات من الصفحات لكيل الاتهامات وتشويه المخالفين، في حملة ارهاب فكري لم تستثن أحداً من رموز الاعتدال في الخطاب الاسلامي المعاصر.
اذا انتقلت من البيان الى أصدائه في المملكة فسنجد أنه أحدث هزة قوية في مختلف الأوساط، ووصف «العاصف» الذي أطلقته في مستهل المقال تعبير مخفف، لأن الصدى أبعد أثراً من ذلك، كما ذكر لي وثيقو الصلة. واذا حصرنا الملاحظات فيما نشر من تعقيبات في الصحف العربية اللندنية ـ علماً بأن هناك تفاعلات أخرى مهمة لم تأخذ طريقها الى النشر ـ فسوف تستوقفنا فيما كتبه الناقدون أمور عدة في مقدمتها ما يلي:
ـ ان أحداً لم ينتقد النص بحد ذاته، وانما امتدحه بعضهم (تركي الحمد في «الشرق الأوسط» 15/5) واعتبر أن «باقة الأفكار الجميلة» التي تضمنها لا يختلف حولها أحد.
ـ ان الناقدين ركزوا على الأشخاص الذين وقعوا البيان أو تراجعوا عن توقيعاتهم (سليمان النقيدان ـ «الشرق الأوسط» 25/5، ود. حمزة بن قبلان المزيني 30/5) ومنهم من أضاف الى التحفظ على بعض الأشخاص تحفظات أخرى على الشكل، باعتبار أنه تم تجاهل بعض الفئات (مقال تركي الحمد).
ـ ان هناك من ذهب الى حد مطالبة بعض الموقعين بالاعتذار. فداود الشريان طالبهم بالاعتذار عن خطابهم ومواقفهم السابقة «الحياة» اللندنية ـ 27/5). وهو ما يعني ان الشريان دعاهم لاعتذار عن الماضي، وابو البراء في صحيفة اخرى دعاهم للاعتذار عن الحاضر، أما تعليقي على هذه الملاحظات فهو ان الذين ركزوا على الأشخاص دون الأفكار وقعوا في خطأين جوهريين; الأول انهم لم يتناولوا الموضوع وعمدوا الى تجريح بعض الكاتبين او الموقعين، وكان النقيدان أكثرهم غلوا في ذلك. أما الخطأ الثاني فهو أنهم لم يتحلوا فيما عبروا به بالحد المفترض من السماحة والاعذار، فلم يلحظوا ان هذا تيار يشق طريقه الى سطح الحياة الثقافية، ويعبر عن نفسه بهذه الصورة لأول مرة في موضوع التعايش، ومن ثم ينبغي ان يعطى الفرصة للنمو، حتى يقوى عوده وتتفتح ازهاره. ولم يحاولوا ان يشدوا على يد معدي البيان، لكي يثبتوا حضورهم جنباً الى جنب مع التيار المتشدد الذي هيمن على الخطاب الديني في السابق، لم يقولوا لهم مثلاً ان هذه بداية طيبة ونرجو ان تواصلوا تقدمكم لتضربوا المثل وتقدموا النموذج، لكي تتطابق أقوالكم مع أعمالكم.
لم يحدث شيء من ذلك، وانما اثار النقيدان الشكوك حول دوافعهم، وانضم اليه بن قبلان حين ركز على الثلاثة الذين تراجعوا عما وقعوا عليه في البيان (ماذا يهم اذا كان الذين تراجعوا ثلاثة فقط من بين 170 موقعا؟)، أما تركي الحمد فانه اراد البيان مستوفياً الشكل وخالياً من أي نقيصة. وملاحظات الشكل التي أبداها معقولة، لكن النقائص التي أوردها تفهم اذا ما شابت البيان الأول، الذي ظلمه حينما أراد له أن يولد كامل الأوصاف.
جدير بالملاحظة في هذا الصدد ان الذين كانوا اكثر حدة في نقد البيان هم غلاة العلمانيين وغلاة السلفيين (لاحظ أن الطرفين طالبا اصحاب البيان بالاعتذار) ـ وهم الذين وجدوا انفسهم يقفون في مربع واحد على الرغم مما بينهم من تناقض شديد في المواقف والآراء، الأمر الذي يدعونا الى القول بأن الغلو ملة واحدة، وان الاعتدال الاسلامي لا بد أن يكون مرفوضاً من الاثنين، ولأن الفريقين يتغذيان من غيابه ويتمددان في فراغه.
هذه المشكلة متكررة في اقطار عربية أخرى، حورب فيها تيار الاعتدال من الجميع، من غلاة الاسلاميين والعلمانيين وأجهزة الأمن، حيث أدرك هؤلاء ان الخطر الحقيقي الذي يتهددهم يكمن في تنامي التيار المعتدل. فغلاة الاسلاميين وجدوا نهايتهم في تعاظم ذلك التيار، وغلاة العلمانيين ادركوا ان وجود الاعتدال لن يمكنهم من الاصطياد وسوف يبطل ذرائعهم في عداء الاسلاميين، اما أجهزة الأمن فقد ادركت ان شيوع الاعتدال سيصيب سوقهم بالكساد وقد يهدد بالاستغناء عنهم، حيث وجودهم مرهون باستمرار التطرف وفي غيابه لن يكون لهم شغل. والأمر كذلك، فلعلي لا أبالغ اذا قلت ان لهؤلاء جميعاً مصلحة حقيقية في استمرار التطرف والتشدد، وان لهم مصلحة خاصة في أن يغير المعتدلون من موقفهم ويرجعوا عنه، وسوف يسعدهم لا ريب ان يعودوا الى سرب التشدد الذي انفصلوا عنه ذات يوم.
من المنظور التاريخي، فان البطلان مآل كل صور الغلو، وان المستقبل للاعتدال الذي هو أقرب الى فطرة الانسان وطبيعته. ورغم ان الغلاة لهم صوتهم العالي دائماً، فان طوق النجاة يكمن في تلاقي قوى الاعتدال من مختلف التيارات، اسلامية كانت ام علمانية. واستأذن هنا في أن أردد مقولة طالما دعوت اليها من قبل، وهي أننا بحاجة ملحة الى طي صفحة ذلك التصنيف الذي يقسم المثقفين الى اسلاميين وعلمانيين، لأننا في مواجهة التحديات الجسام التي تتهدد كل الفرقاء بحاجة الى كل السواعد وكل القوى بحيث تكون القسمة بين وطنيين وغير وطنيين، وليس بين اسلاميين وعلمانيين. وتلك معركة أخرى لا بد من خوضها وكسبها يوما ما، لأن الغد الأفضل لن «يهدى الينا» وانما سنبلغه اذا ما احتشدت لأجل ذلك كل القوى الوطنية في كل بلد.
رغم أن البيان صدر عن المثقفين السعوديين، وأن العاصفة التي أثارها لم تتجاوز حدود المملكة، وان أصداءه التي وصلت الى الصحافة العربية صدرت عن كتاب سعوديين، الا أن القضية التي تصدى لها البيان لم تكن سعودية. وهذا الباب الأخير يسوغ لمثلي من أهل «الخارج» ان يسجل بعض الملاحظات حول الحدث، وحول الأصداء والتعليقات التي تناولته.
الذي يقرأ البيان من خارج المملكة لا يجد مناصا من الحفاوة به، بحسبانه نصا رصينا ومحكما يعبر عن رؤية ناضجة لقيم الحوار والتعايش، وعن قراءة متوازنة لأحداث الساعة، ابتداء من فاجعة 11 سبتمبر وتداعياتها، وانتهاء بما يجري على أرض فلسطين. وقد حالف التوفيق واضعي البيان حين جعلوا عنوانه: على أي أساس نتعايش؟ في ردهم الذي ارادوا اثباته في مواجهة بيان المثقفين الأمريكيين الذي كان عنوانه «على أي أساس نقاتل؟» الأمر الذي حدد من البداية أين يقف كل فريق.
في هذا الصدد، لا يفوت المرء أن يلاحظ أن هذا هو البيان الأول من نوعه الذي يصدر عن مثقفين سعوديين، أغلبهم من ذوي الاتجاه الاسلامي.. متبنياً قضية الحوار والتعايش مع الآخر، خصوصاً غير المسلمين. إذ رغم اننا تابعنا في مناسبات سابقة بيانات عدة صدرت عن جماعات من المثقفين السعوديين الناشطين في الساحة الاسلامية، الا أن تلك البيانات اما عالجت اموراً أخرى، ولم يحدث أن تطرقت لقضية التعايش، أو انها ظلت معبرة عن صوت الفصيل المتشدد بين أولئك الاسلاميين. وهو الفصيل الذي لا يؤمن بفكرة التعايش أصلاً.
من هذه الزاوية فان الموقف الذي عبر عنه البيان يغدو جديداً في حدود ما نعرف عن الخطاب الاسلامي السعودي. وهو مبشر بظهور تيار في الساحة الاسلامية السعودية يتبنى طروحات أكثر اعتدالاً وانفتاحاً، ويضيف الى خطاب الاعتدال في العالم العربي والاسلامي فصيلاً كان مرئياً على مستوى فردي من قبل، لكن لم يكن مسموع الصوت. اذ في حدود علمي فان عناصر ذلك الفصيل كانوا موجودين في الساحة، فطالما لقينا بعضهم والتقينا مع أفكارهم في مناسبات عدة، لكني اسمح لنفسي ان أقول بأنهم كانوا محجوبين ـ مقموعين ان شئت الدقة ـ من جانب عناصر وقوى التشدد المهيمنة، الأمر الذي يسوغ لي ان أقول ان البيان لم يكن منشئاً لذلك التيار المعتدل الداعي الى التعايش والحوار، لكنه جاء كاشفاً له ومنبهاً الى وجوده.
ولا أستبعد أن يكون ارتفاع صوت عناصر ذلك التيار في الآونة الأخيرة، من اصداء ما جرى في 11 سبتمبر، وهو الحدث الذي استصحب تسليطاً للأضواء على الآثار الضارة التي نجمت عن هيمنة الفكر المتشدد، والثمن الباهظ الذي يمكن أن تتحمله الأمة من جراء الترويج لمثل أفكار مخاصمة الآخر وتكفيره وتفسيقه والزعم بنسخ فكرة عدم الاكراه في الدين.
ولأن الأفكار لا تولد أو تتبلور في فراغ، وانما هي كثيراً ما تكون استجابة لمتطلبات الواقع، وكما أن الساحة العربية شهدت نمواً ملحوظاً في أدبيات الدفاع عن الحرية والديمقراطية بين الباحثين الاسلاميين، بعدما اكتووا بنار الممارسات الاستبدادية، فان هذه الخبرة تفسر لنا ارتفاع صوت دعاة التعايش مؤخراً في السعودية، في مواجهة دعاة التقاطع والتخاصم والمفاصلة.
قلت ان الدعوة الأساسية للبيان جديرة بالحفاوة، وأضيف هنا أن تلك الحفاوة تتضاعف اذا لاحظنا ان الموقعين على البيان حوالي 170 من المثقفين السعوديين بينهم حوالي عشرين امرأة وهو ما لم نعهده في أكثر النشاطات العامة بالسعودية، خصوصاً تلك التي يكون الاسلاميون طرفاً فيها، الأمر الذي يعطي انطباعاً بأنه لا يعكس رؤية أحاد الأفراد، وانما يعبر عن قطاع معتبر من المثقفين من الجنسين لا يمكن التقليل من شأنه أو دوره.
لكل ذلك فان قارئ البيان، خصوصاً اذا كان متابعاً للخطاب الديني في السعودية، يخرج منه مقتنعا بأنه يمثل حدثاً ثقافياً مثيراً، ومنعطفاً لافتاً للانتباه في مسار ذلك الخطاب الذي جنح طويلاً الى التشدد، وفتح الباب واسعاً لمزايدة آخرين على تشدده، وهو ما عانت منه طويلاً أصوات الاعتدال، ليس في داخل المملكة فحسب، وانما في خارجها أيضاً. وقد كنت واحداً من كثيرين لم يسلموا من تجريح أولئك المزايدين، الذين أصدروا كتباً صدرت في عدة مئات من الصفحات لكيل الاتهامات وتشويه المخالفين، في حملة ارهاب فكري لم تستثن أحداً من رموز الاعتدال في الخطاب الاسلامي المعاصر.
اذا انتقلت من البيان الى أصدائه في المملكة فسنجد أنه أحدث هزة قوية في مختلف الأوساط، ووصف «العاصف» الذي أطلقته في مستهل المقال تعبير مخفف، لأن الصدى أبعد أثراً من ذلك، كما ذكر لي وثيقو الصلة. واذا حصرنا الملاحظات فيما نشر من تعقيبات في الصحف العربية اللندنية ـ علماً بأن هناك تفاعلات أخرى مهمة لم تأخذ طريقها الى النشر ـ فسوف تستوقفنا فيما كتبه الناقدون أمور عدة في مقدمتها ما يلي:
ـ ان أحداً لم ينتقد النص بحد ذاته، وانما امتدحه بعضهم (تركي الحمد في «الشرق الأوسط» 15/5) واعتبر أن «باقة الأفكار الجميلة» التي تضمنها لا يختلف حولها أحد.
ـ ان الناقدين ركزوا على الأشخاص الذين وقعوا البيان أو تراجعوا عن توقيعاتهم (سليمان النقيدان ـ «الشرق الأوسط» 25/5، ود. حمزة بن قبلان المزيني 30/5) ومنهم من أضاف الى التحفظ على بعض الأشخاص تحفظات أخرى على الشكل، باعتبار أنه تم تجاهل بعض الفئات (مقال تركي الحمد).
ـ ان هناك من ذهب الى حد مطالبة بعض الموقعين بالاعتذار. فداود الشريان طالبهم بالاعتذار عن خطابهم ومواقفهم السابقة «الحياة» اللندنية ـ 27/5). وهو ما يعني ان الشريان دعاهم لاعتذار عن الماضي، وابو البراء في صحيفة اخرى دعاهم للاعتذار عن الحاضر، أما تعليقي على هذه الملاحظات فهو ان الذين ركزوا على الأشخاص دون الأفكار وقعوا في خطأين جوهريين; الأول انهم لم يتناولوا الموضوع وعمدوا الى تجريح بعض الكاتبين او الموقعين، وكان النقيدان أكثرهم غلوا في ذلك. أما الخطأ الثاني فهو أنهم لم يتحلوا فيما عبروا به بالحد المفترض من السماحة والاعذار، فلم يلحظوا ان هذا تيار يشق طريقه الى سطح الحياة الثقافية، ويعبر عن نفسه بهذه الصورة لأول مرة في موضوع التعايش، ومن ثم ينبغي ان يعطى الفرصة للنمو، حتى يقوى عوده وتتفتح ازهاره. ولم يحاولوا ان يشدوا على يد معدي البيان، لكي يثبتوا حضورهم جنباً الى جنب مع التيار المتشدد الذي هيمن على الخطاب الديني في السابق، لم يقولوا لهم مثلاً ان هذه بداية طيبة ونرجو ان تواصلوا تقدمكم لتضربوا المثل وتقدموا النموذج، لكي تتطابق أقوالكم مع أعمالكم.
لم يحدث شيء من ذلك، وانما اثار النقيدان الشكوك حول دوافعهم، وانضم اليه بن قبلان حين ركز على الثلاثة الذين تراجعوا عما وقعوا عليه في البيان (ماذا يهم اذا كان الذين تراجعوا ثلاثة فقط من بين 170 موقعا؟)، أما تركي الحمد فانه اراد البيان مستوفياً الشكل وخالياً من أي نقيصة. وملاحظات الشكل التي أبداها معقولة، لكن النقائص التي أوردها تفهم اذا ما شابت البيان الأول، الذي ظلمه حينما أراد له أن يولد كامل الأوصاف.
جدير بالملاحظة في هذا الصدد ان الذين كانوا اكثر حدة في نقد البيان هم غلاة العلمانيين وغلاة السلفيين (لاحظ أن الطرفين طالبا اصحاب البيان بالاعتذار) ـ وهم الذين وجدوا انفسهم يقفون في مربع واحد على الرغم مما بينهم من تناقض شديد في المواقف والآراء، الأمر الذي يدعونا الى القول بأن الغلو ملة واحدة، وان الاعتدال الاسلامي لا بد أن يكون مرفوضاً من الاثنين، ولأن الفريقين يتغذيان من غيابه ويتمددان في فراغه.
هذه المشكلة متكررة في اقطار عربية أخرى، حورب فيها تيار الاعتدال من الجميع، من غلاة الاسلاميين والعلمانيين وأجهزة الأمن، حيث أدرك هؤلاء ان الخطر الحقيقي الذي يتهددهم يكمن في تنامي التيار المعتدل. فغلاة الاسلاميين وجدوا نهايتهم في تعاظم ذلك التيار، وغلاة العلمانيين ادركوا ان وجود الاعتدال لن يمكنهم من الاصطياد وسوف يبطل ذرائعهم في عداء الاسلاميين، اما أجهزة الأمن فقد ادركت ان شيوع الاعتدال سيصيب سوقهم بالكساد وقد يهدد بالاستغناء عنهم، حيث وجودهم مرهون باستمرار التطرف وفي غيابه لن يكون لهم شغل. والأمر كذلك، فلعلي لا أبالغ اذا قلت ان لهؤلاء جميعاً مصلحة حقيقية في استمرار التطرف والتشدد، وان لهم مصلحة خاصة في أن يغير المعتدلون من موقفهم ويرجعوا عنه، وسوف يسعدهم لا ريب ان يعودوا الى سرب التشدد الذي انفصلوا عنه ذات يوم.
من المنظور التاريخي، فان البطلان مآل كل صور الغلو، وان المستقبل للاعتدال الذي هو أقرب الى فطرة الانسان وطبيعته. ورغم ان الغلاة لهم صوتهم العالي دائماً، فان طوق النجاة يكمن في تلاقي قوى الاعتدال من مختلف التيارات، اسلامية كانت ام علمانية. واستأذن هنا في أن أردد مقولة طالما دعوت اليها من قبل، وهي أننا بحاجة ملحة الى طي صفحة ذلك التصنيف الذي يقسم المثقفين الى اسلاميين وعلمانيين، لأننا في مواجهة التحديات الجسام التي تتهدد كل الفرقاء بحاجة الى كل السواعد وكل القوى بحيث تكون القسمة بين وطنيين وغير وطنيين، وليس بين اسلاميين وعلمانيين. وتلك معركة أخرى لا بد من خوضها وكسبها يوما ما، لأن الغد الأفضل لن «يهدى الينا» وانما سنبلغه اذا ما احتشدت لأجل ذلك كل القوى الوطنية في كل بلد.