مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الحركة الإسلامية والدوائر الأربع
الحركة الإسلامية والدوائر الأربع

بلال التليدي

حظيت الحركة الإسلامية بقدر وافر من الدراسات، لكننا إذا رجعنا إلى الخلاصات، فلن نجد أكثر من الإقرار بوجود فروق بين مكونات الحركة الإسلامية، وبحصول مراجعات فكرية طورت خطاب هذا المكون أو ممارسة ذاك.

بدون شك، سنجد من يبحث تأثير البيئة السياسية على اختيارات هذه المكونات، وسنجد من يبحث حصيلة التراكم في التجربة الحركية وأثرها على خطاب هذا وممارسة ذاك. لكن، تبقى هذه المقاربات تعبر في الحصيلة عن ذات الاستنتاج الذي تزكيه الدراسات التقليدية للحركة الإسلامية والتي تقرر تنوع جسم الحركة الإسلامية واستيعابه لنتوءات وتضاريس حركية مختلفة.

لكن، هل يمكن أن يشغلنا اختلاف الخطاب والتجربة عن التفكير في أطروحة تفسيرية تحدد منهجية اشتغال العقل الحركي وتستقرئ القوانين المفسرة لمساره؟ هل يمكن أن نتحدث عن دوائر حتمية يمر بها العقل الحركي، وينتج في كل دائرة مقولات تناسب المرحلة؟

عينة الأطروحة: الشريعة كمرجعية بأي معنى

لاعتبار منهجي، نأخذ موضوع الشريعة كمرجعية كعينة للبحث، لأنها تعتبر من المفردات والمفاهيم الأكثر حضورا في أدبيات الحركة الإسلامية، وسندقق النظر فيها لنخلص إلى ما نزعم أنه أطروحة تفسيرية للعقل الحركي الإسلامي ومنهجية إنتاجه للمفاهيم، كما سنخلص إلى ما يمكن اعتباره دوائر أربع تمر بها الحركة الإسلامية في مسار تطور خطابها وممارستها.

يكثر الحديث داخل جميع فصائل الحركة الإسلامية عن المرجعية الإسلامية، لكن ماذا تقصد الحركة الإسلامية بالمرجعية الإسلامية؟ هل تقصد الأحكام الشرعية التي استنبطها الفقهاء من نصوص الشرع عبر التجربة التاريخية للأمة؟ أم تعني المقطوع به من الأحكام التي استقبلتها الأمة لوجه من وجوه قوة الدلالة فيها؟ أم المقصود تحكيم المنتوج الفقهي الإسلامي كأساس لحل إشكالات الواقع؟ أم المراد بالمرجعية الإسلامية شيء آخر؟

كيفما كانت الإجابة عن هذه الإشكالات، فيبقى الثابت في أية مقاربة حركية الانطلاق من المصادر الشرعية الأصلية: القرآن والسنة، وتفعيل النصوص الشرعية.

وبغض النظر عن الخلاف الواضح بين مكونات الحركة الإسلامية في تمثل مفهوم الشريعة كمرجعية، فإن هناك ما يشبه الإجماع في تقديرات الإسلاميين الفكرية إلى أن:

- النصوص مستوعبة لكل ما يمكن أن يرد من وقائع، مع تسجيل الخلاف الحاصل حول المقصود بالاستيعاب، أي هل يستوعب النص الوقائع بدلالة لفظه؟ أم بدلالة مقصده؟

- النصوص مفتوحة تتسع لدلالات جديدة، وعلى الناظر أن يفعل منهجه الاجتهادي في فهم النصوص والتأسيس عليها لإيجاد حلول لمشكلات الواقع، مع الاختلاف أيضا حول منهجية التأسيس على النص.

- النصوص تضمنت المقاصد أو الأدلة التي يمكن للمجتهد من خلال فهمها وتفعيلها معالجة إشكالات الواقع.

ربما كانت هذه المسلمات الأصولية في تقدير الإسلاميين العناوين الكبرى التي تفسر مفهوم المرجعية الإسلامية عندهم أو هي السقف الفكري الجامع لكل أطروحات الإسلاميين بحيث ما إن يبدأ التفصيل والتفريع عن هذه الأصول حتى تبدأ المواقع في التمايز والاختلاف.

والناظر لكسب الإسلاميين الفكري والمنهجي يجد أن التيار يتحرك في تكييفه لهذه الأصول في دوائر ثلاث مترابطة تقود الأولى للثانية وهكذا دواليك حتى ينتهي العقل الحركي إلى الدائرة الرابعة والتي تكتمل فيها آلته، وتنضج مفرداته ومفاهيمه وترشد ممارسته.

الدائرة العقائدية

وتكون في الغالب عند لحظات التأسيس غير أن استمرارها أو القطيعة معها لا يخضع بالضرورة إلى الزمن بقدر ما يخضع إلى الفعل الذاتي للحركة الإسلامية ضمن الزمن. أي يجوز لبعض مكونات الحركة الإسلامية أن تبقى حبيسة الدائرة العقائدية ما لم تبادر لإحداث مراجعات فكرية تؤدي بها إلى المرحلة الموالية.

يرى التيار الإسلامي ضمن الدائرة العقائدية أن الشرع جاء ليهدي البشرية جمعاء، كما جاء ليقيم نظام حياتها، الذي ينطلق من البناء العقدي، وتتفرع عن هذا الأساس باقي النظم الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

ضمن الدائرة العقائدية، لا يتصالح التيار الإسلامي مع الواقع ، ولا يؤمن بإصلاحه، إنه واقع أنتجته ’’الجاهلية’’ وهي المسؤولة عن معالجة اختلالاته، وليس مطلوبا من نصوص الشرع أن تعالج هذه الاختلالات. ولذلك تجد التيار الإسلامي ضمن هذه الدائرة يطرح مقولة:’’لسنا معنيين بإصلاح واقع لم نكن طرفا في إنتاجه’’ أو مقولة:’’ تغيير الواقع الذي أنتجته الجاهلية’’ ويمكن اعتبار شعار سيد قطب:’’خذوا الإسلام جملة أو اتركوه جملة’’ تعبيرا صادقا عن منهجية تفكير العقل الحركي ضمن الدائرة العقائدية. ويمكن القول إن الحركة الإسلامية قد تجاوزت في الغالب هذا المنطق في التفكير إلا ما كان من بعض الحركات الجهادية التي ما زالت تتبنى هذه المقولات سواء اعتقدت بصحتها أو استصحبتها لضرورة، فالفكر الجهادي أحيانا يجد نفسه مضطرا لاستصحاب بعض المفاهيم - حتى وإن لم تصح- ليبرر الاستمرار في النهج القتالي.

في الدائرة العقائدية، يكون العقل الناظم للحركة الإسلامية ’’عقلا طائفيا’’، يشتغل بمفاهيم الطائفة، ولذلك، كان مفهوم العزلة الشعورية، ومفهوم المفاصلة مع المجتمع هما المفاهيم الأكثر حيوية ضمن نتاجات العقل الحركي الطائفي.

الدائرة التبشيرية

وهو المآل الذي تصير إليه المراجعات التي تنتقد النظرة الطوباوية التي يتبناها التيار الإسلامي في الدائرة العقائدية. تبدأ هذه المراجعات كلما اقتربت الحركة الإسلامية من الواقع، وكلما انتبهت إلى السنن المتحكمة في حركيته، فتبدأ في مراجعة ثقافة المفاصلة والعزلة الشعورية عن المجتمع، وتتأسس عندها مفاهيم مبدئية جديدة، مثل المشاركة والتفاعل، وتستصحب مفاهيم أصولية جديدة مثل تعارض المصالح والمفاسد وفقه الأولويات والموازنات.

لكن التأصيل لهذه المفاهيم المبدئية، والاستحضار لهذه المفردات الأصولية لا يفعل أكثر من تغيير النظرة إلى الواقع وتغيير وسائل الاشتغال. أما البناء المرجعي، فلا يطرأ عليه تغيير كبير، ولذلك فما يقع في هذه الدائرة لا يتعدى الفعل التبشيري التعبوي الذي يحشد الجماهير على عناوين ثلاثة:

1- تشخيص حال الأمة.

2- بيان جوهر الصراع العالمي.

3- الإسلام هو الحل.

فعند التشخيص، يدرك المبشر موقع الأمة بالقياس إلى فترة الريادة الحضارية التي تشكل المرجع الرمزي عنده. وفي العنوان الثاني، ينتقل المبشر من مرحلة فهم وقائع التاريخ إلى مرحلة جديدة يحس فيها بأنه في قلب الواقع، حيث يتزود ببعض الآليات لفهم طبيعة الصراع القائم في العالم، وهي المرحلة التي يرتبط فيها ’’الحركي’’ بقضايا الأمة ارتباطا عقائديا مادمت هذه القضايا تشكل بالنسبة إليه دلائل على صدق التفسير الذي يتبناه لجوهر الصراع في العالم. إنه ليس أكثر من صراع ضد مواقع الإسلام التي لم ينجح العدو بعد في تصفيتها.

وعندما يمتلك ’’الحركي’’ قراءته للتاريخ، و يعي جوهر الصراع في العالم، لا يبقى له سوى أن ينخرط كلية في المشروع التبشيري الذي تتعدد شعاراته بدءا ب’’الإسلام هو الحل’’ والمستقبل للإسلام’’ ....

وتجدر الإشارة إلى أن الحركة الإسلامية – في هذه الدائرة – ترتبط بشكل وثيق بالتجربة التاريخية للأمة، وتمتلئ أدبياتها بالإحالات إليها، حتى تصبح المرجعية الإسلامية في هذه الدائرة تعني استعادة التجربة التاريخية دون إقامة الفروق والتمايزات بين الماضي والحاضر ودون استحضار التحولات الكبرى التي لحقت المؤسسات والبنيات والقيم والتشكيلة المجتمعية. ولذلك، فلا غرابة أن تتصدر شعارات ’’عودة الشريعة’’، و’’العدالة الاجتماعية’’، و’’وحدة الأمة في مواجهة العدو’’.عناوين الحركة الإسلامية.

على أن العقل الناظم للمرحلة التبشيرية يتجاوز المنطق الطائفي، ويقترب أكثر من عقل ’’الجماعة’’ أو ’’العصبة’’ التي لا تبحث عن الانسياب في الواقع، وإنما تتصور أن الواقع هو عبارة عن جماعة بشرية كبيرة كلما تمكنت من تقريب فئة منه كلما كسبت موقعا أكبر إلى أن تصير هي الواقع.

وإلى اليوم، لا زالت حركات إسلامية ترزح في هذه الدائرة، لم تتجاوزها، حتى وإن ظهر في بعض أدبياتها قطيعة مع هذه الدائرة، إلا أن المنطق العام الذي تخضع له، والحركية التي تشتغل بها يجعلها تفكر بمنطق عقل ’’العصبة’’ وهو ما يعني أنها لم تتجاوز بعد العناوين التبشيرية. ولعل حركة الإخوان المسلمين على الرغم شعبيتها الكبيرة وعلى الرغم من طول التجربة إلا أنها لم تتجاوز مرحلة التبشير، هذا إن لم نقل بأنها تراجعت عن زمن حسن البنا.

دائرة الاعتدال

في هذه الدائرة تنتظم عملية المراجعة، ويشتغل العقل الحركي ’’عقل العصبة’’ بالمفاهيم المبدئية الجديدة’’المشاركة والتفاعل’’ والمفردات الأصولية الجديدة’’المصالح والمفاسد وفقه الأولويات’’ وتنتقل الحركة الإسلامية من تبني المفاهيم العامة ذات الصلة بالنظرة إلى الواقع والمجتمع إلى المفاهيم الخاصة ذات الصلة بالسياسة والمؤسسات، فينتقل مفهوم التعايش والتفاعل مع المجتمع –وهي المفاهيم التي كانت حصيلة نقد لعقلية المفاصلة والعزلة- إلى مفهوم المشاركة السياسية، كما تؤدي المفاهيم الأصولية الجديدة مثل’’فقه الأولويات’’ و’’فقه الموازنات’’ و’’فقه الترجيح بين المصالح والمفاسد’’ أدوارا وظيفية، إذ تعين في طرح المشاركة في المؤسسة التشريعية والتنفيذية للتداول الفكري.

تحصل الحركة الإسلامية – في هذه الدائرة - نظرة أكثر واقعية عن الأطراف الفاعلة في الواقع ووزنها السياسي، وطبيعة الحراك الاجتماعي، وتتعرف على منهجية صناعة القرار السياسي، ويدخل إلى مفرداتها ولأول مرة مفهوم السقف السياسي، ومفهوم الإقدام والإحجام، ومفهوم استثمار الهوامش وتوسيعها...

إنها بكلمة، تدخل إلى قلب السياسة، فيتجه عقلها النظري إلى إعادة طرح سؤال المرجعية الإسلامية، فتراجع كل الإجابات الجاهزة التي حصلتها في الدائرة العقائدية والتبشيرية، لأنها لا تسعفها في كسبها السياسي، ولا يحصل من وراء تبنيها سوى التخبط في ازدواجية خطيرة بين ممارسة سياسية متقصدة، وخطاب عقائدي غير مطمئن.

بعض الحركات الإسلامية تستمر، بقصد، في استصحاب هذه الازدواجية، وترى أن الخطاب العقائدي هو من آليات التحشيد الجماهيري الذي ينفع في تقوية الموقع التفاوضي لخط الاعتدال السياسي، لكن غالبية حركات الاعتدال السياسي الإسلامي تسعى لإعادة النظر في هذا الخطاب العقائدي، وتتبنى مفهوما جديدا لمسألة المرجعية الإسلامية.

لا تقطع حركات الاعتدال السياسي الإسلامي في تعاملها مع النصوص الشرعية مع المنطقات الأصولية الثلاثة التي أشرنا إليها في مقدمة هذا المقال، ولكنها، تنتظم بعمق في التراث الأصولي، وتدعو إلى تدشين زمن أصولي جديد، تلعب فيه النظرية المقاصدية دورها في الربط بين النص والواقع.

لم تعد الحركة الإسلامية – في دائرة الاعتدال – مرتهنة لدلالة النصوص التفصيلية، ولم يعد – بفعل هذا التحول الفكري والمنهجي – المنتوج الفقهي عبئا ثقيلا عليها. إنها حين تطرح قضية المرجعية الإسلامية، فإنها لا تعني أكثر من تفعيل المنهج المقاصدي لفهم الواقع ومعالجة إشكالاته وإبداع اختيارات وبرامج للتنمية المجتمعية.قادرة على المنافسة ومتسمة بصفات الإغراء والجذب.

لم تعد المرجعية الإسلامية – ضمن دائرة الاعتدال – منتوجا فقهيا إسلاميا مبسوطا ، ولم تعد مجرد إحالة إلى التجربة التاريخية للأمة، وإنما صارت مقاصد عامة لفهم الواقع، وأداة منهجية للانخراط فيه، وقواعد كلية للاقتراح والتدبير.

تتجاوز الحركة الإسلامية في دائرة الاعتدال عقل’’ العصبة’’ وتدرك أنه يستحيل عليها أن تكون بديلا عن الواقع، وتعي أن عليها أن تنفتح على مؤسسات المجتمع إذا أرادت فعلا أن تغير الواقع. وهكذا يصير عقل ال’’العصبة’’ عقلا ’’سياسيا’’ يرى أن المؤسسة هي مفتاح تغيير الواقع.

للمرء أن يلاحظ، أنه بقدر اقتراب الحركة الإسلامية من الواقع ، بقدر ما ينضج التفكير الحركي الإسلامي، بحيث تفصل عموماته، وتطرد مراجعاته. وبقدر ما ينفصل التفكير الحركي عن الواقع تحت أي تبرير فكري، بقدر ما يكون خطابه غارقا في العمومية، وتكون ممارسته مدعاة للتشكك .

إن الدوائر الثلاثة التي تحدثنا عنها كمراحل فكرية مميزة لمسار النضج الحركي الإسلامي- أقول مراحل فكرية وليست زمنية - توازيها ثلاثة أنماط من التفكير تكون كل واحدة منها سائدة في دائرة من الدوائر، فينشط العقل الطائفي في الدائرة العقائدية، وتشتغل الحركة الإسلامية في دائرة التبشير بعقل ’’العصبة’’ وينضج العقل الحركي في دائرة الاعتدال ويصير ’’عقلا سياسيا’’ يرتب تحالفاته وتعاقداته السياسية من أجل حضور مؤثر في الواقع من خلال مؤسساته. لكن هل هذا هو منتهى تطور العقل الحركي؟

دائرة الشهود

بدون شك، هناك دائرة رابعة لم يصل العقل الحركي الإسلامي بعد إلى تأسيس زمنها الأصولي، وهي التي يمكن تسميتها بدائرة الشهود، حيث يصير نمط التفكير الحركي أكثر انفتاحا ، إذ تطال مراجعاته الفكرية أصول ’’العقل السياسي’’ المنشغل بمعادلة : (من الحركة إلى الدولة)، وتسمح بتأسيس عقل جديد غير محكوم بحدود القطر ومعادلته السياسية، وغير منشغل بالمؤسسة بالدرجة التي ينشغل فيها بالقيم.

ولعل المراجعات ستبدأ في اللحظة التي يشعر فيها العقل السياسي أنه غير قادر على تغيير الواقع من موقع التحكم في المؤسسة ، وسيؤول التفكير إلى طرح سؤال تأسيس السياسة، وهي اللحظة التي سيخرج فيها عقل جديد معني بمعادلة بناء الأمة أكثر من اهتمامه بالدولة، وهي اللحظة التي لن ترتفع فيها أولوية فوق أولوية القيم.
.مرصدالظاهرة
أضافة تعليق