أحمد بابانا االعلوي
لا ريب أن لأبي الوليد ابن رشد (ت- 595هـ-1231م) الفيلسوف الفقيه مكانة بارزة، في تاريخ الفكر الإنساني فقد وضع أوفى مجموعة الشروح على مؤلفات أرسطو، باستثناء كتاب السياسة، الذي وضع بديلا عنه، ملخصا لجمهورية أفلاطون (جوامع سياسة أفلاطون) وقد وصلتنا هذه الشروح والتلاخيص في ترجمات، عبرية ولاتينية، ولدى صدورها في القرن الثالث عشر، أصبحت أساسا للدراسات الفلسفية في مطلع العصور الحديثة،وقد عرف ابن رشد، في الأوساط اللاتينية بالشارح (commentator)وسماه الشاعر دانتي بالشارح الأكبر..(1)
انتصر ابن رشد للأرسطوطالية في وجه حملات علماء الكلام لا سيما الأشاعرة.. وفي كتبه الأصلية (فصل المقال ومناهج الأدلة، وتهافت التهافت) رسم الإطار الفلسفي للرد على علماء الكلام، وتصحيح التأويل الذي إختاره الفارابي، وابن سينا لفلسفة أرسطو، ووضع الأسس للتوفيق بين الحكمة والشريعة، فكان موقفه يهدف إلى وقف الصراع بين الفلسفة اليونانية والعقيدة الإسلامية، حيث تضاربت فيها الحلول، واختلطت المفاهيم واشتبه الأمرحتى على أعظم المفكرين..(2).
فالطريقة البرهانية ، التي إختارها إبن رشد تقضي باعتبار المعارف الشرعية مكملة للمعارف العقلية، وبأن الوحي متمم للعقل..
وضرورة الشريعة مرتبط بغرضها الاجتماعي الرفيع، فهي تنحو نحو تدبير الناس الذي به وجود الإنسان بما هو إنسان، وبلوغه سعادته الخاصة..
فالسعادة لا تنال إلا بالصنائع العملية، والفضائل الخلقية..
فالشرائع هي الصنائع الضرورية للمدينة، التي تؤخذ مبادئها من العقل والشرع، فالرسالة الدينية ضرورية لسعادة الإنسان.(3) .
فالعلاقة بين الدين والفلسفة تقوم على مبدأ منهجي واضح هو أن الحق يضاد الحق، بل يكمله ويشهد له..
إن المشروع الفلسفي والفكري لأبي رشد سطره في كتبه (كمنهاج الأدلة، وفصل المقال) وعلى أرائه، في سياق مناقشته وردوده على الغزالي في كتاب ( تهافت التهافت) ومشاركته عبارة عن مقولات منهجية في الفلسفة والفقه والطب..
وقد إمتاز إبن رشد بصدق الفهم، وجودة الإستيعاب والأمانة في التعلم، والتعليم، فكان شغله الأكبر، بالشرح والتحصيل، ولم يشغل نفسه بالابتداع والابتكار، وقد غلب عليه المنطق والبحث العلمي.(4)
من خلال هذه المنهجية أنصب إهتمام إبن رشد بالبحث عن طريقة منهجية تمكن من الجواب على ثلاثة اسئلة:
- مسألة شرح فلسفة أرسطو
- مسألة فهم القرآن، وتأويله
- مسألة العلاقة بين الدين والفلسفة
كان ابن رشد أعظم شراح أرسطو، وقد حظي باهتمام كبير في العصور الوسطى المسيحية، وكانت شروحه بمثابة عودة الأرسطية الأصلية ورد فعل ضد الأفلاطونية المحدثة..(5)
فمؤلفات إبن رشد الأرسطية، عبارة عن شروح وسطي وملخصات وجوامع..
و الشروح نوع أدبي غايته توضيح المعنى، واسهاب مركز حتى يسهل تمثله مثل شروح ابن باجة، وإبن رشد. ويسمى الشرح تفسيرا، إذا اتبع أسلوب تفسير القرآن، بحيث يفصل بين النص المشروح والنص الشارح..
والغاية من التفسير والتلخيص والجوامع، تجاوز الازدواجية الثقافية بين الوافد والموروث.. (6)
و ليس الشرح مجرد تكرار لفظ بلفظ أو عبارة بعبارة بل هو توحيد للفكر، فغاية إبن رشد في شروحه التحول من الأسلوب العربي المترجم إلى الأسلوب العربي المؤلف والبرهنة على صحة الافكار المشروحة، وذلك بوضع الجزء، في إطار الكل، والإحالة إلى الوافد أكثر من الإحالة إلى الموروث، وضبط المعنى الغير المتوازن.
وتخليص الأرسطية من التأويلات المسيحية اليونانية، والإسلامية، ومن الأقاويل الجدلية والخطابية وتحويلها إلى برهانية، من خلال إعادة صياغة الموضوع، واستئناف عملية التحول من النقل إلى الإبداع.. (7).
اضطلع ابن رشد بمهمة رفع قلق عبارة المترجمين، وتوضيح غموض أغراض أرسطو وهذا الغموض في حقيقة الأمر ناتج عن عدة عوامل منها: الترجمة الحرفية، والنقص في إمتلاك اللغة العربية والتكوين الفلسفي، وقوة المعتقد، لتؤدي إلى وضع لغوي معقد لا تفيد معه قواعد اللسان العربي، ولا أساليب الكتابة العربية، ويستحيل على العارف باللسان العربي وحده أن ينفذ إلى معمياته.. (8).
فركاكة التعبير تؤثر في مستوى التبليغ، الأمر الذي أحدث اضطرابا في الإدراك المباشر للنص، وضاعفت من الغموض الموجود فيه، أضف إلى ذلك الغموض الموجود، على المستوى التجريدي للنص الفلسفي، وهناك الغموض الذي يتسبب فيه المجال التداولي للقارئ العربي،الذي يحول دون تجاوبه مع النص (الوسائل العقدية وغيرها العاملة، في توجيه رؤيته الفكرية، وتربية عقله العلمي).
كيف واجه إبن رشد هذه الظواهر اللسانية المعقدة، وكيف استطاع أن يتغلب على قلق العبارة وعلى غموض الأغراض بأصنافه المختلفة ، تعبيري ودلالي واصطلاحي وتداولي وقرائي.
لا شك بأن ’’للتلخيص أو للتفسير’’ معنى خاصا بحيث لا ينتظر من ’’ التلخيص’’ أن يتخذ إحدى صورتيه، التقليديتين فيكون نقلا مركزا وأمينا لمضمون نص ما أو يكتفي بإبراز الأفكارالرئيسية للنص، وليس ينتظر من ’’التفسير’’ أن يكون مجرد شرح الالفاظ التقنية والغامضة، وتوضيح المقاصد الفلسفية للنص والتعليق عليها..
فمهمة ابن رشد ترمي إلى رفع قلق المصطلح، وقلق الجملة، من النص المترجم لذا فقد تتبع النص جملة جملة ونقله نقلا بحيث أعاد ترجمته أو صياغته بدرجة أسلم.. (9).
ليس التلخيص اذن مجرد تفسير للنص، وإنما هو عملية منهجية تعالج النص وتقوم اعوجاجه..
فإبن رشد في شروحه و تلاخيصه يعمد إلى تقويم لغة النص المترجم من الناحية الصرفية والنحوية وتقريبها من العربية السليمة، وحاول أن يرقى تلخيصه إلى مستوى التعريب، ويقرب مضامين النص تقريبا، اسلاميا..(10).
أما من حيث التفسير، فمنهج إبن رشد استئصال البناء الفلسفي الذي تكيفت فيه الفلسفة اليونانية، مع مقتضيات التداول الإسلامي، جاعلا المقولات الأرسطية الأكثر أصالة..
ولو أنعمنا النظر في لغة إبن رشد الفلسفية، وفي طبيعة تقويمه لقلق مصطلحات النص المترجم لوجدنا أنه يسلم بأفضلية المصطلح اليوناني وكلية مصطلحات الفلسفية الأرسطية.. (11).
والحق أن القلق العبارة لا يرجع فقط إلى الترجمة أو اللغة بل يرجع إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى كون ثوابت الفكر اليوناني تختلف عن ثوابت الفكر الإسلامي، والعبارة ينتابها القلق عندما يتعلق الأمر بنقل يمس مباشرة تلك الثوابت.. (12)
وقد تناول ابن رشد كتب الفلسفة، والطب بالتفسير والتيسير، وكان من دأبه أن يتناول الكتاب بالشرح المطول ثم الشرح الوسيط ثم بالإيجاز، وقد سرد ابن أبي صبيعة بعض أسماء هذه الشروح، ومنها تلخيص كتاب الطبيعة، وتلخيص الأخلاق وتلخيص كتاب البرهان، وكلها من فلسفة أرسطو، ولم يكن إبن رشد يعرف اليونانية ، ولكنه اعتمد على الترجمات التي نقلت، من المشرف إلى الأندلس .. (13)
وقد ضاعت أصول الكثير من شروح ابن رشد، وبقيت ترجماتها اللاتينية أوالعبرية، ومنها ما هو محفوظ في المكتبات الأوربية بنصه العربي مكتوبا بحروف عبرية...
ولإبن رشد فلسفتان الفلسفة الرشدية كما فهمها الأوربيون في القرون الوسطى ، وقد اعتمدوا على فهم فلسفته على شروحه لأرسطو، وتلخيصاته لبعض كتبه، ومهما يكن إعجاب ابن رشد بأرسطو، فإن آراءه فد لا تطابق أرسطو، في كل شيء ..، ثم أنهم اعتمدوا على النصوص المترجمة إلى اللاتينية والعبرية ولا تخلوا الترجمة من اختلاف..
أما فلسفة إبن رشد، كما يعتقدها، فالمعول عليها كتبه الأصلية ، كمنهاج الأدلة، وفصل المقال، وتهافت التهافت.
أبرزرينان (E. Renan) في كتابه ’’إبن رشد والرشدية’’، أثر إبن رشد في الفلسفة اليهودية وجعل لليهود الأثر الأكبر في حفظ تراث الرشدية وفي نقله إلى أوربا المسيحية.. والحق أن اليهود تأثروا بإبن رشد، وإن لم يكن بالصورة الضخمة التي سجلها رينان في كتابه .. (14)
وكتاب رينان (15) عبارة عن عرض تاريخي لحياة إبن رشد ومذهبه وما عرفته الرشدية من تطور وتأثيره في الاتجاهات الفكرية في أوربا خلال القرون الوسطى .
ويرى رينان بأن العرب لم يصنعوا شيئا سوى أنهم تلقوا المعارف اليونانية في القرنين السابع والثامن، وأنهم اتخذوا من تفسير آراء ارسطو، وسيلة لإنشاء فلسفة مخالفة لما كان يدرس عند اليونان، ويضيف بان الحركة الفلسفية الحقيقية يجب أن تلتمس في مذاهب المتكلمين..
أما سلامون مونك ( s. munk) فيرى بأن اختيار المسلمين لأرسطو من بين الفلاسفة يعود إلى أن منهجه التجريبي أدنى إلى موافقة مثل العرب العلمي والوضعي من منهج أفلاطون المثالي ولأن منطق أرسطو يعتبر سلاحا مجديا في المنازعات بين أهل المذاهب الكلامية... (16)
وقد اشتهر ابن رشد بين اللاتين بكونه طبيبا ، وشارحا لأرسطو ، بيد أن شهرته شارحا غلبت على شهرته كطبيب..
وإبن رشد هو الذي أعطى لهذا النوع الأدبي مكانته ، حتى أنه اشتهر به باعتباره الشارح العظيم ( gloire du commentateur) .
فقد أعاد كتابة أعمال ارسطو، في المنطق والطبيعة، وما وراء الطبيعة وتتبع فكر أرسطو في المقولات، وقام بتلخيص القياس، والبرهان والشعر من أجل الوصول إلى قوانين الشعر..
فهو صاحب الجوامع، في المنطق والجدل، والخطابة والشعر..
يحيل إلى مؤلفات ارسطو المنطقية رادا الجزء إلى الكل...
وفي الضروري ، في السياسة أو جوامع السياسة لأفلاطون حاول وضع نظرية في السياسة من خلال ربط علم الأخلاق، بالسياسة ، فهو يرى بأن الحرية هي جوهر العمل الأخلاقي وشرطه الضروري فالحرية تعني القدرة على الاختيار، والمفاضلة بين الأفعال كما تعني شعور الفرد بقيمته وأهليته لتحمل نتائج أفعاله، فمن الطبيعي أن يكون الإنسان مسؤولا عن أفعاله والمسؤولية تستتبع الجزاء..
فكان ينشد الإصلاح..في الحكم والسياسة، كما نشدها في العقيدة والفلسفة.. (17)
فرسالته العلمية ترمي إلى تصحيح العلاقة بين العقيدة والفلسفة ..، فلم يكن ينشر المعرفة بفهم ثاقب، وبروح نقدية واتجاه عقلاني أصيل فحسب، بل كان ينزع نحو التغيير، والإصلاح والتجديد، من أجل إعادة بناء الفكر والثقافة في عصره، وذلك بإعادة تأصيل الأصول، في كل مجالات الثقافة العربية الإسلامية: في العقيدة والشريعة ، والفلسفة والطب والعلم واللغة والسياسة... (18)
ففي كتبه الأصلية: (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وتهافت التهافت والضروري في أصول الفقه..) فقدأكد بأنه يريد تصحيح عقائد الشريعة مما دخلها ، من تغيير، والرجوع بها إلى قانون التأويل بين ما يجب تأويله، وما يجوز وما لا يجوز تأويله، وكيف..؟
فمؤلفاته الأصلية تتناول قضايا من صميم الفكر الإسلامي كالاجتهاد في الفقه وتصحيح العقيدة (في علم الكلام) وتصحيح وضع الفلسفة ، في الفكر العربي الإسلامي وإعادة ترتيب العلاقة بين الدين والفلسفة .. (19)
فأبن رشد الفقيه كان متعدد التخصصات، يتصرف من منطلق وحدة الحقيقة، وتكامل المعرفة أو تطابق العقل بالوجود، ومن هنا كانت الحقيقة عنده، وكان العلم وكان البرهان في المطابقة مع الوجود... (20).
فالنظر في العلوم العقلية يستوجب أمرين: ذكاء الفطرة والأمانة العلمية، وهي الخصال الضرورية في من يريد النظر في كتب الشريعة ، ذلك أن صناعتهم (الفقهاء) إنما تقضي بالذات الفضيلة العملية التي أساسها الفضيلة العلمية و الفضيلة الخلقية، فلا بد أن يتطابق سلوك العالم مع قناعاته فالوجود البشري تحكمه قيمة عليا توزن بها الأعمال هي الخير’’ فالفضيلة الخلقية هي التي تجسد هذه القيمة وتطبع وجود الفرد ... (21).
ويقول في فصل المقال بأن مقصود الشرع هو تعليم العلم الحق والعلم الحق هو معرفة الله تعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه، وأن العمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء.
والمعرفة بهذه الأفعال هو الذي يسمى العلم العملي.
والحكمة تطلب إما ليعمل بها، وإما تعلم فقط ( علمي وعملي) والعملي عمل الخير، والعلمي علم الحق..
وبهذا تتشابه غاية الدين وغاية السياسة فكلاهما يرمي إلى تحقيق السعادة من طريق الاعتقاد وعمل الخير...(22)
كانت الفضيلة تمثل مجمل فلسفته، ابن رشد لأنها تمثل وجها من وجوه الكمال الإنساني، وخصوصا إذا تمثلت في الإنسان والمدينة ...(23).
فالفضيلة هي لب المنهج الذي يجمع بين المنقول والمعقول بحيث أصبحتمعرفة المنقول شرطا ضروريا لاكتساب الشرعية للخوض في العلوم الفلسفية...
ويقول ابن خلدون بهذا الصدد، بأنه لا بد للناظر فيها ( الفلسفة) أن يكون متبحرا بعلوم الشريعة، ومطلعا على التفسير والفقه (24).
لقد اتسمت الثقافة الفقهية في الغرب الإسلامي بطغيان علم الفروع، دون الأصول، وتولد عن هذا الوضع انشغال الفقهاء بالجزئيات، دون التفات يذكر إلى تقرير الأدلة، وبيان المدارك الفقهية ، كما شاب تقرير جمهرتهم الكثير من التداخل والخلط .. فرأى ابن رشد أن تناول الفقه بتلك الطريقة، قد أدى إلى عزل الفقه عن أصوله ومصادره وأن العناية بتناول ’’الفقه’’ بتلك الطرق، قد صار جزءا من عوامل تعطيل ملكة الاجتهاد، فكتب ’’بداية المجتهد’’ ونهاية المقتصد’’ بمنهج ’’الفيلسوف الفقيه’’ الذي يعمل على لفت أنظار الفقهاء إلى ’’ فلسفة الفقه’’ لعل ذلك يؤثر في تعاملهم مع مسائل الفقه، وأدلته ، لذلك ركز على اسباب الاختلاف منبها إلى زوايا النظر في الأدلة كما أبدى اهتماما خاصا بالأحكام الفقهية المعللة، بالمصالح والمفاسد، لأن هذين الجانبين هما الذي يستطيع أن يبرز فيه فلسفته الفقهية .. (25).
فعلم الفروع كان مطبوعا، بطابع الاتباعية والتقليد، ومن النتائج المتولدة عن هذا الوضع أن العامة من الناس تتوهم أن المفتين الحافظين للفروع هم ’’ العلماء وأن علمهم هو العلم الحق محولين سنده المذهبي إلى سند ’’مقدس’’ رابطين علم الفروع الذي مهروا فيه بالأصول التي جهلوا ، لقد تحول الطابع العلمي المحض علوما حقة، جعلت حامليها ’’علماء’’ سرعان ما تحولوا إلى سلطة فعلية، ترعى التقليد، وتخشى التغيير، وتؤسس ذلك على شرعية، وسندها سندا خبريا إلى الرسول (ص) وإلى الوحي مباشرة .(26)
وغني عن البيان بأن شر القرون ما طوي فيها بساط الاجتهاد، وانقطع فيه سير الأفكار وانحسم باب المكاشفات، وانسد طريق المشاهدات... (27).
ضمن هذا السياق، يندرج نقد إبن رشد للفقهاء الأشاعرة المتكلمين، أو لظاهرة هيمنة التقليد في الفقه والعقيدة..، وما ترتب عنها، من جمود وانحراف، اللذين سيركز عليهما ابن تومرت في حركته الإصلاحية، داعيا إلى ترك التقليد والرجوع إلى الأصول..
كان العلماء في عصر المرابطين، في نظر ابن تومرت قد اعتمدوا على قياس الشاهد على الغائب فأوقعوا أنفسهم، في التشبيه والتجسيم على مستوى العقيدة، كما كرسوا التقليد على مستوى الشريعة، بوضعهم الفروع مكان الأصول..
ويقول ابن تومرت بهذا الصدد بأن الحكم الشرعي، لا يثبت إلا بالعلم، وأن التماس المعاني بالتخمين من غير التحقيق ولا التفات إلى الأصول التي تبنى عليها، يزل عن منهاج الحق، ويضيف بأن الأصل يثبت به الحكم والإمارة أو العلة يثبت عندها الحكم. ويريد من خلال نقده العلة الفقهية أن ينسف القياس الفقهي تماما، فإذا بطل الشبه بطل به التشبيه، وبطل به قياس الغائب على الشاهد (28).
ومما يلفت النظر أن إبن رشد يشاطر ابن تومرت موقفه في نقد القياس في مجالات اللغة، والكلام والفقه..
وذهب إبن رشد إلى القول بأن الفقهاء يقدمون أشياء لم ينقل فيها عن مقلديهم، حكم، فيجعلون أصلا ما ليس ، بأصل ويصيرون آراء المجتهدين أصولا لاجتهادهم، مما يوقعهم في الخطأ نتيجة جهلهم، بالطرق البرهانية وعدم معرفتهم بأنواع البراهين وشروطها وبماذا يخالف القياس البرهاني القياس الجدلي، والقياس الخطابي، وهذا لا يمكن إلا إذا عرف أجزاء القياس التي منها تركب أي (المقدمات وأنواعها) .
وهنا لا بد من التذكير، بأن المنهج الذي شيد بواسطته علماء الإسلام مختلف العلوم العربية الإسلامية (النحو ، واللغة والفقه والكلام...) هذا المنهج هو ’’القياس’’ باصطلاح النحاة والأصوليين والاستدلال بالشاهد على الغائب’’ باصطلاح المتكلمين وتكاد تنحصر آلية هذا القياس في البحث عن قيمة ثالثة تكون جسرا بين الشاهد والغائب أو بين حكم المعلوم وحكم المجهول، هذا الجسر هو الذي يسميه النحاة ب’’العلة’’ ويسميه المتكلمون ب’’ البديل’’ ويناظر الحد الأوسط، في القياس الأرسطي.
فالمنطق الإسلامي لا يبحث عن النتيجة، كما هو الشأن في القياس الأرسطي بل هدفه البحث عن الحد الأوسط لأن النتيجة معطاة سلفا، وهي الحكم الشرعي (29).
ولا بد من إمعان النظر في إشكالية وتوظيف القياس التمثيلي وذلك ببيان القيمة المنهجية التي تنطوي عليها آلية القياس التمثيلي في إنشاء المعرفة وفي تداولها، وتطويرها ضد الطعون الموجهة للقياس من طرف دعاة الطرق البرهانية..
فقد أبانت الدراسات المعاصرة في المنطق، واللسانيات، حدود تلك الطعون لبعد أصحابها عن الشمول وإغفالهم المقايسة، وآلية التمثيل، في العقلالإنساني..
وقد أكد المعتزلة بأن طرق الأدلة، لا تختلف غائبا وشاهدا وأن الدليل (أيا كان) هو ما إذا نظر الناظر، فيه أوصله إلى العلم بالغير، الأمر الذي يستلزم القول بأن إنشاء المعرفة الإنسانية ونموها قائمان أساسا على قياس تمثيل أو قياس المجهول على المعلوم مما يعني أن هذا القياس يفترض الانطلاق من حصيلة معرفية تتخذ نماذج أو ’’شواهد مثلى’’ يقاس عليها الموضوع بمختلف ضروب المقايسة لتحصيل معرفة به ( 30).
والخلاصة أن الصورة التي اتخذها القياس في العلوم الإسلامية سواء عند الأصوليين أو المتكلمين تظل واحدة قائمة على آلية المقايسة، اعتبارا لما بين الطرفين، المتقايسين، من المشابهة والمشاكلة، بمعنى وجود علاقة منطقية جامعة بين الأصل والفرع، مما يعني الخروج من اللفظ إلى معناه ومضمونه التداولي، ثم إلى تحقيق مقصده العملي، في الواقع المعيش، بحيث أن أغلب عادات الشرع من غير العبادات، اتباع المناسبات والمصالح دون التحكمات الجامدة.
إن القياس التمثيلي ما هو إلا آلية عقلية القصد منها، تبرير المطابقة أي المشابهة والمخالفة فآلية التمثل تنطوي على وظائف الإنشاء والتبرير، والتداول بهدف تحقيق ’’تكيف’’ على مستوى المعرفة ثم على مستوى السلوك والممارسة(31).
إن ما ذكره إبن رشد في بداية المجتهد من مسائل الأحكام المتفق عليها أو المختلف فيها بأدلتها وما يجري مجرى الأصول والقواعد من تلك الأسباب، التي يستند إليها المجتهد في استنباط أحكام المسائل المسكوت عنها في الشرع لا يختلف عن مقاصد الأصوليين والمتكلمين، من خلال توظيف القياس التمثيلي..
ومن ثم فإن القضية المطروحة ليست قضية ’’ منهج’’ بل المسألة أعمق، وأبعد، إنها قضية ومنهج بل المسألة أعمق وأبعد، إنها قضية ’’ منهج’’ أي العقائد التي يجب أن يحمل الجمهور عليها. بل الناس جميعا- وبالتالي قضية الدين والمجتمع (32).
ولعل الغاية من توجيه النقد إلى الأشاعرة والمتكلمين كان ضمن مخطط لدعم وترسيم مذهب الموحدين الذي وضعه أمامهم ( محمد بن تومرت ( 485-524ه).
وهو خليط من الأشعرية والاعتزال والتشيع مع تأثر واضح بمذهب ابن حزم ( 384-456هـ) وهو مذهب فقهي يعتمد الظاهر من النصوص والرجوع إلى الأصول ضد قياسات فقهاء المذاهب..
ومن الملاحظ أن المذهب الأشعري لم يكن مستساغا، من فقهاء البلاط الأندلسي كانوا سنيين في العقيدة ، أقرب إلى الظاهر، كما أن كبار فلاسفة الأندلس (ابن باجة وابن طفيل وإبن رشد) كانوا من أنصار الموحدين..
ولا مراء بأن وراء هذا كله دوافع سياسية، بالدرجة الأولى تتجلى بعض مظاهرها في الصراع الثقافي والسياسي بين المشرق والمغرب..
ومن المسلم به أن المذهب، سواء كان دينيا أو فلسفيا ينتشر بقوة السلطان السياسي، فوق قوة الدعوة ثم إنه يصبح شاغل الدول، يستطلعون كنهه. ويستبطنون ما وراءه، فالدولة الموحدية كانت مركز مناظرة في الثقافة والسياسة ومرجعية مذهبية ومعرفية، في الغرب الإسلامي..
وقد ساهم إبن رشد بمشروعه الفكري في الزخم الذي شهدته الحركة الثقافية في عصر الموحدين، كما أن فكره يعكس أوجه الصراع المذهبي والسياسي والدعوة إلى التغيير والتجديد ..
يتحكم التجديد الفلسفي في فكر إبن رشد كله( المتكلم والطبيب والفيلسوف والأصولي واللغوي)، فهو فقيه ظاهري في بداية المجتهد، أما في مناهج الأدلة فإنه يقارن بين أدلة الأشاعرة وأدلة المعتزلة لكي يعرف أي الفريقين أحق بالبرهان، وفي تهافت التهافت فيقارن بين أدلة الغزالي وأدلة الفلاسفة في محاولتهم فهم العقائد فهما، فلسفيا، خالصا كما تجلت روح الفيلسوف الفقيه، في فصل المقال، الذي يعرض فيه للصلة بين الحكمة والشريعة أي بين الفلسفة والدين في صيغة إجابة على سؤال هل الفلسفة واجبة بالشرع أم محظورة طبقا لأحكام التكليف الخمسة؟(33)
وتتجلى ، نفس الروح، في الشروح والتلخيصات عندما يقارن بين التأويلات المختلفة للشراح، منتهيا إلى التأويل الصحيح.
فغايته من البحث عن الحقيقة الواحدة، عن الأصل الذي منه الفروع، وعن المنطوق به الذي يحال إليه المسكوت عنه..
وما يريد الوصول إليه هو رد الفروع إلى أصولها ومقارنة الأدلة بينها لمعرفة الصواب وإصدار الحكم ( 34).
كان هدفه ايقاف التقليد والحث على الاجتهاد، وشروط الاجتهاد كما بينها في كتاب ( بداية المجتهد) إثنان:
- العلم باللغة العربية
- العلم بأصول الفقه
الاجتهاد هوالآلة التي بها يستطيع الفقيه استنباط الأحكام من أصحاب المذاهب والاجتهاد هو منطق الاستدلال ولا يحتاج إلى منطق آخر. (35)
والخلاصة أن الرشدية تتجلى في روح النقد، واستعمال العقل، والحوار مع الآخر، ونبذ التقليد والدعوة إلى الاجتهاد..
فهو القاضي العالم الذي يبحث عن الحق.
فالقاضي يوزن الموازين بالقسط، وكذلك العالم مهمته اكتشاف القانون الذي يتحكم في حركة الظواهر.
والنظر واجب شرعي والقياس أصل من أصول الأحكام..
والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
الرشدية إذن توصيف لعقل الشارح الأمين، ومذهبه وروحه السارية في تاريخ الفكر الإنساني.
وقد بلغ قصارى أثره، وغاية قدره إنه أثر كبير وقدر عظيم.(36)
لقد حاولنا في هذا العرض أن نلم ببعض الأطروحات الفكرية الخصبة لهذا الشارح العظيم من غير مدافع...
كان فيلسوف قرطبة ابرز رواد الفكر العقلي في الحضارة العربية الإسلامية وكانت محاولته التوفيق بين نواميس الحكمة وأصول العقائد التي جاءت بها الأديان من أنضج ما قدمه الفلاسفة في هذا المضمار مما يدل على فكره الخلاق الذي ربط بين الحكمة والشريعة بأواصر الأخوة والصحبة، فلا عقل بدون نقل، ولا نقل بدون عقل..
وقد انحاز إلى صف الفلاسفة الحكماء معتبرا أن طريق البرهان هو السبيل الأمثل الذي يوصل إلى الحقيقة..
ولإبن رشد عدة أبعاد ومشارب فكرية ، مما يسمح بقراءات متعددة فهو ظاهري يؤول طبقا لظاهر النص، وهو مالكي يقول بالمصالح المرسلة وهو عقلاني نصي يعتمد على العقل، ويحتكم إلى النص في آن واحد وهو شارح ومؤلف يعلق على النصوص ويبدع نصوصا، وهو فيلسوف ومتكلم يدافع عن الفلسفة وهو معتزلي أشعري، فالعقل عنده أساس النقل والنقل أساس العقل... (37)
إن الدرس الذي يقدمه المشروع الرشدي للحياة الفكرية العربية والإسلامية يكمن في ضرورة التزود بالقدرة والإرادة على التصحيح والتجديد من منطلق وحدة الحقيقة وتكامل المعرفة، من أجل بناء ثقافة مؤثرة في مجتمعها وفاعلة في عصرها، والسعي الدؤوب نحو لذة المعرفة والاكتشاف..
فالثقافة الحية في عالم متغير يشهد تحولات كبرى في مجالات الافكار والمذاهب او في المجالالسياسي والحضاري تتطلب الرؤية الواضحة للاشياء والقدرة على هضم العناصر الوافدة، واستيعابها بشكل لا يتناقض جوهريا مع مكوناتها وخصائصها و مقوماتها ومسلماتها..المستمدة من تاريخها وحضارتها ..
الهوامش:
1- ماجد فاخوري، ابن رشد فيلسوف قرطبة، دار المشرق بيروت
2- المرجع السابق ص 4.
3- نفس المرجع ص 6.
4- عباس محمود العقاد، ابن رشد ، نوابغ الفكر العربي/ دار المعارف بيروت ص 58.
5- د/ زينب محمود الخضيري/ أثر بن رشد في فلسفة العصور الوسطى دار التنوير / ط1/2007/ ص7.
6- د/ حسن حنفي، حصار الزمن الماضي والمستقبل / مركز الكتاب للنشر ط1-2006 انظر فصل ارسطو وشراحه ص 508.
7- نفس المصدر ص 509.
8- طه عبد الرحمن ، حول لغة ابن رشد الفلسفية في ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي ، سلسلة ندوات، ومناظرات رقم 175 كلية الآداب الرباط ط2 ص 193.
9- نفس المصدر ص 195.
10- نفس المصدر ص 196.
11- نفس المصدر ص 202.
12- محمد عابد الجابري، نفس المصدر ص252.
13- عباس محمود العقاد، مصدر سابق، ص 27.
14- د/ زينب محمود الخضيري مصدر سابق، ص 8.
15- Ernest RENAN/ averroes et l’averroisme / Ed maison neuve larose -2002/préface d’alain de libera.
ابن رشد والرشدية / ترجمة عادل زعيتر/ مكتبة الثقافة الدينية ط 1 /2008.
16- الشيخ مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية المكتبة الثقافية ط2 /2007، ص19.
17- زينب عفيفي ، الفكر السياسي الإسلامي مفكروالإسلام ومشروعاتهم / مكتبة الثقافة الدينية / ط 1 /2011 / ص205.
18- محمد عابد الجابري، مواقف عدد 26 ابريل 2006 ص8.
19- محمد عابد الجابري، ابن رشد سيرة وفكر ط2 /2011/ ص10.
20- المصدر السابق ص 14.
21- المصدر السابق، ص 15.
22- الشيخ مصطفى عبد الرزاق مصدر سابق، ص 84.
23- جوامع سياسة أفلاطون ( الضروري في السياسة ) لابن رشد نقله من العبرية إلى العربية أحمد شحلان ط2 /2014/ ص31.
24- ابن رشد سيرة فكر، مصدر سابق، ص 33.
25- د/ طه جابر العلواني/ابن رشد الحفيد الفقيه الفيلسوف / دار السلام / ط1/2010/ ص15.
26- عبد المجيد الصغير، تجليات الفكر المغربي / شركة والتوزيع المدارس ط 1/2000 ص 15.
27- مصطفى الطبطبائي، المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني ترجمة عبد الرحيم ملازي البلوشي / ص8.
28- د/ محمد عابد الجابري ، انظر مدخل ومقدمة الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة لابن رشد ، نشر مركز دراسات الوحدة العربية ط 1/1998/ ص43-44.
29- ج/ علي أومليل في ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي – مصدر سبق ذكره- ص 106.
30- عبد المجيد الصغير، الخطاب الإصلاحي العربي بين منطق السياسة وقيم الفكر/ دار رؤية / ط-1/2011 ص 11.
31- المصدر السابق، ص 14-15.
32- محمد عابد الجابري / مدخل ومقدمة الكشف عن مناهج الأدلة...مصدر سابق ص 68.
33- د/ حسين حنفي ، مصدر سبق ذكره ص 587.
34- المصدر السابق ص588.
35- المصدر السابق، ص 589.
36- عباس محمود العقاد ابن رشد ص 59.
37- د/ حسن حنفي ، مصدر سبق ذكره ص 684.
لا ريب أن لأبي الوليد ابن رشد (ت- 595هـ-1231م) الفيلسوف الفقيه مكانة بارزة، في تاريخ الفكر الإنساني فقد وضع أوفى مجموعة الشروح على مؤلفات أرسطو، باستثناء كتاب السياسة، الذي وضع بديلا عنه، ملخصا لجمهورية أفلاطون (جوامع سياسة أفلاطون) وقد وصلتنا هذه الشروح والتلاخيص في ترجمات، عبرية ولاتينية، ولدى صدورها في القرن الثالث عشر، أصبحت أساسا للدراسات الفلسفية في مطلع العصور الحديثة،وقد عرف ابن رشد، في الأوساط اللاتينية بالشارح (commentator)وسماه الشاعر دانتي بالشارح الأكبر..(1)
انتصر ابن رشد للأرسطوطالية في وجه حملات علماء الكلام لا سيما الأشاعرة.. وفي كتبه الأصلية (فصل المقال ومناهج الأدلة، وتهافت التهافت) رسم الإطار الفلسفي للرد على علماء الكلام، وتصحيح التأويل الذي إختاره الفارابي، وابن سينا لفلسفة أرسطو، ووضع الأسس للتوفيق بين الحكمة والشريعة، فكان موقفه يهدف إلى وقف الصراع بين الفلسفة اليونانية والعقيدة الإسلامية، حيث تضاربت فيها الحلول، واختلطت المفاهيم واشتبه الأمرحتى على أعظم المفكرين..(2).
فالطريقة البرهانية ، التي إختارها إبن رشد تقضي باعتبار المعارف الشرعية مكملة للمعارف العقلية، وبأن الوحي متمم للعقل..
وضرورة الشريعة مرتبط بغرضها الاجتماعي الرفيع، فهي تنحو نحو تدبير الناس الذي به وجود الإنسان بما هو إنسان، وبلوغه سعادته الخاصة..
فالسعادة لا تنال إلا بالصنائع العملية، والفضائل الخلقية..
فالشرائع هي الصنائع الضرورية للمدينة، التي تؤخذ مبادئها من العقل والشرع، فالرسالة الدينية ضرورية لسعادة الإنسان.(3) .
فالعلاقة بين الدين والفلسفة تقوم على مبدأ منهجي واضح هو أن الحق يضاد الحق، بل يكمله ويشهد له..
إن المشروع الفلسفي والفكري لأبي رشد سطره في كتبه (كمنهاج الأدلة، وفصل المقال) وعلى أرائه، في سياق مناقشته وردوده على الغزالي في كتاب ( تهافت التهافت) ومشاركته عبارة عن مقولات منهجية في الفلسفة والفقه والطب..
وقد إمتاز إبن رشد بصدق الفهم، وجودة الإستيعاب والأمانة في التعلم، والتعليم، فكان شغله الأكبر، بالشرح والتحصيل، ولم يشغل نفسه بالابتداع والابتكار، وقد غلب عليه المنطق والبحث العلمي.(4)
من خلال هذه المنهجية أنصب إهتمام إبن رشد بالبحث عن طريقة منهجية تمكن من الجواب على ثلاثة اسئلة:
- مسألة شرح فلسفة أرسطو
- مسألة فهم القرآن، وتأويله
- مسألة العلاقة بين الدين والفلسفة
كان ابن رشد أعظم شراح أرسطو، وقد حظي باهتمام كبير في العصور الوسطى المسيحية، وكانت شروحه بمثابة عودة الأرسطية الأصلية ورد فعل ضد الأفلاطونية المحدثة..(5)
فمؤلفات إبن رشد الأرسطية، عبارة عن شروح وسطي وملخصات وجوامع..
و الشروح نوع أدبي غايته توضيح المعنى، واسهاب مركز حتى يسهل تمثله مثل شروح ابن باجة، وإبن رشد. ويسمى الشرح تفسيرا، إذا اتبع أسلوب تفسير القرآن، بحيث يفصل بين النص المشروح والنص الشارح..
والغاية من التفسير والتلخيص والجوامع، تجاوز الازدواجية الثقافية بين الوافد والموروث.. (6)
و ليس الشرح مجرد تكرار لفظ بلفظ أو عبارة بعبارة بل هو توحيد للفكر، فغاية إبن رشد في شروحه التحول من الأسلوب العربي المترجم إلى الأسلوب العربي المؤلف والبرهنة على صحة الافكار المشروحة، وذلك بوضع الجزء، في إطار الكل، والإحالة إلى الوافد أكثر من الإحالة إلى الموروث، وضبط المعنى الغير المتوازن.
وتخليص الأرسطية من التأويلات المسيحية اليونانية، والإسلامية، ومن الأقاويل الجدلية والخطابية وتحويلها إلى برهانية، من خلال إعادة صياغة الموضوع، واستئناف عملية التحول من النقل إلى الإبداع.. (7).
اضطلع ابن رشد بمهمة رفع قلق عبارة المترجمين، وتوضيح غموض أغراض أرسطو وهذا الغموض في حقيقة الأمر ناتج عن عدة عوامل منها: الترجمة الحرفية، والنقص في إمتلاك اللغة العربية والتكوين الفلسفي، وقوة المعتقد، لتؤدي إلى وضع لغوي معقد لا تفيد معه قواعد اللسان العربي، ولا أساليب الكتابة العربية، ويستحيل على العارف باللسان العربي وحده أن ينفذ إلى معمياته.. (8).
فركاكة التعبير تؤثر في مستوى التبليغ، الأمر الذي أحدث اضطرابا في الإدراك المباشر للنص، وضاعفت من الغموض الموجود فيه، أضف إلى ذلك الغموض الموجود، على المستوى التجريدي للنص الفلسفي، وهناك الغموض الذي يتسبب فيه المجال التداولي للقارئ العربي،الذي يحول دون تجاوبه مع النص (الوسائل العقدية وغيرها العاملة، في توجيه رؤيته الفكرية، وتربية عقله العلمي).
كيف واجه إبن رشد هذه الظواهر اللسانية المعقدة، وكيف استطاع أن يتغلب على قلق العبارة وعلى غموض الأغراض بأصنافه المختلفة ، تعبيري ودلالي واصطلاحي وتداولي وقرائي.
لا شك بأن ’’للتلخيص أو للتفسير’’ معنى خاصا بحيث لا ينتظر من ’’ التلخيص’’ أن يتخذ إحدى صورتيه، التقليديتين فيكون نقلا مركزا وأمينا لمضمون نص ما أو يكتفي بإبراز الأفكارالرئيسية للنص، وليس ينتظر من ’’التفسير’’ أن يكون مجرد شرح الالفاظ التقنية والغامضة، وتوضيح المقاصد الفلسفية للنص والتعليق عليها..
فمهمة ابن رشد ترمي إلى رفع قلق المصطلح، وقلق الجملة، من النص المترجم لذا فقد تتبع النص جملة جملة ونقله نقلا بحيث أعاد ترجمته أو صياغته بدرجة أسلم.. (9).
ليس التلخيص اذن مجرد تفسير للنص، وإنما هو عملية منهجية تعالج النص وتقوم اعوجاجه..
فإبن رشد في شروحه و تلاخيصه يعمد إلى تقويم لغة النص المترجم من الناحية الصرفية والنحوية وتقريبها من العربية السليمة، وحاول أن يرقى تلخيصه إلى مستوى التعريب، ويقرب مضامين النص تقريبا، اسلاميا..(10).
أما من حيث التفسير، فمنهج إبن رشد استئصال البناء الفلسفي الذي تكيفت فيه الفلسفة اليونانية، مع مقتضيات التداول الإسلامي، جاعلا المقولات الأرسطية الأكثر أصالة..
ولو أنعمنا النظر في لغة إبن رشد الفلسفية، وفي طبيعة تقويمه لقلق مصطلحات النص المترجم لوجدنا أنه يسلم بأفضلية المصطلح اليوناني وكلية مصطلحات الفلسفية الأرسطية.. (11).
والحق أن القلق العبارة لا يرجع فقط إلى الترجمة أو اللغة بل يرجع إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى كون ثوابت الفكر اليوناني تختلف عن ثوابت الفكر الإسلامي، والعبارة ينتابها القلق عندما يتعلق الأمر بنقل يمس مباشرة تلك الثوابت.. (12)
وقد تناول ابن رشد كتب الفلسفة، والطب بالتفسير والتيسير، وكان من دأبه أن يتناول الكتاب بالشرح المطول ثم الشرح الوسيط ثم بالإيجاز، وقد سرد ابن أبي صبيعة بعض أسماء هذه الشروح، ومنها تلخيص كتاب الطبيعة، وتلخيص الأخلاق وتلخيص كتاب البرهان، وكلها من فلسفة أرسطو، ولم يكن إبن رشد يعرف اليونانية ، ولكنه اعتمد على الترجمات التي نقلت، من المشرف إلى الأندلس .. (13)
وقد ضاعت أصول الكثير من شروح ابن رشد، وبقيت ترجماتها اللاتينية أوالعبرية، ومنها ما هو محفوظ في المكتبات الأوربية بنصه العربي مكتوبا بحروف عبرية...
ولإبن رشد فلسفتان الفلسفة الرشدية كما فهمها الأوربيون في القرون الوسطى ، وقد اعتمدوا على فهم فلسفته على شروحه لأرسطو، وتلخيصاته لبعض كتبه، ومهما يكن إعجاب ابن رشد بأرسطو، فإن آراءه فد لا تطابق أرسطو، في كل شيء ..، ثم أنهم اعتمدوا على النصوص المترجمة إلى اللاتينية والعبرية ولا تخلوا الترجمة من اختلاف..
أما فلسفة إبن رشد، كما يعتقدها، فالمعول عليها كتبه الأصلية ، كمنهاج الأدلة، وفصل المقال، وتهافت التهافت.
أبرزرينان (E. Renan) في كتابه ’’إبن رشد والرشدية’’، أثر إبن رشد في الفلسفة اليهودية وجعل لليهود الأثر الأكبر في حفظ تراث الرشدية وفي نقله إلى أوربا المسيحية.. والحق أن اليهود تأثروا بإبن رشد، وإن لم يكن بالصورة الضخمة التي سجلها رينان في كتابه .. (14)
وكتاب رينان (15) عبارة عن عرض تاريخي لحياة إبن رشد ومذهبه وما عرفته الرشدية من تطور وتأثيره في الاتجاهات الفكرية في أوربا خلال القرون الوسطى .
ويرى رينان بأن العرب لم يصنعوا شيئا سوى أنهم تلقوا المعارف اليونانية في القرنين السابع والثامن، وأنهم اتخذوا من تفسير آراء ارسطو، وسيلة لإنشاء فلسفة مخالفة لما كان يدرس عند اليونان، ويضيف بان الحركة الفلسفية الحقيقية يجب أن تلتمس في مذاهب المتكلمين..
أما سلامون مونك ( s. munk) فيرى بأن اختيار المسلمين لأرسطو من بين الفلاسفة يعود إلى أن منهجه التجريبي أدنى إلى موافقة مثل العرب العلمي والوضعي من منهج أفلاطون المثالي ولأن منطق أرسطو يعتبر سلاحا مجديا في المنازعات بين أهل المذاهب الكلامية... (16)
وقد اشتهر ابن رشد بين اللاتين بكونه طبيبا ، وشارحا لأرسطو ، بيد أن شهرته شارحا غلبت على شهرته كطبيب..
وإبن رشد هو الذي أعطى لهذا النوع الأدبي مكانته ، حتى أنه اشتهر به باعتباره الشارح العظيم ( gloire du commentateur) .
فقد أعاد كتابة أعمال ارسطو، في المنطق والطبيعة، وما وراء الطبيعة وتتبع فكر أرسطو في المقولات، وقام بتلخيص القياس، والبرهان والشعر من أجل الوصول إلى قوانين الشعر..
فهو صاحب الجوامع، في المنطق والجدل، والخطابة والشعر..
يحيل إلى مؤلفات ارسطو المنطقية رادا الجزء إلى الكل...
وفي الضروري ، في السياسة أو جوامع السياسة لأفلاطون حاول وضع نظرية في السياسة من خلال ربط علم الأخلاق، بالسياسة ، فهو يرى بأن الحرية هي جوهر العمل الأخلاقي وشرطه الضروري فالحرية تعني القدرة على الاختيار، والمفاضلة بين الأفعال كما تعني شعور الفرد بقيمته وأهليته لتحمل نتائج أفعاله، فمن الطبيعي أن يكون الإنسان مسؤولا عن أفعاله والمسؤولية تستتبع الجزاء..
فكان ينشد الإصلاح..في الحكم والسياسة، كما نشدها في العقيدة والفلسفة.. (17)
فرسالته العلمية ترمي إلى تصحيح العلاقة بين العقيدة والفلسفة ..، فلم يكن ينشر المعرفة بفهم ثاقب، وبروح نقدية واتجاه عقلاني أصيل فحسب، بل كان ينزع نحو التغيير، والإصلاح والتجديد، من أجل إعادة بناء الفكر والثقافة في عصره، وذلك بإعادة تأصيل الأصول، في كل مجالات الثقافة العربية الإسلامية: في العقيدة والشريعة ، والفلسفة والطب والعلم واللغة والسياسة... (18)
ففي كتبه الأصلية: (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وتهافت التهافت والضروري في أصول الفقه..) فقدأكد بأنه يريد تصحيح عقائد الشريعة مما دخلها ، من تغيير، والرجوع بها إلى قانون التأويل بين ما يجب تأويله، وما يجوز وما لا يجوز تأويله، وكيف..؟
فمؤلفاته الأصلية تتناول قضايا من صميم الفكر الإسلامي كالاجتهاد في الفقه وتصحيح العقيدة (في علم الكلام) وتصحيح وضع الفلسفة ، في الفكر العربي الإسلامي وإعادة ترتيب العلاقة بين الدين والفلسفة .. (19)
فأبن رشد الفقيه كان متعدد التخصصات، يتصرف من منطلق وحدة الحقيقة، وتكامل المعرفة أو تطابق العقل بالوجود، ومن هنا كانت الحقيقة عنده، وكان العلم وكان البرهان في المطابقة مع الوجود... (20).
فالنظر في العلوم العقلية يستوجب أمرين: ذكاء الفطرة والأمانة العلمية، وهي الخصال الضرورية في من يريد النظر في كتب الشريعة ، ذلك أن صناعتهم (الفقهاء) إنما تقضي بالذات الفضيلة العملية التي أساسها الفضيلة العلمية و الفضيلة الخلقية، فلا بد أن يتطابق سلوك العالم مع قناعاته فالوجود البشري تحكمه قيمة عليا توزن بها الأعمال هي الخير’’ فالفضيلة الخلقية هي التي تجسد هذه القيمة وتطبع وجود الفرد ... (21).
ويقول في فصل المقال بأن مقصود الشرع هو تعليم العلم الحق والعلم الحق هو معرفة الله تعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه، وأن العمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء.
والمعرفة بهذه الأفعال هو الذي يسمى العلم العملي.
والحكمة تطلب إما ليعمل بها، وإما تعلم فقط ( علمي وعملي) والعملي عمل الخير، والعلمي علم الحق..
وبهذا تتشابه غاية الدين وغاية السياسة فكلاهما يرمي إلى تحقيق السعادة من طريق الاعتقاد وعمل الخير...(22)
كانت الفضيلة تمثل مجمل فلسفته، ابن رشد لأنها تمثل وجها من وجوه الكمال الإنساني، وخصوصا إذا تمثلت في الإنسان والمدينة ...(23).
فالفضيلة هي لب المنهج الذي يجمع بين المنقول والمعقول بحيث أصبحتمعرفة المنقول شرطا ضروريا لاكتساب الشرعية للخوض في العلوم الفلسفية...
ويقول ابن خلدون بهذا الصدد، بأنه لا بد للناظر فيها ( الفلسفة) أن يكون متبحرا بعلوم الشريعة، ومطلعا على التفسير والفقه (24).
لقد اتسمت الثقافة الفقهية في الغرب الإسلامي بطغيان علم الفروع، دون الأصول، وتولد عن هذا الوضع انشغال الفقهاء بالجزئيات، دون التفات يذكر إلى تقرير الأدلة، وبيان المدارك الفقهية ، كما شاب تقرير جمهرتهم الكثير من التداخل والخلط .. فرأى ابن رشد أن تناول الفقه بتلك الطريقة، قد أدى إلى عزل الفقه عن أصوله ومصادره وأن العناية بتناول ’’الفقه’’ بتلك الطرق، قد صار جزءا من عوامل تعطيل ملكة الاجتهاد، فكتب ’’بداية المجتهد’’ ونهاية المقتصد’’ بمنهج ’’الفيلسوف الفقيه’’ الذي يعمل على لفت أنظار الفقهاء إلى ’’ فلسفة الفقه’’ لعل ذلك يؤثر في تعاملهم مع مسائل الفقه، وأدلته ، لذلك ركز على اسباب الاختلاف منبها إلى زوايا النظر في الأدلة كما أبدى اهتماما خاصا بالأحكام الفقهية المعللة، بالمصالح والمفاسد، لأن هذين الجانبين هما الذي يستطيع أن يبرز فيه فلسفته الفقهية .. (25).
فعلم الفروع كان مطبوعا، بطابع الاتباعية والتقليد، ومن النتائج المتولدة عن هذا الوضع أن العامة من الناس تتوهم أن المفتين الحافظين للفروع هم ’’ العلماء وأن علمهم هو العلم الحق محولين سنده المذهبي إلى سند ’’مقدس’’ رابطين علم الفروع الذي مهروا فيه بالأصول التي جهلوا ، لقد تحول الطابع العلمي المحض علوما حقة، جعلت حامليها ’’علماء’’ سرعان ما تحولوا إلى سلطة فعلية، ترعى التقليد، وتخشى التغيير، وتؤسس ذلك على شرعية، وسندها سندا خبريا إلى الرسول (ص) وإلى الوحي مباشرة .(26)
وغني عن البيان بأن شر القرون ما طوي فيها بساط الاجتهاد، وانقطع فيه سير الأفكار وانحسم باب المكاشفات، وانسد طريق المشاهدات... (27).
ضمن هذا السياق، يندرج نقد إبن رشد للفقهاء الأشاعرة المتكلمين، أو لظاهرة هيمنة التقليد في الفقه والعقيدة..، وما ترتب عنها، من جمود وانحراف، اللذين سيركز عليهما ابن تومرت في حركته الإصلاحية، داعيا إلى ترك التقليد والرجوع إلى الأصول..
كان العلماء في عصر المرابطين، في نظر ابن تومرت قد اعتمدوا على قياس الشاهد على الغائب فأوقعوا أنفسهم، في التشبيه والتجسيم على مستوى العقيدة، كما كرسوا التقليد على مستوى الشريعة، بوضعهم الفروع مكان الأصول..
ويقول ابن تومرت بهذا الصدد بأن الحكم الشرعي، لا يثبت إلا بالعلم، وأن التماس المعاني بالتخمين من غير التحقيق ولا التفات إلى الأصول التي تبنى عليها، يزل عن منهاج الحق، ويضيف بأن الأصل يثبت به الحكم والإمارة أو العلة يثبت عندها الحكم. ويريد من خلال نقده العلة الفقهية أن ينسف القياس الفقهي تماما، فإذا بطل الشبه بطل به التشبيه، وبطل به قياس الغائب على الشاهد (28).
ومما يلفت النظر أن إبن رشد يشاطر ابن تومرت موقفه في نقد القياس في مجالات اللغة، والكلام والفقه..
وذهب إبن رشد إلى القول بأن الفقهاء يقدمون أشياء لم ينقل فيها عن مقلديهم، حكم، فيجعلون أصلا ما ليس ، بأصل ويصيرون آراء المجتهدين أصولا لاجتهادهم، مما يوقعهم في الخطأ نتيجة جهلهم، بالطرق البرهانية وعدم معرفتهم بأنواع البراهين وشروطها وبماذا يخالف القياس البرهاني القياس الجدلي، والقياس الخطابي، وهذا لا يمكن إلا إذا عرف أجزاء القياس التي منها تركب أي (المقدمات وأنواعها) .
وهنا لا بد من التذكير، بأن المنهج الذي شيد بواسطته علماء الإسلام مختلف العلوم العربية الإسلامية (النحو ، واللغة والفقه والكلام...) هذا المنهج هو ’’القياس’’ باصطلاح النحاة والأصوليين والاستدلال بالشاهد على الغائب’’ باصطلاح المتكلمين وتكاد تنحصر آلية هذا القياس في البحث عن قيمة ثالثة تكون جسرا بين الشاهد والغائب أو بين حكم المعلوم وحكم المجهول، هذا الجسر هو الذي يسميه النحاة ب’’العلة’’ ويسميه المتكلمون ب’’ البديل’’ ويناظر الحد الأوسط، في القياس الأرسطي.
فالمنطق الإسلامي لا يبحث عن النتيجة، كما هو الشأن في القياس الأرسطي بل هدفه البحث عن الحد الأوسط لأن النتيجة معطاة سلفا، وهي الحكم الشرعي (29).
ولا بد من إمعان النظر في إشكالية وتوظيف القياس التمثيلي وذلك ببيان القيمة المنهجية التي تنطوي عليها آلية القياس التمثيلي في إنشاء المعرفة وفي تداولها، وتطويرها ضد الطعون الموجهة للقياس من طرف دعاة الطرق البرهانية..
فقد أبانت الدراسات المعاصرة في المنطق، واللسانيات، حدود تلك الطعون لبعد أصحابها عن الشمول وإغفالهم المقايسة، وآلية التمثيل، في العقلالإنساني..
وقد أكد المعتزلة بأن طرق الأدلة، لا تختلف غائبا وشاهدا وأن الدليل (أيا كان) هو ما إذا نظر الناظر، فيه أوصله إلى العلم بالغير، الأمر الذي يستلزم القول بأن إنشاء المعرفة الإنسانية ونموها قائمان أساسا على قياس تمثيل أو قياس المجهول على المعلوم مما يعني أن هذا القياس يفترض الانطلاق من حصيلة معرفية تتخذ نماذج أو ’’شواهد مثلى’’ يقاس عليها الموضوع بمختلف ضروب المقايسة لتحصيل معرفة به ( 30).
والخلاصة أن الصورة التي اتخذها القياس في العلوم الإسلامية سواء عند الأصوليين أو المتكلمين تظل واحدة قائمة على آلية المقايسة، اعتبارا لما بين الطرفين، المتقايسين، من المشابهة والمشاكلة، بمعنى وجود علاقة منطقية جامعة بين الأصل والفرع، مما يعني الخروج من اللفظ إلى معناه ومضمونه التداولي، ثم إلى تحقيق مقصده العملي، في الواقع المعيش، بحيث أن أغلب عادات الشرع من غير العبادات، اتباع المناسبات والمصالح دون التحكمات الجامدة.
إن القياس التمثيلي ما هو إلا آلية عقلية القصد منها، تبرير المطابقة أي المشابهة والمخالفة فآلية التمثل تنطوي على وظائف الإنشاء والتبرير، والتداول بهدف تحقيق ’’تكيف’’ على مستوى المعرفة ثم على مستوى السلوك والممارسة(31).
إن ما ذكره إبن رشد في بداية المجتهد من مسائل الأحكام المتفق عليها أو المختلف فيها بأدلتها وما يجري مجرى الأصول والقواعد من تلك الأسباب، التي يستند إليها المجتهد في استنباط أحكام المسائل المسكوت عنها في الشرع لا يختلف عن مقاصد الأصوليين والمتكلمين، من خلال توظيف القياس التمثيلي..
ومن ثم فإن القضية المطروحة ليست قضية ’’ منهج’’ بل المسألة أعمق، وأبعد، إنها قضية ومنهج بل المسألة أعمق وأبعد، إنها قضية ’’ منهج’’ أي العقائد التي يجب أن يحمل الجمهور عليها. بل الناس جميعا- وبالتالي قضية الدين والمجتمع (32).
ولعل الغاية من توجيه النقد إلى الأشاعرة والمتكلمين كان ضمن مخطط لدعم وترسيم مذهب الموحدين الذي وضعه أمامهم ( محمد بن تومرت ( 485-524ه).
وهو خليط من الأشعرية والاعتزال والتشيع مع تأثر واضح بمذهب ابن حزم ( 384-456هـ) وهو مذهب فقهي يعتمد الظاهر من النصوص والرجوع إلى الأصول ضد قياسات فقهاء المذاهب..
ومن الملاحظ أن المذهب الأشعري لم يكن مستساغا، من فقهاء البلاط الأندلسي كانوا سنيين في العقيدة ، أقرب إلى الظاهر، كما أن كبار فلاسفة الأندلس (ابن باجة وابن طفيل وإبن رشد) كانوا من أنصار الموحدين..
ولا مراء بأن وراء هذا كله دوافع سياسية، بالدرجة الأولى تتجلى بعض مظاهرها في الصراع الثقافي والسياسي بين المشرق والمغرب..
ومن المسلم به أن المذهب، سواء كان دينيا أو فلسفيا ينتشر بقوة السلطان السياسي، فوق قوة الدعوة ثم إنه يصبح شاغل الدول، يستطلعون كنهه. ويستبطنون ما وراءه، فالدولة الموحدية كانت مركز مناظرة في الثقافة والسياسة ومرجعية مذهبية ومعرفية، في الغرب الإسلامي..
وقد ساهم إبن رشد بمشروعه الفكري في الزخم الذي شهدته الحركة الثقافية في عصر الموحدين، كما أن فكره يعكس أوجه الصراع المذهبي والسياسي والدعوة إلى التغيير والتجديد ..
يتحكم التجديد الفلسفي في فكر إبن رشد كله( المتكلم والطبيب والفيلسوف والأصولي واللغوي)، فهو فقيه ظاهري في بداية المجتهد، أما في مناهج الأدلة فإنه يقارن بين أدلة الأشاعرة وأدلة المعتزلة لكي يعرف أي الفريقين أحق بالبرهان، وفي تهافت التهافت فيقارن بين أدلة الغزالي وأدلة الفلاسفة في محاولتهم فهم العقائد فهما، فلسفيا، خالصا كما تجلت روح الفيلسوف الفقيه، في فصل المقال، الذي يعرض فيه للصلة بين الحكمة والشريعة أي بين الفلسفة والدين في صيغة إجابة على سؤال هل الفلسفة واجبة بالشرع أم محظورة طبقا لأحكام التكليف الخمسة؟(33)
وتتجلى ، نفس الروح، في الشروح والتلخيصات عندما يقارن بين التأويلات المختلفة للشراح، منتهيا إلى التأويل الصحيح.
فغايته من البحث عن الحقيقة الواحدة، عن الأصل الذي منه الفروع، وعن المنطوق به الذي يحال إليه المسكوت عنه..
وما يريد الوصول إليه هو رد الفروع إلى أصولها ومقارنة الأدلة بينها لمعرفة الصواب وإصدار الحكم ( 34).
كان هدفه ايقاف التقليد والحث على الاجتهاد، وشروط الاجتهاد كما بينها في كتاب ( بداية المجتهد) إثنان:
- العلم باللغة العربية
- العلم بأصول الفقه
الاجتهاد هوالآلة التي بها يستطيع الفقيه استنباط الأحكام من أصحاب المذاهب والاجتهاد هو منطق الاستدلال ولا يحتاج إلى منطق آخر. (35)
والخلاصة أن الرشدية تتجلى في روح النقد، واستعمال العقل، والحوار مع الآخر، ونبذ التقليد والدعوة إلى الاجتهاد..
فهو القاضي العالم الذي يبحث عن الحق.
فالقاضي يوزن الموازين بالقسط، وكذلك العالم مهمته اكتشاف القانون الذي يتحكم في حركة الظواهر.
والنظر واجب شرعي والقياس أصل من أصول الأحكام..
والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
الرشدية إذن توصيف لعقل الشارح الأمين، ومذهبه وروحه السارية في تاريخ الفكر الإنساني.
وقد بلغ قصارى أثره، وغاية قدره إنه أثر كبير وقدر عظيم.(36)
لقد حاولنا في هذا العرض أن نلم ببعض الأطروحات الفكرية الخصبة لهذا الشارح العظيم من غير مدافع...
كان فيلسوف قرطبة ابرز رواد الفكر العقلي في الحضارة العربية الإسلامية وكانت محاولته التوفيق بين نواميس الحكمة وأصول العقائد التي جاءت بها الأديان من أنضج ما قدمه الفلاسفة في هذا المضمار مما يدل على فكره الخلاق الذي ربط بين الحكمة والشريعة بأواصر الأخوة والصحبة، فلا عقل بدون نقل، ولا نقل بدون عقل..
وقد انحاز إلى صف الفلاسفة الحكماء معتبرا أن طريق البرهان هو السبيل الأمثل الذي يوصل إلى الحقيقة..
ولإبن رشد عدة أبعاد ومشارب فكرية ، مما يسمح بقراءات متعددة فهو ظاهري يؤول طبقا لظاهر النص، وهو مالكي يقول بالمصالح المرسلة وهو عقلاني نصي يعتمد على العقل، ويحتكم إلى النص في آن واحد وهو شارح ومؤلف يعلق على النصوص ويبدع نصوصا، وهو فيلسوف ومتكلم يدافع عن الفلسفة وهو معتزلي أشعري، فالعقل عنده أساس النقل والنقل أساس العقل... (37)
إن الدرس الذي يقدمه المشروع الرشدي للحياة الفكرية العربية والإسلامية يكمن في ضرورة التزود بالقدرة والإرادة على التصحيح والتجديد من منطلق وحدة الحقيقة وتكامل المعرفة، من أجل بناء ثقافة مؤثرة في مجتمعها وفاعلة في عصرها، والسعي الدؤوب نحو لذة المعرفة والاكتشاف..
فالثقافة الحية في عالم متغير يشهد تحولات كبرى في مجالات الافكار والمذاهب او في المجالالسياسي والحضاري تتطلب الرؤية الواضحة للاشياء والقدرة على هضم العناصر الوافدة، واستيعابها بشكل لا يتناقض جوهريا مع مكوناتها وخصائصها و مقوماتها ومسلماتها..المستمدة من تاريخها وحضارتها ..
الهوامش:
1- ماجد فاخوري، ابن رشد فيلسوف قرطبة، دار المشرق بيروت
2- المرجع السابق ص 4.
3- نفس المرجع ص 6.
4- عباس محمود العقاد، ابن رشد ، نوابغ الفكر العربي/ دار المعارف بيروت ص 58.
5- د/ زينب محمود الخضيري/ أثر بن رشد في فلسفة العصور الوسطى دار التنوير / ط1/2007/ ص7.
6- د/ حسن حنفي، حصار الزمن الماضي والمستقبل / مركز الكتاب للنشر ط1-2006 انظر فصل ارسطو وشراحه ص 508.
7- نفس المصدر ص 509.
8- طه عبد الرحمن ، حول لغة ابن رشد الفلسفية في ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي ، سلسلة ندوات، ومناظرات رقم 175 كلية الآداب الرباط ط2 ص 193.
9- نفس المصدر ص 195.
10- نفس المصدر ص 196.
11- نفس المصدر ص 202.
12- محمد عابد الجابري، نفس المصدر ص252.
13- عباس محمود العقاد، مصدر سابق، ص 27.
14- د/ زينب محمود الخضيري مصدر سابق، ص 8.
15- Ernest RENAN/ averroes et l’averroisme / Ed maison neuve larose -2002/préface d’alain de libera.
ابن رشد والرشدية / ترجمة عادل زعيتر/ مكتبة الثقافة الدينية ط 1 /2008.
16- الشيخ مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية المكتبة الثقافية ط2 /2007، ص19.
17- زينب عفيفي ، الفكر السياسي الإسلامي مفكروالإسلام ومشروعاتهم / مكتبة الثقافة الدينية / ط 1 /2011 / ص205.
18- محمد عابد الجابري، مواقف عدد 26 ابريل 2006 ص8.
19- محمد عابد الجابري، ابن رشد سيرة وفكر ط2 /2011/ ص10.
20- المصدر السابق ص 14.
21- المصدر السابق، ص 15.
22- الشيخ مصطفى عبد الرزاق مصدر سابق، ص 84.
23- جوامع سياسة أفلاطون ( الضروري في السياسة ) لابن رشد نقله من العبرية إلى العربية أحمد شحلان ط2 /2014/ ص31.
24- ابن رشد سيرة فكر، مصدر سابق، ص 33.
25- د/ طه جابر العلواني/ابن رشد الحفيد الفقيه الفيلسوف / دار السلام / ط1/2010/ ص15.
26- عبد المجيد الصغير، تجليات الفكر المغربي / شركة والتوزيع المدارس ط 1/2000 ص 15.
27- مصطفى الطبطبائي، المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني ترجمة عبد الرحيم ملازي البلوشي / ص8.
28- د/ محمد عابد الجابري ، انظر مدخل ومقدمة الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة لابن رشد ، نشر مركز دراسات الوحدة العربية ط 1/1998/ ص43-44.
29- ج/ علي أومليل في ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي – مصدر سبق ذكره- ص 106.
30- عبد المجيد الصغير، الخطاب الإصلاحي العربي بين منطق السياسة وقيم الفكر/ دار رؤية / ط-1/2011 ص 11.
31- المصدر السابق، ص 14-15.
32- محمد عابد الجابري / مدخل ومقدمة الكشف عن مناهج الأدلة...مصدر سابق ص 68.
33- د/ حسين حنفي ، مصدر سبق ذكره ص 587.
34- المصدر السابق ص588.
35- المصدر السابق، ص 589.
36- عباس محمود العقاد ابن رشد ص 59.
37- د/ حسن حنفي ، مصدر سبق ذكره ص 684.