مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
تحذير من قراءة «شهود الزور» للمشهد العربي
هويدي 3-3-2003

تساءل بعض الخبثاء في بعض المحطات الفضائية عن أسباب عدم وجود مظاهرات شعبية عارمة في مصر، بسبب تهديد العراق ومدى افتراء الموقف الأميركي وتعنته، والرد على هذا التساؤل واضح وسهل، وهو ان القيادة المصرية تعبر عن الشارع المصري، وهي تمثل رأيه، وتعبر عن وجدانه وتتلاحم مع مشاعره، في تحركات سياسية دبلوماسية لا تهدأ ولا تمل.
هذه العبارة ليست من عندي، ولكنها مأخوذة نصاً من تعليق لأحد الكتاب، نشرته جريدة ’’الاهرام’’ القاهرية في 2/24 الماضي، ورغم انه كلام تفترض فيه الجدية، إلا ان المرء لايستطيع أن يتعامل معه إلا باعتباره مزحة ثقيلة الظل، لان الكاتب وهو يخط هذا الكلام أراد أن يوحي بأن الملايين التي خرجت للتظاهر ضد الحرب في مختلف عواصم الدنيا، إنما فعلت ذلك لأن حكوماتها قصرت في اتخاذ اللازم إزاء التعبير عن مشاعر الناس ووجدانهم، أما في بلادنا التي لا تدع حكوماتها أملا أو حلماً من أحلام الناس إلا وسارعت الى تلبيته والقيام بما يلزم نحوه، ولا نبضاً من نبضات المجتمع إلا وعبرت عنه، فقد وصلت فيها الجماهير الى درجة الاشباع، التي جعلتها تزهد حتى في التظاهر ضد الحرب. أدري أن هذه الحجة لم تنطل على أحد من القراء، لكن ماحيرني حقاً هو كيف أقنع بها الكاتب نفسه. ولم أجد تفسيراً لما كتب سوى أنه أراد أن يبرر سكون أو خفوت صوت الشارع المصري، وفي الوقت ذاته يكسب نقطة لدى الحكومة التي حاول أن يغطي موقفها. لكن المضحك في الأمر أن الذين قرأوا هذا الكلام شاهدوا بأعينهم كيف أن التظاهرات المتواضعة التي خرجت في بعض الأماكن أحيطت بحشود حافلة من رجال الأمن، ذوى الدروع البلاستيكية والخوذات السوداء. حتى قيل لي ان كل متظاهر كان هناك ثلاثة عساكر في مقابله!
أما الأكثر اضحاكاً، فهو أن الجهات المعنية أدركت في وقت متأخر نسبياً بؤس صورة الشارع المصري، فسمحت بتنظيم تظاهرة ضخمة في استاد القاهرة يوم الخميس الماضي، 27 فبراير/شباط، أي بعد 12 يوماً من موعد الاحتجاج العالمي على الحرب (الذي تم في 2/15). وكانت حركة الاخوان هي التي تقدمت بطلب اتاحة الفرصة لمظاهرة مليونية، وتضامنت معها بقية الأحزاب التي شاركت في التظاهرة التي عقدت باسم القوى الوطنية المصرية . ليس ذلك فحسب، وانما دعا الحزب الوطني الحاكم إلى مسيرات شعبية أخرى يوم الأربعاء (بعد غد)، الأمر الذي يطرح على الكاتب، ومن لف لفه، السؤال التالي: هل يعني ماجرى أن الحكومة عجزت عن التعبير عن وجدان الشعب وفشلت في التلاحم مع مشاعره، ولذلك أرادت علاج الموقف باطلاق التظاهرة وتنظيم المسيرة؟
وما دمنا بصدد التعليقات الفكاهية، فلا يفوتني أن أشير الى تحليل آخر لدعوة الجماهير المصرية للتظاهر والتعبير عن رفضها للحرب، وهذا التحليل نشرته «الشرق الاوسط» في عدد 2003/2/24، وحذر كاتبه من خروج التظاهرات في بلادنا (مصر بالذات!) ـ بينما رحب بخروجها في العواصم الغربية ـ لماذا؟ لأنه في تلك البلاد المتحضرة والمحترمة هناك مؤسسات عازلة بين حرم السلطة والشعب، وهذه المؤسسات تستوعب وتمتص الاحتجاج السياسي، لكي يمر في قناة واضحة تدخل في عصب النظام من أوله، فيحس رأس النظام بهذا الغضب، ويستطيع أن يتصرف على نحو رصين يحقق الاستقرار السياسي، أما في بلادنا المتخلفة التي لا تتوافر لها أمثال تلك المؤسسات العازلة، في النزول الى الشارع ـ في رأي الكاتب ـ «هو تهييج رخيص»، يعني مباشرة المواجهة مع السلطة، يعني الهدم والتكسير والقتل والفوضى، والانقضاض على النظام.
هذا التحليل المتشائم يقف في مربع التخويف من التظاهرات وينحاز الى فكرة منعها، ليس بسبب الثقة الزائدة في تعبير الحكومة عن وجدان الجماهير ونبضها، كما فعل كاتبنا الأول، ولكن لسبب آخر معاكس تماماً هو: انعدام الثقة في الجماهير واحتقار وعيها، حيث زعم الكاتب أن تلك الجماهير المغيبة اذا ما خرجت ـ في مصر دون غيرها من عواصم العرب! ـ فإنها ستنقاد وهي مغموضة الأعين وراء الأصوليين المتطرفين الإرهابيين الذين يعيثون في الأرض فسادا، ويعمدون الى التخريب بعد التكفير، لتقويض أركان الدولة واستباحة سيادتها!
بدوره لايخلو التحليل من بعض الفكاهة، لأن التظاهرات التي خرجت كانت معادية للدولة حقاً، وعبرت هتافاتها ولافتاتها عن مشاعر البغض والسخط حقاً، ولكن ذلك كله كان موجهاً ضد الدولة الأميركية وليس الدولة المصرية. واذا كان ذلك مصدراً لازعاج البعض لأسباب تخصهم، فهو ما قد نفهمه، إلا أنه في هذه الحالة يستدعى ملفاً آخر خارج السياق الذي نحن بصدده، ناهيك عن أنه يهدم الفكرة المراد تسويقها من أساسها.
أما المفارقة في الأمر، فتتمثل فيما ذكرناه من أن حركة الاخوان المسلمين هي التي اقترحت على الجهات المعنية في مصر تنظيم التظاهرة، التي شارك فيها مالايقل عن 130 ألف شخص، وهي التي باشرت مختلف ترتيباتها، لكي يتم كل شئ في هدوء وأمان، ولم يحدث شئ من سيناريو «التهييج الرخيص» والتخريب والتكسير والانقضاض الذي لوح به الكاتب. أكثر من ذلك فإن دعوة الخروج إلى الشارع تبناها الحزب الوطني الحاكم الذي دعا إلى تنظيم مسيرات احتجاج بعد غد، كما سبقت الاشارة.
إلى جوار الفكاهة السمجة التي أطلقها البعض، بدافع النفاق تارة أو المرارة والكراهية تارة أخرى، فقد وقعت على شيء من الفكاهة الحقيقية، فيما كتبه أحد ظرفاء جريدة «العربي» الناصرية يوم 2/23، في تصويره لاحدى التظاهرات الاحتجاجية التي شهدها ميدان «السيدة زينب» الشهير بالعاصمة، ذلك أن الكاتب ـ الأستاذ جمال فهمي ـ ذهب للمشاركة في تلك التظاهرة، وحين وصل إلي الميدان المذكور فوجئ بما رأى، وكتب قائلاً: هالني ان فضاءه استحال لوحة خرافية قوامها ألوف مؤلفة من الخوذات السود التي كانت تتمدد وتمتد على مرمى البصر، وبدا لي وكأن السماء أمطرت بغزارة جنوداً على الميدان، أو انه تحول الى مصب لنهر دافق من العسكر، أخذت عيناي تبحث في هذا الخضم الكئيب من السواد عن ضالتي فارتد البصر حسيرا، ولولا ان أذني التقطتا أشلاء هتافات تنامت اليّ من بعيد، بعيد جداً، لما عرفت أبداً ان التظاهرة هناك في الضفة الأخرى من الميدان.
بعد أن وصل الى مجموعة المتظاهرين، التقاه صحفي أجنبي وسأله عن تقديره لعدد المشاركين في التظاهرة، أجاب صاحبنا بلا تردد: لايقل عن مائة ألف كما ترى، وهو يصف رد فعل الصحفي، قال ان حدقتيه اتسعتا، وجرى بينهما الحوار التالي:
ـ عفوا، أنا أقصد هذه التظاهرة التي نقف فيها الآن هنا في مصر.
ـ نعم أعرف، هذه التظاهرة لا يقل المشاركون فيها عن مائة ألف، ألا ترى؟
ـ هل هؤلاء مائة ألف، أنتم لا تزيدون على بضع مئات؟
ـ لا بل مائة ألف، نحن والشرطة مائة ألف، لماذا أيها الغربيون تريدون دائماً ان تفرقوا بين الشرطة والشعب في بلادنا؟
وضحك الصحفي الأجنبي، ثم عاد ورسم ملامح الجد على وجهه وسأله:
ـ هل تعتقد ان هذه التظاهرات يمكن ان تؤثر في نوايا اميركا الحربية ضد العراق؟
ـ لا بالطبع لن تؤثر، اننا نتظاهر فقط مجاملة لكم في الغرب، إذ يصعب علينا أن نترككم تتظاهرون من أجلنا ونحن هنا قاعدون، لكن يا صديقي نحن لسنا في حاجة للتظاهرات، فلدينا من القوة المادية ما يكفي وزيادة لردع أميركا ومن يتشدد لها.
ـ عفواً، لم أفهم، أية قوة تقصد، القوة المعنوية، للعمل السياسي والدبلوماسي؟، اذا كنت تقصد هذا فالتظاهرات وفاعليات الاحتجاج الشعبي والرأي العام تعطي زخماً أكبر لهذا العمل.
ـ لا بل أقصد القوة العسكرية وليس أي شيء آخر.
ـ أية قوة عسكرية؟
ـ قوتنا نحن العسكرية، لعلك يا صديقي تريد أن تذكرني الآن بتصريحات كبار المسؤولين عندنا حول انهم لا يملكون ولا يعرفون سبيلا لرد العدوان الاميركي على شعوبنا وأمتنا، لكن يسعدني أن أوضح لك ان هذه التصريحات هي فقط من باب التواضع ورغبة حكامنا في وقاية بلادنا شر الحسد، فالحقيقة الظاهرة أمامك الآن، تؤكد لك ولغيرك اننا نملك فعلا وسائل مواجهة أميركا عسكرياً، ودعني أسألك: هل بوسع الحكومة الاميركية ان تحشد في مواجهة بضع مئات من المتظاهرين العزل كل هذا الحجم المهول من القوات؟.. انكم ـ ياعزيزي ـ تسيئون فهم حُسن أدب وتربية حكامنا، فهم حين يمتنعون عن فعل أي شيء أمام العربدة الأميركية والصهيونية في بلادنا وضد شعوبنا، فالأمر ليس عجزاً ولا جبناً ولا تبعية ـ لا سمح الله ـ ولكنه ياصديقي روح التسامح والعفو، وهو ما نسميه في بلادنا «العفو عند المقدرة»!
هذه القراءات الثلاث للمشهد تجسد بدورها مفارقة لا تخلو من طرافة، فالذين كتبوا كلاماً جاداً بدوا هازلين، ليس ذلك فحسب، وإنما قدم كل واحد منهم «شهادة زور» كانت أبعد ما تكون عن الحقيقة، ومن كتب كلاماً هازلا وحده الذي بعث إلينا برسالة في منتهى الجدية، جاءت صادقة في التعبيرعن الحقيقة، لا أريد أن أعمم بطبيعة الحال، لانه الى جانب شهادات الزور التي قدمنا نموذجين لها، فإن الصحف العربية نشرت العديد من الكتابات الجادة، المحترمة والرصينة، التي اشارت الى مواضع الخلل في الواقع العربي، وأدت الى تغييب دور الجماهير واستقالتها من العمل السياسي.
يحضرني في هذا الصدد ما كتبه في صحيفة «القدس العربي» الدكتور هشام شرابي استاذ التاريخ بجامعة جورج تاون، تحت عنوان: لهذه الأسباب لم يتحرك الشارع العربي، وفي مقالته دعوة ملحة لعناصر النخبة العربية الى ضرورة تجاوز الصراع الاسلامي ـ العلماني، والبحث عن الوطني والمصيري المشترك الذي يلتقي عليه الطرفان، وتلك نقطة غاية في الأهمية، لان ذلك الصراع لايزال يلقي بظلاله للأسف الشديد على مسيرة العمل الوطني، وهو ما تبدى في كتابات ومواقف عدة عبرت عنها عناصر من هذا الطرف أو ذاك، على النحو الذي عرضنا لبعض نماذجه، وهي الكتابات التي شغلت بتصفية الحسابات والثأرات بين الجانبين، بأكثر مما شغلت بمستقبل الأمة والمخاطر الشديدة التي تتهددها، وتلوح ارهاصاتها في الأفق، بحيث لا تخطئها عين بصيرة أو حس سليم.
والى جانب ترحيل خلافات النخب وتجاوزها، فإنني أنهي بتذكير وتحذير، أما التذكير فبما أشرت إليه في الاسبوع الماضي، من حاجتنا الملحة في ذات الوقت الى اصلاح سياسي جذري، يرد للمجتمع العربي اعتباره، ويستدعي الجماهير العربية الى ساحة المشاركة، سواء من الاعتزال الذي اختاره البعض، أو من المخابئ والسراديب التي لجأ إليها البعض الآخر، أما التحذير فهو من «شهود الزور» الذين يقلبون الحقائق ويعمدون الى تشويهها لشق الصف الوطني، وتغليب الاحتراب بين فصائله، ومن ثم اضعاف قدرته على مواجهة استحقاقات المصير المشترك.
أضافة تعليق