المقومات الشخصية للداعية (2/2)
جمازالجماز
ذكرنا في الحلقة الأولى من القضية التي بين يدينا (المقومات الشخصية للداعية) بعضاً من حاجة المجتمع لهذا الداعية، وبعض الصفات التي يجب أن يتحلى بها، وبعض العوامل في تكوين شخصيته. ونستكمل اليوم الحديث عن البند الأخير، بذكر عوامل أخرى، منها:
3 – أن يعلم الشاب فضل الدعوة والداعية:
أتعرفون يا شباب فضل الدعوة والداعية عند الله؟
أتعرفون المنزلة الكبرى التي خصّ الله بها دعاة الإسلام؟
أتعرفون ماذا أعد الله للدعاة من مثوبة وأجر وكرامة؟
يكفي الدعاة منزلةً ورفعةً أنهم خير هذه الأمة على الإطلاق ’’كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...’’ (آل عمران: من الآية110).
يكفي الدعاة سمواً وفلاحاً أنهم المفلحون والسعداء في الدنيا والآخرة ’’وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ’’ (آل عمران:104).
يكفي الدعاة شرفاً وكرامة أن قولهم في مضمار الدعوة أحسن الأقوال، وأن كلامهم في التبليغ أفضل الكلام ’’وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ’’ (فصلت:33).
يكفي الدعاة منّاً وفضلاً أن الله _سبحانه_ يشملهم برحمته الغامرة، ويخصهم بنعمته الفائقة ’’وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ’’ (التوبة:71).
يكفي الدعاة أجراً ومثوبة أنّ أجرهم مستمر، ومثوبتهم دائمة، قال _صلى الله عليه وسلم_: ’’من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً...’’ [حديث صحيح، أخرجه مسلم].
يكفي الدعاة فخراً وخيرية.. أن تسبّبهم في الهداية خير مما طلعت عليه الشمس وغربت، قال _صلى الله عليه وسلم_: ’’... فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم’’ [حديث صحيح، أخرجه البخاري 7/70 برقم 3701]، وفي حديث آخر ’’خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت’’ [حديث ضعيف، أخرجه الطبراني في الكبير (ضعيف الجامع 4646)].
هل رأيتم يا شباب منزلة تضاهي منزلة الدعوة؟
هل سمعتم في تاريخ الإنسانية كرامة تعادل كرامة الداعية؟
فإذا كان الأمر كذلك فانطلقوا أيها الشباب في مضمار الدعوة إلى الله مخلصين صادقين.. لتحظوا بالأجر والمثوبة، والرفعة والكرامة.. في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. في مجمع من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً!!
4 – أن يعرف الشاب الأسلوب الأقوم في التأثير على الآخرين:
إن من معالم الأسلوب الأقوم في التأثير أيها الشباب أن يكون فعل الداعية مطابقاً لقوله ’’يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ’’ (الصف:2، 3)، وفي الآية تنديد بالذين يدعون غيرهم إلى الخير وينسون أنفسهم ’’أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ’’ (البقرة:44).
ومن معالم الأسلوب الأقوم في التأثير، دراسة البيئة التي يتم فيها تبليغ الدعوة، فعلى الداعية أن يعرف مراكز الضلال ومواطن الانحراف، وأسلوب العمل الذي يتفق مع عقلية الناس واستعداداتهم ومستوى تفكيرهم، ومبلغ استجابتهم وتقبلهم.
فبلد انتشرت فيه الشيوعية أو الوجودية أو الماسونية، وأصبحت عند أهله انحرافات فكرية وعقدية وخلقية، مثل هذا البلد تختلف الكتب التي ينبغي أن تُنشر فيه، ونوعية المحاضرات التي تُحاضَر فيه، وموضوع الأسئلة والمناقشات التي تُطرَح فيه، تختلف كلياً عن بلد فيه نصارى، وفيه أفكار رأسمالية، وفيه نزعة إلى الحرية والديمقراطية، قال _صلى الله عليه وسلم_: ’’ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة’’ [حديث ضعيف، أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس، ضعيف الجامع 23].
ومن معالم الأسلوب الأقوم في التأثير البدء بالأهم فالمهم: البدء في الدعوة بعقيدة التوحيد قبل العبادة، وبالعبادة قبل مناهج الحياة، وبالكليات قبل الجزئيات، وبالتكوين الفردي قبل الخوض في غمار السياسة.
وهذه هي طريقة النبي _صلى الله عليه وسلم_، وطريقة أصحابه الكرام _رضوان الله عليهم_ في الدعوة كما في حديث معاذ المشهور، كل هذا حتى يستطيع أن يؤثر على الآخرين، وينتشلهم من وهدة الضلال إلى رياض الهداية.
ومن معالم الأسلوب الأقوم في التأثير، الملاطفة الخالصة في دعوة الآخرين إلى الإسلام.
وما أجمل ما عبر عنه القرآن في أسلوب الدعوة وأخلاق الداعية حين قال: ’’وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ’’ (آل عمران: من الآية159)، وقوله: ’’فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى’’ (طـه:44)، ويحضرني الآن – أيها الشباب – قصة الرجل الواعظ الذي دخل على أبي جعفر المنصور، وقد أغلظ عليه في الكلام، فقال له أبو جعفر: يا هذا ارفق بي، أرسل الله _سبحانه_ من هو خير منك إلى من هو شر مني، أرسل الله موسى إلى فرعون فقال له: ’’فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى’’، فخجل الرجل على ما بدر منه، وعرف أنه لم يكن أفضل من موسى _عليه السلام_، وأن أبا جعفر لم يكن أشد شراً من فرعون!!
وقد جاء غلام شاب إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقال له: يا نبي الله أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به، فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: ’’قربوه، اُدن، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال _عليه السلام_: أتحبه لأمك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: فكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم’’ حتى ذكر العمة والخالة، ثم وضع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يده على صدره وقال: ’’اللهم طهّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصِّن فرجه’’ فلم يكن شيء أبغض عليه من الزنا!! [حديث صحيح، أخرجه أحمد 5/256-257، الصحيحة 1/645 برقم 370].
أيها الشباب: إن مطابقة أفعالكم لأقوالكم؛ الناس يستجيبون لكم ويثقون بكم..
أيها الشباب: إن دراستكم للبيئة التي تدعون؛ تجعل جهودكم مباركة ولا تذهب أدراج الرياح..
أيها الشباب: إن بدئكم الدعوة إلى الله بالأهم فالمهم.. يحقق الله الهدى والخير على أيديكم..
أيها الشباب: إن ملاطفتكم للناس حين تبلّغون رسالات ربكم، القلوب ترنوا إليكم، والنفوس تتعلق بكم، والناس يقبلون على دعوتكم، فاحرصوا يا شباب أن تكونوا الدعاة الموفقين، والهداة الناجحين، والجنود العاملين المخلصين، فالله لا يخيّب مسعاكم، ولن يتركم أعمالكم، إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم...
5 – أن يعمق الشاب في نفسه عقيدة القضاء والقدر:
إنه ينبغي أن يترسخ في نفس المسلم، ولا سيما الداعية إلى الله...
إن معنى ذلك أن تعتقد أن الآجال بيد الله، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وعليه أن يضع نصب عينيه قوله _تعالى_: ’’قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ’’ (التوبة:51)، وأن يردد صباح مساء قوله جل جلاله: ’’وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً...’’ (آل عمران: من الآية145)، وبهذا يتحرّر الداعية من الخوف والجزع، ويتحلى بالشجاعة والإقدام، ويهتف بما هتف به علي _رضي الله عنه_حين كان يجابه الأعداء، ويقارع الكفار في غمرات الحروب والوغى:
أيُّ يوميّ من الموت أفرّ يوم لا يُقدر أم يوم قُدِر
يوم لا يُقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحَذِر
إن معنى ذلك أن يؤمن الداعية من أعماق نفسه أن الأرزاق بيد الله، وأن ما بسطه الله على العبد من رزق لم يكن لأحد أن يمنعه، وأن ما أمسكه عليه لم يكن لأحد أن يعطيه... وعليه أن يضع نصب عينية قول الحق _سبحانه_: ’’إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً’’ (الإسراء:30)، وأن يردد صباح مساء قوله _جل جلاله_: ’’وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ’’ (الذاريات:22، 23).
وبهذا يتحرّر الداعية من الذل والبخل، والشح بالنفس.. ويتحلى بالعزة والإيثار والإنفاق في سبيل الله... ويهتف بما هتف به الإمام الشافعي حين كان يتغنى بعزة النفس، وطلب المعالي، والاقتناع بكفاف العيش:
أنا إن عشتُ لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي نفسُ حرٍّ ترى المذلة كفرا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري فلماذا أخاف زيداً وعمروا
إن معنى ذلك أن يرضى الداعية بما كتبه الله عليه من ابتلاءات الخوف والجوع والمرض ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، وأن كل ما يصيبه إنما يجري بقضاء الله وقدره، وبمشيئته وإرادته... وأنه لا كاشف لكرب إلا هو، ولا واهب للنعمة إلا من اتصف بالغنى والقدرة _سبحانه_.. وعليه أن يضع نصب عينيه قول الحق _سبحانه_: ’’وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ’’ (البقرة:155، 156)، وأن يردّد صباح مساء قوله _جل جلاله_: ’’وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ’’ (الأنعام:17).
وبهذا يتحرّر الداعية من نزعة الهواجس النفسية والأفكار المخيفة والتحسّب للابتلاء...
ويتحلى برباطة الجأش، والاستسلام لقضاء الله وقدره في كل ما ينوب ويروع، ويبيت وهو مطمئن النفس، مرتاح البال، هادئ الشعور... ويهتف بما هتف به الطغرائي في لاميته حين قال:
حب السلامة يُثني هم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً في الأرض أو سلماً في الجو فاعتزل
إن الذين يعتذرون عن واجب الدعوة، وتبليغ رسالة الإسلام بكلمات مقنعة يرضون بها أنفسهم وضمائرهم، ويعتذرون بالضعف والأهل والعيال وقطع الرزق.. ويعتذرون بما يتحسّبون به من أذى في تبليغ الدعوة وإعلان كلمة الحق... نقول لهؤلاء جميعاً:
إن الإسلام بنى حقيقة التوحيد على الإيمان بالله، والرضا بقضائه وقدره، والتسليم لجنابه فيما ينوب ويروع... أمّا أن يخاف الناس على رزقهم ومعاشهم، ويحسبون ألف حساب للأذى والاضطهاد.. فهذا شأن الرعديد الجبان الذي لم يذق في قلبه طعم الإيمان، والذي لم يفهم بعدُ أن الله _سبحانه_ هو المُغني والمُفقر، والمعطي والمانع، والمُعز والمذل، والقاضي والمقدِّر، وهو على كل شيء قدير.
وإليكم يا من تحسبون لقطع الرزق حساباً، قصة هذه المرأة المؤمنة الصابرة التي تربّت في مدرسة الإيمان، ورتعت في روضة اليقين، ونشأت على حب الله والرسول والإسلام...
إليكم موقفها الرائع، وجوابها المفحم، وذلك حين خرج زوجها للجهاد، وجاءها من يستثير حزنها وأساها ويهيّج عاطفتها وإحساسها... جاءها من يقول لها: أيتها الأم المسكينة، من يقوم على عيالك، ويرعى أولادك، إذا قدّر الله على زوجك الموت، وكتب له الشهادة؟
فما كان منها إلا أن صرختْ في وجهه، وقالت له في ثقة وإيمان واطمئنان: إني أعرف زوجي أكّالاً ولم أعرفه رزّاقاً، فإذا مات الأكّال بقي الرزاق.
وإليكم يا من تتهيّبون الموت، وتخشون المعارك، وتحرصون على الحياة... إليكم ما قاله سيف الله خالد بن الوليد _رضي الله عنه_: ’’إني حضرت مئة حرب أو زهاءها وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية سهم... أهكذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر (الحمار)؟ فلا نامت أعين الجبناء!!..’’.
وتعلمون يا شباب، أن من سنن الله في الأنبياء والمصلحين، والدعاة إلى الله.. التعرض لأصناف الابتلاء في تبليغهم، والتصدي لمكائد الأعداء في دعوتهم.. وهذا أمر طبعي حين يقف الحق والباطل وجهاً لوجه، وإليكم ما يقوله الحق _جل جلاله_: ’’الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ’’ (العنكبوت:1-3)، وقوله: ’’فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...’’ (آل عمران: من الآية195).
وإليكم ما يقوله سيد الدعاة، وقائد المجاهدين _صلوات الله وسلامه عليه_ لما اشتد إيذاء قريش على ضعفاء المؤمنين، وقد جاؤوا إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ – وهو متوسد بردة في ظل الكعبة – يقولون: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال لهم النبي _صلى الله عليه وسلم_: ’’قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون’’ [حديث صحيح، أخرجه البخاري 12/315 (6943)].
فما عليكم يا شباب الدعوة إلا أن توطنوا أنفسكم على الصبر، وأن توطدوها على التحمل والثبات، وأن تعمّقوا في نفوسكم عقيدة القضاء والقدر... حتى تَصِلوا في نهاية المطاف إلى نهاية النصر المؤزر، وتحظوا برضوان الله وجنته، وتلقوا الله _عز وجل_ في مجمع من الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً... [انظر هذا وما قبله في دور الشباب في حمل رسالة الإسلام لعبد الله علوان، ط دار السلام – بيروت].
6 – أن يؤصّل الشاب بينه وبين الجماعة العاملين التحاب والتواثق والتعاون:
وذلك بالتناصح والتواصي بينهم بالحق والصبر، إنه لا غنى عن هذه العوامل لنظام أي جماعة في الأرض..
إنه لو تخلّق كل فرد بأعلى ما يكون من الصفات الجميلة والأخلاق المحمودة وليس بينه وبين غيره من العاملين تلكم الصفات المذكورة، فإنهم لا يستطيعون أبداً أن يقوموا في وجه الباطل ويقارعوا أهله مقارعة الند للند، إن الأمة الإسلامية ما زال ولا يزال منها أفراد متحلون بأعلى الصفات والأخلاق الحسنة؛ إننا لو تحدينا أمم العالم أن تأتي إحداها بمثل هذا؛ فلعلها لا تستطيع الرد على هذا التحدّي.
وإنها لقضية قاصرة إلى حدّ الصلاح الفردي... إنها تلكم التربية الإيمانية...
إن بهلواناً، مهما كان شجاعاً قوياً في حد ذاته، ويستطيع أن يحمل أكبر كمية من الوزن ويصرع عدة أفراد في المصارعة، فإنه لا يستطيع على جل حال أن يقوم في وجه فرقة عسكرية منظمة...
وهكذا فإن كان فينا أفراد قد قطعوا كل ما للصلاح الفردي من المراحل، ولكن بدون أن يكون لهم نصيب من الارتباط والتعاون الاجتماعي، فإنما هم بمثابة البهلوان الذي لا يعمل كعضو فعال لفرقة منظمة ومع ذلك يدعو لمصارعته فرقة منظمة من أعدائه...
إننا نستطيع أن نقول وذلك باعتبار الصلاح الفردي، إن من الشباب من قد خصهم الله بعلوٍ في الأخلاق، وطهارة في السيرة، وإنا لنغبطهم على ذلك، راجين من الله أن يثبتنا وإياهم على طريق الخير والهدى إنه من الظاهر أن كل فرد في هذه الدنيا إنما يعيش متعاملاً مع غيره من الأفراد، فإذا لم يكن بين الأفراد حسن التظان والمساواة والإخلاص والإيثار والتضحية من بعضهم لبعض.
أو نقول بعبارة أوجز وأشمل ’’صلاح القلوب’’ فإن الاختلاف في طبائعهم لا بد أن يقضي على ما يبت.... من التعاون بينهم، إذا لا يسير نظام العمل إلا على مبدأ: أن تترك شيئاً لخاطر غيرك، ويترك هذا الغير شيئاً لخاطرك.. أيها الشباب: إذا كنتم لا تجدون أنفسكم مستعدين لها فلا تتفكروا أبداً في إحداث انقلاب في الحياة الاجتماعية في الأسر المسلمة... [انظر هذا في تذكرة دعاة الإسلام لأبي الأعلى المودودي 48-51، المكتب الإسلامي – دمشق].
إنه وبعد ذلك كله من المقدمة في كيفية تكوين شخصية الداعية إلى الله وتربيتها وتذكيرها بهذه المعاني السامية تكون عزيزة كريمة، بل وداعية عظيمة، فتكمل بذلك ذاتيتها وشخصيتها؛ فكان من المناسب لها أن تتصف بالصفات اللازمة لها حتى تكون نفس مؤمنة مسلمة حتى حوت الإسلام كله بتلكم الصفات الحقة.
.المسلم
جمازالجماز
ذكرنا في الحلقة الأولى من القضية التي بين يدينا (المقومات الشخصية للداعية) بعضاً من حاجة المجتمع لهذا الداعية، وبعض الصفات التي يجب أن يتحلى بها، وبعض العوامل في تكوين شخصيته. ونستكمل اليوم الحديث عن البند الأخير، بذكر عوامل أخرى، منها:
3 – أن يعلم الشاب فضل الدعوة والداعية:
أتعرفون يا شباب فضل الدعوة والداعية عند الله؟
أتعرفون المنزلة الكبرى التي خصّ الله بها دعاة الإسلام؟
أتعرفون ماذا أعد الله للدعاة من مثوبة وأجر وكرامة؟
يكفي الدعاة منزلةً ورفعةً أنهم خير هذه الأمة على الإطلاق ’’كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...’’ (آل عمران: من الآية110).
يكفي الدعاة سمواً وفلاحاً أنهم المفلحون والسعداء في الدنيا والآخرة ’’وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ’’ (آل عمران:104).
يكفي الدعاة شرفاً وكرامة أن قولهم في مضمار الدعوة أحسن الأقوال، وأن كلامهم في التبليغ أفضل الكلام ’’وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ’’ (فصلت:33).
يكفي الدعاة منّاً وفضلاً أن الله _سبحانه_ يشملهم برحمته الغامرة، ويخصهم بنعمته الفائقة ’’وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ’’ (التوبة:71).
يكفي الدعاة أجراً ومثوبة أنّ أجرهم مستمر، ومثوبتهم دائمة، قال _صلى الله عليه وسلم_: ’’من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً...’’ [حديث صحيح، أخرجه مسلم].
يكفي الدعاة فخراً وخيرية.. أن تسبّبهم في الهداية خير مما طلعت عليه الشمس وغربت، قال _صلى الله عليه وسلم_: ’’... فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم’’ [حديث صحيح، أخرجه البخاري 7/70 برقم 3701]، وفي حديث آخر ’’خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت’’ [حديث ضعيف، أخرجه الطبراني في الكبير (ضعيف الجامع 4646)].
هل رأيتم يا شباب منزلة تضاهي منزلة الدعوة؟
هل سمعتم في تاريخ الإنسانية كرامة تعادل كرامة الداعية؟
فإذا كان الأمر كذلك فانطلقوا أيها الشباب في مضمار الدعوة إلى الله مخلصين صادقين.. لتحظوا بالأجر والمثوبة، والرفعة والكرامة.. في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. في مجمع من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً!!
4 – أن يعرف الشاب الأسلوب الأقوم في التأثير على الآخرين:
إن من معالم الأسلوب الأقوم في التأثير أيها الشباب أن يكون فعل الداعية مطابقاً لقوله ’’يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ’’ (الصف:2، 3)، وفي الآية تنديد بالذين يدعون غيرهم إلى الخير وينسون أنفسهم ’’أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ’’ (البقرة:44).
ومن معالم الأسلوب الأقوم في التأثير، دراسة البيئة التي يتم فيها تبليغ الدعوة، فعلى الداعية أن يعرف مراكز الضلال ومواطن الانحراف، وأسلوب العمل الذي يتفق مع عقلية الناس واستعداداتهم ومستوى تفكيرهم، ومبلغ استجابتهم وتقبلهم.
فبلد انتشرت فيه الشيوعية أو الوجودية أو الماسونية، وأصبحت عند أهله انحرافات فكرية وعقدية وخلقية، مثل هذا البلد تختلف الكتب التي ينبغي أن تُنشر فيه، ونوعية المحاضرات التي تُحاضَر فيه، وموضوع الأسئلة والمناقشات التي تُطرَح فيه، تختلف كلياً عن بلد فيه نصارى، وفيه أفكار رأسمالية، وفيه نزعة إلى الحرية والديمقراطية، قال _صلى الله عليه وسلم_: ’’ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة’’ [حديث ضعيف، أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس، ضعيف الجامع 23].
ومن معالم الأسلوب الأقوم في التأثير البدء بالأهم فالمهم: البدء في الدعوة بعقيدة التوحيد قبل العبادة، وبالعبادة قبل مناهج الحياة، وبالكليات قبل الجزئيات، وبالتكوين الفردي قبل الخوض في غمار السياسة.
وهذه هي طريقة النبي _صلى الله عليه وسلم_، وطريقة أصحابه الكرام _رضوان الله عليهم_ في الدعوة كما في حديث معاذ المشهور، كل هذا حتى يستطيع أن يؤثر على الآخرين، وينتشلهم من وهدة الضلال إلى رياض الهداية.
ومن معالم الأسلوب الأقوم في التأثير، الملاطفة الخالصة في دعوة الآخرين إلى الإسلام.
وما أجمل ما عبر عنه القرآن في أسلوب الدعوة وأخلاق الداعية حين قال: ’’وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ’’ (آل عمران: من الآية159)، وقوله: ’’فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى’’ (طـه:44)، ويحضرني الآن – أيها الشباب – قصة الرجل الواعظ الذي دخل على أبي جعفر المنصور، وقد أغلظ عليه في الكلام، فقال له أبو جعفر: يا هذا ارفق بي، أرسل الله _سبحانه_ من هو خير منك إلى من هو شر مني، أرسل الله موسى إلى فرعون فقال له: ’’فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى’’، فخجل الرجل على ما بدر منه، وعرف أنه لم يكن أفضل من موسى _عليه السلام_، وأن أبا جعفر لم يكن أشد شراً من فرعون!!
وقد جاء غلام شاب إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقال له: يا نبي الله أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به، فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: ’’قربوه، اُدن، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال _عليه السلام_: أتحبه لأمك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: فكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم’’ حتى ذكر العمة والخالة، ثم وضع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يده على صدره وقال: ’’اللهم طهّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصِّن فرجه’’ فلم يكن شيء أبغض عليه من الزنا!! [حديث صحيح، أخرجه أحمد 5/256-257، الصحيحة 1/645 برقم 370].
أيها الشباب: إن مطابقة أفعالكم لأقوالكم؛ الناس يستجيبون لكم ويثقون بكم..
أيها الشباب: إن دراستكم للبيئة التي تدعون؛ تجعل جهودكم مباركة ولا تذهب أدراج الرياح..
أيها الشباب: إن بدئكم الدعوة إلى الله بالأهم فالمهم.. يحقق الله الهدى والخير على أيديكم..
أيها الشباب: إن ملاطفتكم للناس حين تبلّغون رسالات ربكم، القلوب ترنوا إليكم، والنفوس تتعلق بكم، والناس يقبلون على دعوتكم، فاحرصوا يا شباب أن تكونوا الدعاة الموفقين، والهداة الناجحين، والجنود العاملين المخلصين، فالله لا يخيّب مسعاكم، ولن يتركم أعمالكم، إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم...
5 – أن يعمق الشاب في نفسه عقيدة القضاء والقدر:
إنه ينبغي أن يترسخ في نفس المسلم، ولا سيما الداعية إلى الله...
إن معنى ذلك أن تعتقد أن الآجال بيد الله، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وعليه أن يضع نصب عينيه قوله _تعالى_: ’’قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ’’ (التوبة:51)، وأن يردد صباح مساء قوله جل جلاله: ’’وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً...’’ (آل عمران: من الآية145)، وبهذا يتحرّر الداعية من الخوف والجزع، ويتحلى بالشجاعة والإقدام، ويهتف بما هتف به علي _رضي الله عنه_حين كان يجابه الأعداء، ويقارع الكفار في غمرات الحروب والوغى:
أيُّ يوميّ من الموت أفرّ يوم لا يُقدر أم يوم قُدِر
يوم لا يُقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحَذِر
إن معنى ذلك أن يؤمن الداعية من أعماق نفسه أن الأرزاق بيد الله، وأن ما بسطه الله على العبد من رزق لم يكن لأحد أن يمنعه، وأن ما أمسكه عليه لم يكن لأحد أن يعطيه... وعليه أن يضع نصب عينية قول الحق _سبحانه_: ’’إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً’’ (الإسراء:30)، وأن يردد صباح مساء قوله _جل جلاله_: ’’وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ’’ (الذاريات:22، 23).
وبهذا يتحرّر الداعية من الذل والبخل، والشح بالنفس.. ويتحلى بالعزة والإيثار والإنفاق في سبيل الله... ويهتف بما هتف به الإمام الشافعي حين كان يتغنى بعزة النفس، وطلب المعالي، والاقتناع بكفاف العيش:
أنا إن عشتُ لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي نفسُ حرٍّ ترى المذلة كفرا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري فلماذا أخاف زيداً وعمروا
إن معنى ذلك أن يرضى الداعية بما كتبه الله عليه من ابتلاءات الخوف والجوع والمرض ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، وأن كل ما يصيبه إنما يجري بقضاء الله وقدره، وبمشيئته وإرادته... وأنه لا كاشف لكرب إلا هو، ولا واهب للنعمة إلا من اتصف بالغنى والقدرة _سبحانه_.. وعليه أن يضع نصب عينيه قول الحق _سبحانه_: ’’وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ’’ (البقرة:155، 156)، وأن يردّد صباح مساء قوله _جل جلاله_: ’’وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ’’ (الأنعام:17).
وبهذا يتحرّر الداعية من نزعة الهواجس النفسية والأفكار المخيفة والتحسّب للابتلاء...
ويتحلى برباطة الجأش، والاستسلام لقضاء الله وقدره في كل ما ينوب ويروع، ويبيت وهو مطمئن النفس، مرتاح البال، هادئ الشعور... ويهتف بما هتف به الطغرائي في لاميته حين قال:
حب السلامة يُثني هم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً في الأرض أو سلماً في الجو فاعتزل
إن الذين يعتذرون عن واجب الدعوة، وتبليغ رسالة الإسلام بكلمات مقنعة يرضون بها أنفسهم وضمائرهم، ويعتذرون بالضعف والأهل والعيال وقطع الرزق.. ويعتذرون بما يتحسّبون به من أذى في تبليغ الدعوة وإعلان كلمة الحق... نقول لهؤلاء جميعاً:
إن الإسلام بنى حقيقة التوحيد على الإيمان بالله، والرضا بقضائه وقدره، والتسليم لجنابه فيما ينوب ويروع... أمّا أن يخاف الناس على رزقهم ومعاشهم، ويحسبون ألف حساب للأذى والاضطهاد.. فهذا شأن الرعديد الجبان الذي لم يذق في قلبه طعم الإيمان، والذي لم يفهم بعدُ أن الله _سبحانه_ هو المُغني والمُفقر، والمعطي والمانع، والمُعز والمذل، والقاضي والمقدِّر، وهو على كل شيء قدير.
وإليكم يا من تحسبون لقطع الرزق حساباً، قصة هذه المرأة المؤمنة الصابرة التي تربّت في مدرسة الإيمان، ورتعت في روضة اليقين، ونشأت على حب الله والرسول والإسلام...
إليكم موقفها الرائع، وجوابها المفحم، وذلك حين خرج زوجها للجهاد، وجاءها من يستثير حزنها وأساها ويهيّج عاطفتها وإحساسها... جاءها من يقول لها: أيتها الأم المسكينة، من يقوم على عيالك، ويرعى أولادك، إذا قدّر الله على زوجك الموت، وكتب له الشهادة؟
فما كان منها إلا أن صرختْ في وجهه، وقالت له في ثقة وإيمان واطمئنان: إني أعرف زوجي أكّالاً ولم أعرفه رزّاقاً، فإذا مات الأكّال بقي الرزاق.
وإليكم يا من تتهيّبون الموت، وتخشون المعارك، وتحرصون على الحياة... إليكم ما قاله سيف الله خالد بن الوليد _رضي الله عنه_: ’’إني حضرت مئة حرب أو زهاءها وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية سهم... أهكذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر (الحمار)؟ فلا نامت أعين الجبناء!!..’’.
وتعلمون يا شباب، أن من سنن الله في الأنبياء والمصلحين، والدعاة إلى الله.. التعرض لأصناف الابتلاء في تبليغهم، والتصدي لمكائد الأعداء في دعوتهم.. وهذا أمر طبعي حين يقف الحق والباطل وجهاً لوجه، وإليكم ما يقوله الحق _جل جلاله_: ’’الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ’’ (العنكبوت:1-3)، وقوله: ’’فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...’’ (آل عمران: من الآية195).
وإليكم ما يقوله سيد الدعاة، وقائد المجاهدين _صلوات الله وسلامه عليه_ لما اشتد إيذاء قريش على ضعفاء المؤمنين، وقد جاؤوا إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ – وهو متوسد بردة في ظل الكعبة – يقولون: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال لهم النبي _صلى الله عليه وسلم_: ’’قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون’’ [حديث صحيح، أخرجه البخاري 12/315 (6943)].
فما عليكم يا شباب الدعوة إلا أن توطنوا أنفسكم على الصبر، وأن توطدوها على التحمل والثبات، وأن تعمّقوا في نفوسكم عقيدة القضاء والقدر... حتى تَصِلوا في نهاية المطاف إلى نهاية النصر المؤزر، وتحظوا برضوان الله وجنته، وتلقوا الله _عز وجل_ في مجمع من الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً... [انظر هذا وما قبله في دور الشباب في حمل رسالة الإسلام لعبد الله علوان، ط دار السلام – بيروت].
6 – أن يؤصّل الشاب بينه وبين الجماعة العاملين التحاب والتواثق والتعاون:
وذلك بالتناصح والتواصي بينهم بالحق والصبر، إنه لا غنى عن هذه العوامل لنظام أي جماعة في الأرض..
إنه لو تخلّق كل فرد بأعلى ما يكون من الصفات الجميلة والأخلاق المحمودة وليس بينه وبين غيره من العاملين تلكم الصفات المذكورة، فإنهم لا يستطيعون أبداً أن يقوموا في وجه الباطل ويقارعوا أهله مقارعة الند للند، إن الأمة الإسلامية ما زال ولا يزال منها أفراد متحلون بأعلى الصفات والأخلاق الحسنة؛ إننا لو تحدينا أمم العالم أن تأتي إحداها بمثل هذا؛ فلعلها لا تستطيع الرد على هذا التحدّي.
وإنها لقضية قاصرة إلى حدّ الصلاح الفردي... إنها تلكم التربية الإيمانية...
إن بهلواناً، مهما كان شجاعاً قوياً في حد ذاته، ويستطيع أن يحمل أكبر كمية من الوزن ويصرع عدة أفراد في المصارعة، فإنه لا يستطيع على جل حال أن يقوم في وجه فرقة عسكرية منظمة...
وهكذا فإن كان فينا أفراد قد قطعوا كل ما للصلاح الفردي من المراحل، ولكن بدون أن يكون لهم نصيب من الارتباط والتعاون الاجتماعي، فإنما هم بمثابة البهلوان الذي لا يعمل كعضو فعال لفرقة منظمة ومع ذلك يدعو لمصارعته فرقة منظمة من أعدائه...
إننا نستطيع أن نقول وذلك باعتبار الصلاح الفردي، إن من الشباب من قد خصهم الله بعلوٍ في الأخلاق، وطهارة في السيرة، وإنا لنغبطهم على ذلك، راجين من الله أن يثبتنا وإياهم على طريق الخير والهدى إنه من الظاهر أن كل فرد في هذه الدنيا إنما يعيش متعاملاً مع غيره من الأفراد، فإذا لم يكن بين الأفراد حسن التظان والمساواة والإخلاص والإيثار والتضحية من بعضهم لبعض.
أو نقول بعبارة أوجز وأشمل ’’صلاح القلوب’’ فإن الاختلاف في طبائعهم لا بد أن يقضي على ما يبت.... من التعاون بينهم، إذا لا يسير نظام العمل إلا على مبدأ: أن تترك شيئاً لخاطر غيرك، ويترك هذا الغير شيئاً لخاطرك.. أيها الشباب: إذا كنتم لا تجدون أنفسكم مستعدين لها فلا تتفكروا أبداً في إحداث انقلاب في الحياة الاجتماعية في الأسر المسلمة... [انظر هذا في تذكرة دعاة الإسلام لأبي الأعلى المودودي 48-51، المكتب الإسلامي – دمشق].
إنه وبعد ذلك كله من المقدمة في كيفية تكوين شخصية الداعية إلى الله وتربيتها وتذكيرها بهذه المعاني السامية تكون عزيزة كريمة، بل وداعية عظيمة، فتكمل بذلك ذاتيتها وشخصيتها؛ فكان من المناسب لها أن تتصف بالصفات اللازمة لها حتى تكون نفس مؤمنة مسلمة حتى حوت الإسلام كله بتلكم الصفات الحقة.
.المسلم