بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ” وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ، وَطُورِ سِينِينَ ، وَهَذَا الْبَلَدِ الامِينِ ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْانْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ “.
قسم جليل من رب جليل لأمر جلل. هو الغني عن وجودنا في ملكه، هو المتعال عن استخلافنا في أرضه، هو العلي عن ذكرنا ومعرفتنا له، هو الرفيع عن علمنا به، المجيد القدوس الكبير عن إيماننا بجنابه، ومع ذلك يُقسم لنا تلطفا وتحببا وإظهارا لرحمته الصمدية الأزلية التي كتبها على نفسه وأحاط بها كل شيء من خلقه.
” أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ “، سبحانه ! يحتاجه كل شيء ولا يقوم في وجوده وأمره على شيء، بل هو وحده القيوم على ملكوت كل شيء، لا إله إلا هو.
أقسم المولى سبحانه بالتين والزيتون اللذان اختارهما وكتب عليهما أن يكونا من رزقه لأخص من اصطفى من خلقه وهو الإنسان. ولا يعلم سرَّ ودقة التوافق بين المقسم به والمقسم عليه إلا الله العليم الخبير،
لكن من المعلوم عندنا كثمرة لأبحاث علمية مخبرية دقيقة أن هاتين الثمرتين من ألطف المطهرات لجسم الإنسان، وأغناها لطاقته، وأخفها على كثافة حسه، وألينها لعظامه، وأنقاها لجلده، وأكملها لشفافية روحه. ولا غرابة أن نجدها على رأس قائمة السلع التي كان يستوردها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام ويتناولونها غذاء وإداما ودواء، بل لا استغراب أيضًا أن نجد منبتها الأصيل بالقدس المبارك، مُقام دعوة نبي الله عيسى عليه السلام. هي إذن بروح الإنسان موصولة !
وثنَّى في قسمه بجبل طور، ميدان الميقات الأعظم حيث كلم الله جل جلاله صفيا من أصفيائه موسى عليه السلام. عبد نبي اصطنعه الله وأعده إعدادا روحيا قلبيا وجسديا لتلقي كلامه بمسامعه مباشرة.
حُق لهذا الجبل الشاهد للتجليات الخارقة التي لم تتكرر ولم يحظ بها غيره أن يكون له ذكر محمود في الأولين والآخرين من أجيال الأمة المحمدية ..!
ثم أوتر سبحانه ربنا وثلث في القسم بالبلد الأمين حيث وُلِدَ الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، شمس الرحمات، ومدد الكمالات، وخاتم الرسالات والنبوءات، شفيع الأنام يوم التنادي.
هنا إذن في البلد الأمين ظهرت هذه الأمة، وفي البلد الأمين استقام عودها، وكمل دينها، وساد في العلى مجدها. وهل يستقيم نعيم مهما كان شكله وقدره إن لم يسبقه أمان، ” سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ “، ” إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ، إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ “.
السلام والأمن ذروة النعيم وشرطه ولازمته. فلا قيمة لأسرة أو جماعة أو أمة ينتسب إليها المرء ولا يجد فيها الأمان.
بعد القسم جاء الخبر والبلاغ والعلم اليقين، ” لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم “.
من كمال عناية الله بِنَا وجميل إكرامه لنا وفضله علينا أن خلقنا على هذه الهيئة العجيبة الراقية الدقيقة التي تمكننا من تحقيق مراده من إيجادنا وحكمته من تمييزنا وتميزنا عن سائر خلقه.
أمامنا كل المتناقضات في القيم والأصول والأفكار والخواطر والأحاسيس والعواطف والأفعال والعقائد وعلينا الاختيار.
نحن المعلقون المخيرون بين الارتقاء والانتكاس، بين الكمال والنقص، بين العلو والانحدار، بين الصفاء والكدر، بين التسبيح وسفك الدماء، بين اتباع نداء الفطرة ونتن الهوى، بين معرفة الله ومحبته والجهل به والغفلة عنه، بين ولاية أهل الإحسان الأخيار وموالاة الأشرار. والميزان والقدوة والسراج في كل ذلك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو بصرنا وبصيرتنا ودليلنا ومعلمنا وحبلنا وشفيعنا أمام كل العقبات والنقائص والصدود والعثرات والنكبات والفتن.
صلى عليك الله يا رُوح ورَوْحَ أرواحنا وحياة قلوبنا والسر الأعظم في حياتنا والملاذ الآمن عند كل منحدر يفزعنا. نسأل الله الكريم الوهاب أن يبارك قلوبنا ويطهرها وينورها ويصونها ويتكفل بها لتكون أهلًا لحبك السامي، وأن يُجمل ويزين أرواحنا لتنعكس عليها إشراقات روحك الزكية المزكية عند الصلاة عليك، صلاة طاعة واستجابة لله سبحانه، وصلاة شُكر لك وحمدٍ لمحامدك وتعظيمٍ لجنابك وشوقٍ لجمالك. فنحن طلاب الجبرِ والستر والعفو والحلم من الله العفو الغفور، وأنت الواسطة العظمى والوسيلة المحمودة.
عرج بك الإله إلى كمال المقام ونهاية المرتقى وأنت الأقوم الأكمل الأبرك ظاهرًا وباطنا ليتوجك أنت أنت، ويدلنا عليك نحن نحن.. فاللهم أنت الكريم، لك الكرم كله، خزائنه وبحاره، مفاتيحه وأمره فجُد علينا بمعرفة نبيك وحبيبك ومصطفاك، وارزقنا حبا له يرفعنا إليك ويقربنا منك ويدخلنا في حضرتك مع المنعم عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، لا إله إلا أنت !!! (يتبع)
*نقلاً عن موقع منار الإسلام