حرمة دم المسلم والمؤَمَّن
جاءت الشريعة لحفظ المصالح وتفويت المفاسد، ويكون جرم الذنب واستعظامه على حسب ما يقع به من مفاسد وأضرار، وما يترتب عليه من تضييع مصالح ومنافع. والمصالح نوعان: كلية وجزئية، ومن المصالح الجزئية الحفاظ على حياة المسلم، فلا تزهق بغير حق، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة) [متفق عليه، رواه البخاري، (6370)، ومسلم، (3175)]. لذلك لا يُعرف ـ في أصول الشريعة الإسلامية ـ من المصالح أو المقاصد الجزئية التي يجب مراعاتها والحفاظ عليها بعد حفظ الدين مثل: مصلحة حفظ بنيان الإنسان المسلم، وعدم إزهاق روحه من غير حق، وكذلك لا تعرف مفسدة جزئية في تشريع الإسلام أشد من قتل النفس التي حرم الله من غير حق. فيكون قد اجتمع في هذا الفعل الأمران: تفويت أعظم مصلحة جزئية، وجلب أشد مفسدة جزئية؛ لذلك يبلغ الفعل الذورة في الظلم والجناية؛ لذا قال ابن حجر: (وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك) [فتح الباري، ابن حجر، (18/380)]. وقد تكاثرت النصوص لتأكيد هذه الحقيقة، وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ولا يتصور الجهل فيه، ولذلك يجب الضرب بيدٍ من حديد على فاعل هذا الفعل بتطبيق حكم الله فيه، وليشهد عذابه الناس، ليردع كل من تُسوِّل له نفسه بذلك، وفى الوقت ذاته يجب معالجة الأسباب التي تقود بعض الناس إلى هذه الجرائم. فإن هناك خطأً جسيمًا يرتكبه بعض مَنْ يُعالج القضية، وبيانه: أنه في أكثر الظروف تُعالج الأعراض والظواهر، وتترك الأسباب التي أفضت إلى ظهور المرض. ،فلا يقدم إلا مسكنات في حلوله، وإن كانت قاسية في أكثر الأحايين، وتظل الفتنة مستورة، متى أُتيحت الفرصة لظهورها مرة أخرى في ظروف ملائمة لظهرت بصورة أشد؛ لأن المتعرض لمناقشة الموضوع لم يعالج أسباب المشكلة معالجة موضوعية، واكتفى بمحاولة ردع الجاني أو مَنْ حامت حوله شبه الجناية، وإن لم يكن جانيًا، والتاريخ السياسي المعاصر زاخرٌ بكثيرٍ من الأحداث التي تحتاج إلى إعادة نظر من هذه الناحية.
وإنه يجب ألا نغض الطرف عن الحقائق، فندُس رءوسنا في الرمال، وبقية الجسد الكبير ظاهر للعيان، ظانين أننا أصبحنا في مأمن؛ فالأمن يتحقق بعلاج أسباب عدمه، وتوفير أسبابه.
ثم أقول: لقد عظَّمت الشريعة حق الدماء، وغلَّظت عقوبتها، حتى يُردع هؤلاء الآثمون عن هذه الأعمال ، وكيف أن الإسلام قد شدَّد في حفظ الدماء المعصومة إلا بحقها، وأهمها على الإطلاق حرمة دم المسلم، وهذه الحقيقة لا يجهلها آحاد المسلمين، لكن نؤكد ذلك حتى لا يورط المسلم نفسه في مثل هذه الأعمال الإجرامية:
(1) قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
وأنا لمْ أجد ـ فيما أعلم ـ من جرائم العقوبات جريمة شدَّد عليها القرآن كما هو الحال في جريمة قتل المؤمن بغير حق، إذ جعل الله له جهنم، وجعل له خلودًا وإن لم يكن أبديَّا ما لم يكن مستحلًّا، وعمَّه الله بغضبه، وأعد له عذابًا وصفه بأنه عظيم، ولا يمكن لمسلم عنده مسحة من عقل أن يغفل عن كل هذه العقوبات، ويسقط في تلك المخازي.
(2) وقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم ذلك كفرًا؛ فقال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) [متفق عليه، رواه البخاري، (46)، ومسلم، (97)]، وليس شيء أشد من معصية سمَّاها الرسول صلى الله عليه وسلم كفرًا.
(3) قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ... فليبلغ الشاهد الغائب) [متفق عليه، رواه البخاري، (1623)، ومسلم، (3180)].
(4) قوله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) [رواه مسلم، (4650)].
(5) قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) [رواه مسلم، (3178)].
وإذا أدرك المسلم هذه الحقيقة حَذِر التفكير في هذه الجريمة؛ لأنه إذا كان أول ما يُسأل عنه من حقوق بني آدم (الدماء)، ثم يورِّط نفسه فيها، فقد عرَّضها للمخاطر، وعرَّض دنيه ـ ومن قبل حياته ـ للشك والتهمة.
وقد رأيت الحافظ ابن حجر يقول تعليقًا على الحديث السابق: (وفى الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك) [فتح الباري، ابن حجر، (18/380)].
(6) لذا قال عليه الصلاة والسلام: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) [رواه الترمذي، (1315)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (1359)].
(7) وحرمة دم المسلم أجلُّ عند الله من حرمة الكعبة شرَّفها الله، فقد نظر ابنُ عمر يومًا إلى الكعبة، فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) [رواه الترمذي، (1955)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2032)].
(8) وليس هناك ذنب متعلق بحقوق الآدميين مثل الدماء، قال صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا) [رواه البخاري، (6355)].
(9) ومن تعظيم حرمة دم المسلم وتغليظ العقوبة، أنه لو اجتمع عشرة أو مائة أو ألف على قتل رجل متعمدين لعُذِّبوا به جميعًا، قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن؛ لأكبهم الله في النار) [رواه الترمذي، (1318)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (1398)].
وبعد هذه النصوص التي تجرِّم قتل المسلم بغير حق، يجب على كل مسلم أن يعلم حقيقة أخرى، وهي: ليست حرمة الدماء في شريعة الإسلام مقصورة على أهل الإسلام، بل إن هناك طوائف عديدة من غير المسلمين جعلهم الإسلام معصومي الدماء، بل الأموال والأعراض كذلك، ومن هؤلاء المؤَمَّنون الذين يأتون إلى ديار الإسلام، ويدخلون تحت عهد المسلمين وأمانهم، فهؤلاء معصومو الدم، وهذا أيضًا مما وردت به النصوص الشرعية واتفقت عليه الأمة، وقرره عامة فقهاء المذاهب، ولا أعلم أحدًا من علماء الإسلام خالف في عصمة دم من أُعْطِي الأمان من قبل المسلمين، وحرمة ماله وعرضه، حتى قال ابن عبد البر: (ولا خلاف علمتُه بين العلماء) أي في ذلك [الاستذكار، ابن عبد البر، (5/37)].
فإعطاء الأمان لغير المسلمين يجعل دم هذا (الغير) أو ماله أو عرضه معصومًا، سواء أعطى هذا الأمان رجلٌ أو امرأةٌ كما سيأتي بيانه، وإليك مذاهب فقهاء الإسلام مع ذكر بعض أدلتهم في كلامهم، وإذا حُرِّم علينا الغدر بهم في أمانهم في وقت الحرب ففي السلم من باب أولى.
(أ) ـ المذهب الحنبلي:
قال في كشف القناع عن متن الإقناع (8/211-212):
(باب الأمان، وهو ضد الخوف ... والأصل فيه قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) [رواه البخاري، (6756)] ... ويحرم به ـ أي بالأمان ـ قتلٌ، ورقٌ، وأسرٌ، وأخذُ مالٍ، والتعرضُ لهم لعصمتهم).
وقال ابن قدامة في الشرح الكبير (10/555): (باب الأمان: يصح أمان المسلم المكلف ذكرًا كان أو أنثى، حرًّا أو عبدًا أو أسيرًا).
ثم قال: (وجملة ذلك أن الأمان إذا أعطي أهلَ الحرب حَرُم قتلهم ومالهم والتعرض لهم)، ثم قال: (فصلٌ: ويصح أمان المرأة في قول الجميع، قالت عائشة: (إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز) [رواه أبو داود، (2383)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (2764)]) اهـ.
(ب) ـ المذهب الشافعي:
في المجموع للنووي (19/303): (فصل: ويجوز للمسلم أن يُؤَمِّن من الكفار آحادًا، كالواحد والعشرة والمائة، وأهل القلعة لما روي أن (ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) [رواه البخاري، (1737)]).
فالإنسان الذي أمَّنه المسلمُ، وعَلِم بذلك المسلمون، فإنه لا يجوز لأحد أن يخفر ذمة أخيه المسلم، ومَنْ فَعَلَ فعليه اللعنةُ، كما سبق.
وقال: (ويجوز للمرأة من ذلك ما يجوز للرجل).
وقال: (ويحوز ذلك للعبد، لما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُجير عليهم أدناهم) [رواه أحمد في مسنده، (6405)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، (3496)]، وروى فضلُ بن يزيد الرقاشي قال: (جهَّز عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه جيشًا كنتُ فيه، فحضرنا قريةً من قرى رامَ هُرْمُز، فكتب عبدٌ منَّا أمانًا في صحيفة، وشدها مع سهم، ورمى به إليهم، فأخذوه، فخرجوا بأمانه، فكُتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فقال: (العبد المسلم رجل من المسلمين، ذمته ذمتهم) [انظر: تاريخ خليفة بن خياط، ص(98)]).
(ج) ـ المذهب المالكي:
في المدونة الكبرى لمالك (2/144-145)، قال ابن وهب: عن الحارث بن نبهان عن محمد بن سعيد بن عبادة بن نسيٍّ عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب فقرئ علينا كتابه إلى سعيد بن عامر بن حُذَيم، ونحن محاصرو قيسارية: أن مَنْ أمنه منكم حرًّا أو عبدًا مِن عدوكم مِن أهل الكفر فهو آمن حتى تردوه إلى مأمنه.
وقال ابن وهب لابن قاسم تلميذ مالك: أرأيت أمان المرأة والعبد والصبي، هل يجوز في قول مالك؟ قال: سمعتُ مالكًا يقول: أمان المرأة جائز.
وقال ابن قاسم: وما سمعته يقول في العبد والصبي شيئًا أقوم بحفظه، وأنا أرى أمانهما جائز. اهـ.
(د) ـ المذهب الحنفي:
في تبين الحقائق شرح كنز الدقائق (9/291):
قال الماتن: (ولم نقتل من أمنه حرٌّ أو حرَّةٌ).
قال الشارح: (لأن أمانَ واحدٍ حرٍ من المسلمين كافرًا واحدًا أو جماعةً صحيحٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) [رواه البخاري، (6756)]، والذمة العهدة، وأدناهم: أقلهم عددًا وهو الواحد؛ فإنه ـ أي آحاد المسلمين ـ يتولى العهد المؤبد والمؤقت، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن المرأة لتأخذ للقوم) أى تجير، [رواه الترمذى، (1504)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (1579)]، وأجاز عليه الصلاة والسلام أمان أم هانئ رجلًا من المشركين يوم فتح مكة فيما رواه البخارى، (344)، ومسلم، (1179) اهـ.
وقال (17/277): (إذا أَعْطى أدنى رجلٍ منهم أمانًا فليس للباقين إخفاقه).
وفي المبسوط قال السرخسي في الأمان الذي تعطيه المرأة المسلمة للمشركين (12/137): (لو أمَّنت المرأة من أهل دار الإسلام أهل الحرب جاز أمانُها، لما روي أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّنت زوجها أبا العاص بن الربيع فأجاز الرسول أمانَها، وعن أم هانئ رضى الله عنها قالت: أجرت حَموَيْن لي يوم فتح مكة فدخل عليٌّ أخوها رضى الله عنه يريد قتلهما، وقال: أتجيرين المشركين؟
فقلت [أي أم هانئ]: لا، إلا أن تبدأني قبلهما، وأخرجتُه مِن البيت، وأغلقتُ الباب عليهما، ثم أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني قال: مرحبا بأم هانئ فاختة.
قلت: ماذا لقيت من ابن أمي، أجرتُ حَموين لي وأراد قلتهما، قال رسول الله: (ليس له ذلك، قد أجرنا مَنْ أجرت، وأمَّنا من أمَّنت)، وثم قال السرخسي: (فإن من أمن رجلًا من أهل الجيش جاز أمانه) اهـ.
فالأدلة من الكتاب والسنة ثابتة على جواز إعطاء الأمان للمشركين من آحاد المسلمين، رجلًا كان أو امرأة حرًّا كان أو عبدًا، وقيل به في الصبي أيضًا.
ولو ادعى أحدٌ الإجماع على جواز إعطاء المسلمة أو المسلم الأمان المشركَ لما كذب، وهذا ـ كما سبق ـ في الحرب ومع المشرك المحارب، فإعطاؤه للمسالم من باب أولى.
قال ابنُ عبد البر: (ولا خلاف علمته بين العلماء في أنَّ من أمَّن حربيًّا، بأي كلام لهم به الأمان، فقد تمَّ له الأمان) [الاستذكار، ابن عبد البر، (5/37)].
.لواء الشريعة
جاءت الشريعة لحفظ المصالح وتفويت المفاسد، ويكون جرم الذنب واستعظامه على حسب ما يقع به من مفاسد وأضرار، وما يترتب عليه من تضييع مصالح ومنافع. والمصالح نوعان: كلية وجزئية، ومن المصالح الجزئية الحفاظ على حياة المسلم، فلا تزهق بغير حق، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة) [متفق عليه، رواه البخاري، (6370)، ومسلم، (3175)]. لذلك لا يُعرف ـ في أصول الشريعة الإسلامية ـ من المصالح أو المقاصد الجزئية التي يجب مراعاتها والحفاظ عليها بعد حفظ الدين مثل: مصلحة حفظ بنيان الإنسان المسلم، وعدم إزهاق روحه من غير حق، وكذلك لا تعرف مفسدة جزئية في تشريع الإسلام أشد من قتل النفس التي حرم الله من غير حق. فيكون قد اجتمع في هذا الفعل الأمران: تفويت أعظم مصلحة جزئية، وجلب أشد مفسدة جزئية؛ لذلك يبلغ الفعل الذورة في الظلم والجناية؛ لذا قال ابن حجر: (وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك) [فتح الباري، ابن حجر، (18/380)]. وقد تكاثرت النصوص لتأكيد هذه الحقيقة، وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ولا يتصور الجهل فيه، ولذلك يجب الضرب بيدٍ من حديد على فاعل هذا الفعل بتطبيق حكم الله فيه، وليشهد عذابه الناس، ليردع كل من تُسوِّل له نفسه بذلك، وفى الوقت ذاته يجب معالجة الأسباب التي تقود بعض الناس إلى هذه الجرائم. فإن هناك خطأً جسيمًا يرتكبه بعض مَنْ يُعالج القضية، وبيانه: أنه في أكثر الظروف تُعالج الأعراض والظواهر، وتترك الأسباب التي أفضت إلى ظهور المرض. ،فلا يقدم إلا مسكنات في حلوله، وإن كانت قاسية في أكثر الأحايين، وتظل الفتنة مستورة، متى أُتيحت الفرصة لظهورها مرة أخرى في ظروف ملائمة لظهرت بصورة أشد؛ لأن المتعرض لمناقشة الموضوع لم يعالج أسباب المشكلة معالجة موضوعية، واكتفى بمحاولة ردع الجاني أو مَنْ حامت حوله شبه الجناية، وإن لم يكن جانيًا، والتاريخ السياسي المعاصر زاخرٌ بكثيرٍ من الأحداث التي تحتاج إلى إعادة نظر من هذه الناحية.
وإنه يجب ألا نغض الطرف عن الحقائق، فندُس رءوسنا في الرمال، وبقية الجسد الكبير ظاهر للعيان، ظانين أننا أصبحنا في مأمن؛ فالأمن يتحقق بعلاج أسباب عدمه، وتوفير أسبابه.
ثم أقول: لقد عظَّمت الشريعة حق الدماء، وغلَّظت عقوبتها، حتى يُردع هؤلاء الآثمون عن هذه الأعمال ، وكيف أن الإسلام قد شدَّد في حفظ الدماء المعصومة إلا بحقها، وأهمها على الإطلاق حرمة دم المسلم، وهذه الحقيقة لا يجهلها آحاد المسلمين، لكن نؤكد ذلك حتى لا يورط المسلم نفسه في مثل هذه الأعمال الإجرامية:
(1) قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
وأنا لمْ أجد ـ فيما أعلم ـ من جرائم العقوبات جريمة شدَّد عليها القرآن كما هو الحال في جريمة قتل المؤمن بغير حق، إذ جعل الله له جهنم، وجعل له خلودًا وإن لم يكن أبديَّا ما لم يكن مستحلًّا، وعمَّه الله بغضبه، وأعد له عذابًا وصفه بأنه عظيم، ولا يمكن لمسلم عنده مسحة من عقل أن يغفل عن كل هذه العقوبات، ويسقط في تلك المخازي.
(2) وقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم ذلك كفرًا؛ فقال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) [متفق عليه، رواه البخاري، (46)، ومسلم، (97)]، وليس شيء أشد من معصية سمَّاها الرسول صلى الله عليه وسلم كفرًا.
(3) قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ... فليبلغ الشاهد الغائب) [متفق عليه، رواه البخاري، (1623)، ومسلم، (3180)].
(4) قوله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) [رواه مسلم، (4650)].
(5) قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) [رواه مسلم، (3178)].
وإذا أدرك المسلم هذه الحقيقة حَذِر التفكير في هذه الجريمة؛ لأنه إذا كان أول ما يُسأل عنه من حقوق بني آدم (الدماء)، ثم يورِّط نفسه فيها، فقد عرَّضها للمخاطر، وعرَّض دنيه ـ ومن قبل حياته ـ للشك والتهمة.
وقد رأيت الحافظ ابن حجر يقول تعليقًا على الحديث السابق: (وفى الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك) [فتح الباري، ابن حجر، (18/380)].
(6) لذا قال عليه الصلاة والسلام: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) [رواه الترمذي، (1315)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (1359)].
(7) وحرمة دم المسلم أجلُّ عند الله من حرمة الكعبة شرَّفها الله، فقد نظر ابنُ عمر يومًا إلى الكعبة، فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) [رواه الترمذي، (1955)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2032)].
(8) وليس هناك ذنب متعلق بحقوق الآدميين مثل الدماء، قال صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا) [رواه البخاري، (6355)].
(9) ومن تعظيم حرمة دم المسلم وتغليظ العقوبة، أنه لو اجتمع عشرة أو مائة أو ألف على قتل رجل متعمدين لعُذِّبوا به جميعًا، قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن؛ لأكبهم الله في النار) [رواه الترمذي، (1318)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (1398)].
وبعد هذه النصوص التي تجرِّم قتل المسلم بغير حق، يجب على كل مسلم أن يعلم حقيقة أخرى، وهي: ليست حرمة الدماء في شريعة الإسلام مقصورة على أهل الإسلام، بل إن هناك طوائف عديدة من غير المسلمين جعلهم الإسلام معصومي الدماء، بل الأموال والأعراض كذلك، ومن هؤلاء المؤَمَّنون الذين يأتون إلى ديار الإسلام، ويدخلون تحت عهد المسلمين وأمانهم، فهؤلاء معصومو الدم، وهذا أيضًا مما وردت به النصوص الشرعية واتفقت عليه الأمة، وقرره عامة فقهاء المذاهب، ولا أعلم أحدًا من علماء الإسلام خالف في عصمة دم من أُعْطِي الأمان من قبل المسلمين، وحرمة ماله وعرضه، حتى قال ابن عبد البر: (ولا خلاف علمتُه بين العلماء) أي في ذلك [الاستذكار، ابن عبد البر، (5/37)].
فإعطاء الأمان لغير المسلمين يجعل دم هذا (الغير) أو ماله أو عرضه معصومًا، سواء أعطى هذا الأمان رجلٌ أو امرأةٌ كما سيأتي بيانه، وإليك مذاهب فقهاء الإسلام مع ذكر بعض أدلتهم في كلامهم، وإذا حُرِّم علينا الغدر بهم في أمانهم في وقت الحرب ففي السلم من باب أولى.
(أ) ـ المذهب الحنبلي:
قال في كشف القناع عن متن الإقناع (8/211-212):
(باب الأمان، وهو ضد الخوف ... والأصل فيه قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) [رواه البخاري، (6756)] ... ويحرم به ـ أي بالأمان ـ قتلٌ، ورقٌ، وأسرٌ، وأخذُ مالٍ، والتعرضُ لهم لعصمتهم).
وقال ابن قدامة في الشرح الكبير (10/555): (باب الأمان: يصح أمان المسلم المكلف ذكرًا كان أو أنثى، حرًّا أو عبدًا أو أسيرًا).
ثم قال: (وجملة ذلك أن الأمان إذا أعطي أهلَ الحرب حَرُم قتلهم ومالهم والتعرض لهم)، ثم قال: (فصلٌ: ويصح أمان المرأة في قول الجميع، قالت عائشة: (إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز) [رواه أبو داود، (2383)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (2764)]) اهـ.
(ب) ـ المذهب الشافعي:
في المجموع للنووي (19/303): (فصل: ويجوز للمسلم أن يُؤَمِّن من الكفار آحادًا، كالواحد والعشرة والمائة، وأهل القلعة لما روي أن (ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) [رواه البخاري، (1737)]).
فالإنسان الذي أمَّنه المسلمُ، وعَلِم بذلك المسلمون، فإنه لا يجوز لأحد أن يخفر ذمة أخيه المسلم، ومَنْ فَعَلَ فعليه اللعنةُ، كما سبق.
وقال: (ويجوز للمرأة من ذلك ما يجوز للرجل).
وقال: (ويحوز ذلك للعبد، لما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُجير عليهم أدناهم) [رواه أحمد في مسنده، (6405)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، (3496)]، وروى فضلُ بن يزيد الرقاشي قال: (جهَّز عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه جيشًا كنتُ فيه، فحضرنا قريةً من قرى رامَ هُرْمُز، فكتب عبدٌ منَّا أمانًا في صحيفة، وشدها مع سهم، ورمى به إليهم، فأخذوه، فخرجوا بأمانه، فكُتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فقال: (العبد المسلم رجل من المسلمين، ذمته ذمتهم) [انظر: تاريخ خليفة بن خياط، ص(98)]).
(ج) ـ المذهب المالكي:
في المدونة الكبرى لمالك (2/144-145)، قال ابن وهب: عن الحارث بن نبهان عن محمد بن سعيد بن عبادة بن نسيٍّ عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب فقرئ علينا كتابه إلى سعيد بن عامر بن حُذَيم، ونحن محاصرو قيسارية: أن مَنْ أمنه منكم حرًّا أو عبدًا مِن عدوكم مِن أهل الكفر فهو آمن حتى تردوه إلى مأمنه.
وقال ابن وهب لابن قاسم تلميذ مالك: أرأيت أمان المرأة والعبد والصبي، هل يجوز في قول مالك؟ قال: سمعتُ مالكًا يقول: أمان المرأة جائز.
وقال ابن قاسم: وما سمعته يقول في العبد والصبي شيئًا أقوم بحفظه، وأنا أرى أمانهما جائز. اهـ.
(د) ـ المذهب الحنفي:
في تبين الحقائق شرح كنز الدقائق (9/291):
قال الماتن: (ولم نقتل من أمنه حرٌّ أو حرَّةٌ).
قال الشارح: (لأن أمانَ واحدٍ حرٍ من المسلمين كافرًا واحدًا أو جماعةً صحيحٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) [رواه البخاري، (6756)]، والذمة العهدة، وأدناهم: أقلهم عددًا وهو الواحد؛ فإنه ـ أي آحاد المسلمين ـ يتولى العهد المؤبد والمؤقت، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن المرأة لتأخذ للقوم) أى تجير، [رواه الترمذى، (1504)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (1579)]، وأجاز عليه الصلاة والسلام أمان أم هانئ رجلًا من المشركين يوم فتح مكة فيما رواه البخارى، (344)، ومسلم، (1179) اهـ.
وقال (17/277): (إذا أَعْطى أدنى رجلٍ منهم أمانًا فليس للباقين إخفاقه).
وفي المبسوط قال السرخسي في الأمان الذي تعطيه المرأة المسلمة للمشركين (12/137): (لو أمَّنت المرأة من أهل دار الإسلام أهل الحرب جاز أمانُها، لما روي أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّنت زوجها أبا العاص بن الربيع فأجاز الرسول أمانَها، وعن أم هانئ رضى الله عنها قالت: أجرت حَموَيْن لي يوم فتح مكة فدخل عليٌّ أخوها رضى الله عنه يريد قتلهما، وقال: أتجيرين المشركين؟
فقلت [أي أم هانئ]: لا، إلا أن تبدأني قبلهما، وأخرجتُه مِن البيت، وأغلقتُ الباب عليهما، ثم أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني قال: مرحبا بأم هانئ فاختة.
قلت: ماذا لقيت من ابن أمي، أجرتُ حَموين لي وأراد قلتهما، قال رسول الله: (ليس له ذلك، قد أجرنا مَنْ أجرت، وأمَّنا من أمَّنت)، وثم قال السرخسي: (فإن من أمن رجلًا من أهل الجيش جاز أمانه) اهـ.
فالأدلة من الكتاب والسنة ثابتة على جواز إعطاء الأمان للمشركين من آحاد المسلمين، رجلًا كان أو امرأة حرًّا كان أو عبدًا، وقيل به في الصبي أيضًا.
ولو ادعى أحدٌ الإجماع على جواز إعطاء المسلمة أو المسلم الأمان المشركَ لما كذب، وهذا ـ كما سبق ـ في الحرب ومع المشرك المحارب، فإعطاؤه للمسالم من باب أولى.
قال ابنُ عبد البر: (ولا خلاف علمته بين العلماء في أنَّ من أمَّن حربيًّا، بأي كلام لهم به الأمان، فقد تمَّ له الأمان) [الاستذكار، ابن عبد البر، (5/37)].
.لواء الشريعة