أ. مروة يوسف عاشور
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
أنا كنتُ داعية إلى الله، يشهد بجهودي القاصي والداني، ولطالما نصحتُ وحذَّرتُ الفتياتِ من السقوط في الذنوب والمعاصي، ولوهلة من الزمن فترتْ همتي، واعتزلتُ الناس، واقتصرت على صداقات معينة؛ لأسباب نفسية واجتماعية؛ لكني كنت مع ذلك محافظة، حتى أتى اليومُ الذي وقعت في أمر جلَلٍ لم أكن أتخيل حتى في أحلامي الوقوع فيه، وهأنا بعد فترة تائبة وبصدقٍ منه، هل أستطيع العودة لدعوتي وما كنت عليه من نشاط؟ فهناك شعور يقول لي دائمًا: انظروا من يتكلم ويعظ! ذنبي كبير جدًّا، أرشدوني وفقتم للخير؛ فظروفي النفسية سيئة جدًّا.
الجواب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكِ الله أختي الداعية وأزال عنك كل بأس، وجعلكِ مفتاحًا للخير، مغلاقًا للشر، ووفقك وأعانك على فعل الخيرات، والبعد عن المنكرات، آمين.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((إن عبدًا أصاب ذنبًا - وربما قال: أذنب ذنبًا - فقال: ربِّ أذنبت - وربما قال: أصبت - فاغفرْ لي، فقال ربُّه: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنبَ ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا، أو أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت، أو أصبت آخر فاغفره، فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا - وربما قال: أصاب ذنبًا - قال: قال: رب أصبت، أو أذنبت آخر فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثلاثًا، فليعمل ما شاء))؛ رواه البخاري.
هذا بشرط ماذا؟
صدْق التوبة، ولا يخفى عليكِ أيتها الداعية المباركة أن صدْق التوبة يستلزم العزمَ الصادق والأكيد على عدم العود.
وفي ’’صحيح مسلم’’ أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)).
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((قال الله - تعالى -: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغتْ ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، لو أتيتَني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة))؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.
وقال الله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]، ما جزاء المؤمن الصادق إذا ما وقع في الفاحشة وظلَم نفسه، ثم أقبل على ربِّه ومولاه بتوبة نصوح؟ جاءت الإجابة بعدها مباشرة، فتأملي رحمة الله: ﴿ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾} [آل عمران: 136]!
الله - تعالى - أرحم بنا من أمهاتنا؛ ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156].
أين أنتِ من هذه الأدلة الصريحة؟
أين أنتِ من هذه الرحمة الواسعة؟
أين أنتِ من الأسحار؟
ورد في ’’صحيح مسلم’’ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله - تبارك وتعالى - إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائلٍ يُعطى؟ هل من داعٍ يُستجاب له؟ هل من مستغفر يُغفَر له؟ حتى ينفجر الصبح)).
تقولين: ’’هناك شعور يقول لي دائمًا: انظروا من يتكلم ويعظ!’’.
هذا ليس شعوركِ؛ إنما نداء الشيطان، يريد أن يدخل لك من أقوى وأشد المداخل، يريد أن يلج إليك من باب القنوط، وبئس المدخل! قَالَ ﴿ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56]، عصمكِ الله من الضلال.
فتنبَّهي حفظكِ الله، وكوني متيقظة لمداخله الخبيثة، ووساوسه الدنيئة.
تقولين: ’’ولوهلة من الزمن فترتْ همتي، واعتزلتُ الناس، واقتصرت على صداقات معينة؛ لأسباب نفسية واجتماعية’’.
في الحديث: ((لكل عمل شِرَّةٌ، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سُنتي، فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك، فقد هَلَكَ))؛ رواه ابن حبان وصححه الألباني.
يدخل بعض الدعاة أو الداعيات إلى عالم الدعوة باندفاعٍ وحرارة زائدة، فيبقى ما شاء الله له أن يبقى على تلك الحالة؛ يجاهد بالكلام، ويدعو الناس، ويُرغِّبهم ويرهِّبهم، ثم تملُّ نفسه مما حمَّلها وكلفها، فيركن إلى الهدوء ويطلب الراحة، ولو أنصف لاعتدل في دعوته وفي ركونه.
والله - تعالى - لا يحمّلنا ما لا نطيق؛ ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286].
ولعلكِ حملتِ نفسك أكبرَ مما تطيق، واحتملتِ همَّ الدعوة وحدك، وقد أثبتت التجارِب أن الفتور والسأم - بوجه عام - يصيب الفرادى أكثر مما يصيب المجموعات، ثم اقتصرتِ على بعض الصداقات، وليس في ذلك أي بأس، لكن ما نوع تلك الصداقات؟
لا بد أن يحيط الإنسان نفسَه برفقةٍ طيبة؛ تؤازره وتنصحه، وتذكِّره إذا نسي، وتقويه متى ما ضعف وفتر.
فلا مانع من الاقتصار على بعض الصداقات، وإنما يتحرى الإنسان نوعَ الصداقة، ويتخير الصديق الصدوق، ثم ما المانع من الاستمرار في الدعوة وقتها؟ دعوة أهلك ومن حولك، ودعوة تلك الرفقة التي اقتصرتِ عليها.
أختي الداعية:
يقول بعض الحكماء: ’’ربّ معصية أورثتْ ذلاًّ وانكسارًا، خير من طاعة أورثتْ عزًّا واستكبارًا’’.
وكم أرى من حال بعض الدعاة وقد علاهم الكبر، وأحاطت بأعناقهم أسوار التعالي على عباد الله، حتى ما يرون على الأرض خيرًا منهم!
والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((لا يدخل الجنةَ من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))؛ رواه مسلم.
فانظري إلى ما أحدثتْه تلك المعصيةُ في نفسك من ذلٍّ لله - تعالى - وخضوع وانكسار بين يديه، واحمدي الله أنْ قد بصَّرك بذنبك، وخلَّصك منه، وستر عليك بستره الجميل.
وأقبلي على الله بنفس مطمئنة، وقلب تائب، قد غسلتِه بدموع الندم والتذلُّل لمالك الملك، وثقي أن الله - تعالى - يحب العبد التائب ويفرح بتوبته، كما جاء فيما رواه أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لَلهُ أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة))؛ رواه البخاري.
وعلى هذا فالإجابة على سؤالك: ’’هل أستطيع العودة لدعوتي وما كنت عليه من نشاط؟’’:
هي بكل تأكيد:
(لا).
ستعودين أكثر نشاطًا، وأشد حماسةً، وأصدق قلبًا، وأقوى يقينًا مما كنتِ عليه؛ فليس التائب كغيره من الناس، والتوبة لها لذَّة في القلب تورث أُنسًا بالله، وشعورًا بالراحة والسعادة لا يضاهيه شعور، ولعلك تتفهمين ما أعني، ويستشعر قلبُك كلَّ كلمة أقولها لكِ، فسيري أيتها الداعية المباركة وأحسني الظن بربك، وإياك والاستجابةَ لوساوس الشيطان، وتذكَّري أن من نِعَم الله عليكِ أنك ستكونين الآن أكثر تعاطفًا مع من تقومين بدعوتهم، وأرق قلبًا من السابق، وأشد تفهمًا لنفسياتهم؛ مما قد يجعل دعوتك أكثر تقبُّلاًَ عندهم، هيا انطلقي إلى أنبل الأهداف وأعظمها، واللهَ أسأل أن يجعلك من الذين قال فيهم رسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فواللهِ لأنْ يهدي بك الله رجلاً واحدًا خيرٌ لك من أن يكون لك حمر النعم))؛ متفق عليه.
وفقكِ الله ورزقكِ القبول والإخلاص، وأعانك على فعل الخير، و(الألوكة) تسعد بالتواصل معك في كل وقت، فلا تترددي في مراسلتنا.