إن الدارس لتراثنا الإسلامي حول السنة النبوية يلاحظ جنوح أغلبها إلى السرد التاريخي والاكتفاء بجوانبها الإيجابية المربِّيَة فقط، رغم أهميته وضرورته، في حين غياب الثمرة العملية وربطها بواقع الأمة، انطلاقا من أول الكتب اعتناء بالسيرة النبوية وهو كتاب المغازي والسير لابن إسحاق ( ت 151ه)، والذي لخصه ابن هشام (ت 218هـ) إلى كتاب السيرة لابن حبان ( 354 هـ) ومرورا بالروض الأنف للإمام السهيلي المغربي ( 589هـ)، إلى زاد المعاد لابن القيم ( 751هـ) وختاما بالرحيم المختوم للمباركفوري ( 2006م).
فإن الناظر لكل ما سبق لا يخطئ انسياقها أساسا إلى السرد القصصي والقراءة النصية، وبمعالجتها السيرة كحقبة تاريخية لا تجدد فيها بله إحيائها واستثمار منهجها بعد تحيينها على واقعهم. ويبقى الاستثناء بعض نماذج الكتابات خاصة في عصر النهضة من أمثال سعيد رمضان البوطي في كتابه فقه السيرة الذي خصص دراستها في “عمل تطبيقي يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة، في مثلها الأعلى محمد عليه الصلاة والسلام”[1].
لا غرو أن كتاب ” الربيع الأول قراءة سياسية واستراتيجية في السيرة النبوية” لمؤلفه وضاح خنفر[2] يعد بحق طفرة نوعية ومنهجية جديدة في دراسة السيرة النبوية ،فنجح نظرياً وعمليا في “دراسة المنهجية الاستراتيجية للنبي، من خلال النظر في التصرفات الاستراتيجية له، وصولاً إلى فتح مكة”[3]، فخلص إلى أن كل فعل أو قول نبوي من اتصالات ومراسلات وتحالفات وبعثات عسكرية إلا و”تميز بأولويات واضحة ونسقٍ كليّ ناظم وتقدير دقيق لموازين القوة وقدرة عالية على الاستشراف”[4].
جمع الكتاب ببراعة بين حسنين، النص السردي التاريخي والاستثمار السياسي الاستراتيجي، والبعدان لا شك متلازمان في دراسة السيرة العطرة باعتبارها نموذجاً عملياً حيّاً ومتجدداً في الزمان والمكان، وتجربة حضارية ناجحةً مسددة بالوحي من جهة وبالاجتهاد البشري الجماعي لأن ” دراسة السيرة النبوية في المجتمع الجاهلي الأول تعطينا نموذج النشأة، ومعيار القيمة، وحقيقة التاريخ، وحظ الجهد البشري، وحياطة العناية الإلهية، وشروط هذه العناية. تعطينا صورة لسنة الله في فترة الميلاد الإسلامي نستهدي بملامحها العامة في سيرة التجدد الإسلامي. مع مراعاة النقلة الزمانية، وانقطاع الوحي الموجه للحركة الأولى يحل محله الاجتهاد والتسديد والمقاربة”[5].
في المقابل، لم يسقط المؤلف في ثقافة ريادة العبقرية والقيادة العربية القومية المتمثلة في شخص “محمد” عليه الصلاة والسلام، لكنه أحال المزية فيه صلى الله عليه وسلم الى ما إختاره الله له من القيام بعبء الرسالة و النبوة قبل أن يحيلها الى العبقرية التي جبل عليها صلى الله عليه وسلم و الذكاء الذى فطر عليه، فالأساس الأول فى تكوينه صلى الله عليه وسلم أنه رسول و نبي ثم تأتى المزايا الأخرى كلها من عبقرية و دهاء وذكاء مبنية على هذا الأساس ولاحقة به”[6].
صدر كتاب الربيع الأول سنة 2020 من مركز جسور للترجمة، ويقع في “398” صفحة، مقسمة بعد المدخل والمقدمة إلى عشرين فصلا هي بمثابة مطالب يمكن تقسيمها إلى ثلاثة محاور كبرى:
- المحور الأول رسم فيه الكاتب مكةَ مكاناً ومكانةً، سياسياً واقتصادياً، واستثنائيتها بين القبائل العربية، ثم تركيبتها القبلية وصراعاتها الداخلية في القدم وتجليات ذلك إلى ما بعد البعثة النبوية، ثم وزنها الجيواقتصادي بين الدول العظمى آنذاك الفرس والروم، فإن كانت الجغرافية صنع الله فإن التاريخ هو فعل الانسان في الزمان والمكان.
- المحور الثاني الممتد من بعيد البعثة النبوية إلى قبيل صلح الحديبية، حيث تلمس فيه الكاتب بجدارة المنهج النبوي الاستراتيجي في خلق النواة الصلبة للإسلام، ومواءمتها الدعوية بين السر والعلن، ومدى إدارة الأزمات، إلى البحث عن السلطان النصير، ثم نقل يثرب من القرية المهمشة إلى المدينة الحاضرة المنظمة، وتبوئها الصدارة بين القبائل إلى منافستها مكة في إيلافها الاقتصادي، كل ذلك عبر التخطيط المحكم لكل المواجهات العسكرية والتحالفات السياسية واستحضار فقه الأوليات والتقدير الدقيق لموازين القوة مع الحرص الدائم على النظرة الاستشرافية.
- أما المحور الثالث الممتد من صلح الحديبية الذي سماه الله عز وجل فتحا إلى الفتح الميداني لمكة، فهو الانقلاب الاستراتيجي الكبير ونقطة انطلاق الرسالة العالمية الخالدة في الآفاق، واستشراف عهد تحرير الإنسانية وكسر أغلال الفساد والاستبداد والاحتكار.
مما ميز هذا السفر الماتع استعانة مؤلفه بمصادر غير إسلامية، كالمصادر البيزنطية والفارسية والحبشية، إمعانا في إلقاء الضوء على زوايا متعددة على الواقع الدولي والاقتصادي قبيل وبعد البعثة النبوية.
وإلى جانب القرآن الكريم الذي اعتمده الكاتب كأم المصادر حيث ربط السيرة مع الآيات المنزلة على النبي عليه السلام بالزمان والمكان، نجد وقائع السيرة النبوية كمرجع ثان ومقارنته مع كتب التاريخ المدون في ذات الفترة لدى الأمم الأخرى كالفرس والروم والحبشة والحميريين وغيرهم، أما المرجع الثالث فهو قراءة الأحداث المنفردة في السياق العام، لأن المعلومة من دون سياقها لا تقدم معرفة، والمرجع الرابع والأخير هو النظرة الشمولية للواقع الاستراتيجي المتداخل بين ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي وديني، والمتفاعل مع محيطه الإقليمي والدولي.
خلص الكاتب إلى خلاصات جد مهمة للاستراتيجية النبوية باعتبارها مبادئ للمنهج النبوي الاستراتيجي وهي:
- مبدأ إصلاحي أخلاقي، يستثمر الخير الموروث ويزيح الشر المفتعل.
- عدم الاستئصال.
- التفاعل الطويل مع التدافع المترج دون الحسم الفوري.
- التفاؤل العميق المتطلع إلى رحابة المستقبل ولا على ضيق اللحظة الراهنة.
- المبادرة والإقدام خارج مربع الخصوم لدفعه إلى ردود الأفعال.
- الحرص على التماسك الداخلي وتوثيق التحالفات وبناء الائتلافات.
- عدم مواجهة الأعداء مجتمعين.
- المرونة في استخدام القوة الصلبة والقوة الناعمة.
- الموضوعية في التزام الأولويات وتدبير المآلات.
[1] فقه السيرة النبوية، محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر المعاصر لبنان، ط 10، 1411هـ 1991م، ص21
[2] وضاح خنفر إعلامي من مواليد 20 سبتمبر 1968 بجنين فلسطين. رئيس منتدى الشرق، وهو شبكة مستقلة مكرسة لتطوير استراتيجيات طويلة الأجل للتنمية السياسية والعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي لشعوب الشرق الأوسط. شغل سابقًا منصب المدير العام لشبكة الجزيرة الإعلامية.
[3] الربيع الأول قراءة سياسية واستراتيجية في السيرة النبوية، وضاح خنفر، مركز جسور للترجمة بيروت، 2020، ص 15
[4] الربيع الأول قراءة سياسية واستراتيجية في السيرة النبوية، وضاح خنفر، ص16
[5] سنة الله، عبد السلام ياسين، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط 2، 2005، ص26
[6] فقه السيرة النبوية، رمضان البوطي، ص90
*نقلاً عن موقع منار الإسلام للأبحاث والدراسات