ننبش خبر وفاة الأمّ حواء.حضر أبناؤها جازعين أما الابن الأصغر فقد كان ساكنا مستكينا مطأطأ رأسه على وجهه علامات الخوف والذعر والمسالمة والاستسلام تقدم نحو الحاضرين بخطوات بطيئة وقال في نبرة مرتعشة:
ماتت والدتي ولكنّني في حيرة مضجرة :لا أستحضر أقوالها ،أحكامها ،حكاياتها ،قيمها .أشعر بضيق رغم رحابة العالم واتساعه هل فقدت ذاكرتي ياترى؟ لا أستحضر شيئا عن حياة والدتي وفي ذهني فقط صور مبعثرة عن جدّي الذي أرسل أمّي إلى المنفى داعيا إياها إلى نسيان الماضي والتخلّص من سلطته والتشبّع بقيم المضارع :قيم الحريّة والانفتاح.ظلّت أمّي ممزقة الوجدان ولم تستطع نسيان ماضيها وذكرياتها وطفولتها وكانت تردّد هذه القولة باستمرار :
لماذا يا عمّي ؟ لماذا تركتني في عراء الصحراء ومحرقة الشمس؟ لا أستطيع العيش في هذا المكان ولا يمكنني التأقلم معه .ولم تتخلص من ضراوة هذا السؤال المرير إلى أن لفظت آخر أنفاسها فوق صدري.
ولم تمض سويعات حتى قدم الإبن البكر واستنكر بشدّة ماقاله أخاه :ويحك كيف تنعت جدي العظيم بهذه الأوصاف ؟ يا ناكر الجميل لولا جدي لما كنت هكذا ،لما لبست هكذا(وأشار إلى لباسه اللامع والأنيق ) ولاركبت هذه السيارة الفخمة .
- أجابه أخاه:
وهل ستعيد أملاكي ذاكرتي؟ أعيش في غربة عن عالمي ،عن وطني،عن قريتي.أرى الأشجار بلا لون والناس أشباحا والبحار سرابا والبنيان خرابا حتى نسمات الريح صارت تزعجني وتبعث الأسى في نفسي وانحناءة النخيل رغم عظمة قامته تجعلني أشعر بالضعف والوهن . أنا مسجون داخل هذا المكان القميئ بينما جميع الناس يتنقلون بحريّة حتّى أنّني أكاد لا أفهم لغتهم، نظراتهم ،وهل للسجين الأسير أن يفهم لغة الأحرار .أشتاق بساطة عيشنا في الماضي ،أشتاق إلى رائحة التراب حين يبتل وأشجار الزيتون وشجيرات الحلفاء خلف الحوش الصغير وللأطفال وهم يلعبون في تلقائية ومرح أشتاق إلى أكلة بسيطة ولباس متواضع أستعيد معهما ذكرياتي وأحلامي .من أنا؟ كيف كانت أمّي؟ ليتني أستحضر تعاليمها لأتخلّص من كوابيسي وغربتي وآهاتي وأناتي وآلامي وأوجاعي.إنّ الأمّ حقل القراءة الذي نقرأ فيه أشيائنا وعالمنا والموطن الذي يحن إليه المرء فيرتوي بتعاليمه وحكاياته وإن غابت لانكف عن استحضار طيفها والشوق إليها.ولكنّني لا أتذكر حتى طيفها.أشعر أنّ شطري انشقّ عنّي فمع موتها اندثرت ثقافتي وأحلامي فلا محيص إذا من نسيانها.
- ضحك الأخ الأكبر مستغربا:
من أيّ عصر أنت؟ كفاك تخلّفا وعش حياتك وكن سعيدا بعيدا عن الخرافات والأوهام ولا تستحضر ماضي التخلف و الفقر .
إستمرت معاناة الأخ الأصغر أياما وليالي وظلّ يذرف الدموع التي كادت تروي الثرى عن أمّه التي لا يستحضر عنها سوى القليل .ومرّت السنين ونسي الجميع الأمّ حواء ولا أحد يستحضر ذكراها وعاش الأخ الأكبر حياة بذخ غير مبال حتى بآلام أخيه بل ولايكفّ عن إظهار العداوة له وينعته بالتخلف والرجعية دون سبب يذكر سوى اختلافه عنه فكريا،ولم يعد بالقرية معيارا ثابتا أو قيما راسخة وانتشر البؤس والفساد والفقر وانعدم الأمل وحزن الأطفال وأحبط الشباب.
في أحد الأيام ،بينما كان جالسا في خلوته بأحد الزوايا المظلمة في بيته إذ مرّ به مجموعة من الأناس غريبو الشكل والمظهر استقبلهم الأخ الأصغر بحفاوة كبيرة بعد أن مرّت سنين لم يرى فيها أناسا ولم يغادرمنزله المهترئ البالي.قال أحد الجماعة:
لاتحزن على الحياة الدنيا إنها العالم الداثر الفاني.أتريد مخرجا من محنتك؟
- ردّ الأخ الأصغر متفاجئا متحمّسا:
نعم.نعم.ياليت قولك يتحقق
- أجابه :
إنسى الحياة الدنيا واعمل لآخرتك.
- ردّ الأخ باستغراب:وكيف ذلك؟
- أجابه الغريب:
ألا ترى الفقر والبؤس يعم والجهل ينتشر وقيم الأمّ حواء تندثر ،فلنعمل على إصلاح أحوالنا ونتخلص من همومنا وأهوالنا ولنداوي أهواءنا التي تلابسها الوساوس والهواجس ولا تبقى ساكنا مستكينا فلنعمل على إعادة تعاليم أمّنا حواء.
- رحب الأخ مهلّلا :
وهل تعرف قيم الأمّ حواء؟
- ردّ الغريب في تأن وثبات:
نعم.إنّها العدل والأخوّة .لكن لاتنفع الكلمة مع مجتمع ظالّ هلمّ بنا للجهاد في سبيلها وسبيل أوطاننا.
نشبت الحرب وانتشر الاقتتال ودمرّت الأوطان ومات الأخ الأصغر وآخر كلماته:أنا آت أمّي حواء .سأغادر هذا العالم الظالم وأتخلص من غربتي وهمومي.