مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
عملية إنتاج المربي1/2
تظل العملية التربوية قاصرة عاجزة على أن تؤتى ثمارها مادامت الحركة الإسلامية لم تستطع أن تنتج المربين الأكفاء الذين يستطيعون التطبيق العملي للأطر النظرية المنهجية للعمل الإسلامي.

وعملية إنتاج المربي الكفء عملية معقدة للغاية تتشابك فيها عدة محاور إنسانية واجتماعية ونفسية تخرجها عن كونها عملية معملية قياسية بالمعنى الذي ينص عليه المنهج التجريبي العلمي المعملي..

فالعناصر الإنسانية المتكاثرة - كمدى رسوخ العقائد والقيم والمبادئ الشرعية ومدى الاستقرار النفسي للمربي وقربه أو بعده عن الشخصية السوية ومدى تشربه للأخلاق النبوية ومدى الاستعداد للبذل في سبيل تلك العقائد والقناعات - والتي لا يمكن اختبارها معملياً، حيث يستحيل تثبيت بعض العوامل المؤثرة في الاختبار وتغيير الأخرى تجعل هناك ما يشبه الاستحالة في قبول معادلات كتلك المعادلات الكيميائية ثابتة النتائج أو التطبيقات الفيزيائية ثابتة التجريب في عملية التربية الإنسانية!

وإذا اعتبرنا العملية التربوية الناجحة هي ’’ ما يجب أن تقوم على عدة خطوات متتالية ومتجانسة ومتبادلة بين القائم بها (المربي) والمستقبل لها (المتعلم أو المتربي) وأن يكون ذلك في إطار نظري منهجي مقبول يعتمد على أساليب مختلفة بما يتناسب وظروف التطبيق ’’.. فإننا ندرك مدى أهمية القائم المحرك لتلك العملية وهو المربي.

- نظرات التربويين.. رؤية مقارنة

اختلفت نظريات التربويين فيما هو أساسي وما هو فرعي من العناصر الأولية المطلوب وجودها لإنجاح عملية تكوين وإنتاج المربي الكفء، وكان من نتيجة هذا الخلاف أن نادى البعض بتحويل المجتمع المسلم كله إلى مربين ورأى هؤلاء إمكانية تحويل أي مسلم أياً كانت صفاته وإمكاناته إلى مرب لأجيال وموجه لأمة...

ولاشك أن هذا الاتجاه – وهو الاتجاه السائد الآن بين طوائف العمل الإسلامي – لا يفرق بين الأدوار التي يجب أن يقوم بها الأفراد كل على حده وما هي المواصفات المطلوبة لكل دور، فإنه ولاشك يجب أن يفرق بين دور المسلم كداعية إلى الله وبين دوره كإداري وقيادي ميداني وبين دوره كمرب ومعلم..

فالداعية وصف عام يجمع شتى الأدوار وأما القيادي الميداني والإداري فيحتاج إلى مواصفات قد تخصه بالذات دون غيره، من الخبرة و الحزم الشديد والجرأة والشجاعة والمغامرة والمبادرة والتتبع والاستقصاء و الحكمة والفراسة... إلى غير ذلك مما هو معروف مما كان يتصف به وبأكثر منه القادة المغاوير أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ في غزواتهم وحروبهم وفتوحاتهم.. فلك أن تتصور شخصية كشخصية خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص أو غيرهم في مقابلة شخصية مدار عملها على التربية والتعليم والتقويم والتوجيه للأمة كمعاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس _رضي الله عنهم أجمعين_..

- اتجاهات اختيار الصفات..

فشخصية القائد إذن هي تلك الشخصية التي تستطيع تحقيق إنجازات الأهداف المعينة لها من خلال توجيه الأفراد التابعين لها، فهي إذن شخصية ينتهي دورها المعين عند بلوغ الهدف المحدد ،

أما شخصية المربي: فهي تلك الشخصية التي تستطيع تشكيل الأفراد وتهيئتهم على شتى المستويات العلمية والإيمانية والسلوكية وغيرها..

وبالعموم فإن هناك اتجاهين في طريقة اختيار المربين:

الأول: اتجاه التشدد في الانتقاء و المبالغة في تحديد الصفات الخاصة بالمربي، وهو اتجاه تـغـلــب عليه المثالية في تصور حال المربي؛ بحيث ينتهي الأمر عند مطابقة هذه المواصفات واقـعـيــاً إلى صورة نظرية على الأوراق لا علاقة لها بالتطبيق في الواقع

الثاني: يقوم على التساهل في انتقاء صفات المربي؛ بحيث تتسع الدائرة لتشمل أعداداً كبيرة جداً، ودافع ذلك الاتجاه تغليب احتياجات الدعوة وتبعات انتشارها وانفتاحها وزيادة أعداد المتلقين
وكلا الاتجاهين قد أثبت الواقع التطبيقي فشله..!

فالاتجاه الأول تعطيل للعمل التربوي إذ يربطه بالمثال النادر التحقق، وإعاقة لجهود الارتقاء به، ومدعاة لـكـل من يعجز عن محاكاة الصورة المثالية أن يتراجع ويترك العمل،

أما الاتـجـــــاه الـثاني يؤدي إلى إتاحــــة الفـرصــة لغير ذوي الأهلية والكفاية وهي مهلكة لهم، فوق أنها مضيعة للعمل.

وهنا تبرز الحاجة لوضع نموذج للقائمين على العملية التربوية يسترشدون على أساسه بحيث يتلافى سلبيات النموذجين السابقين ويسهل تطبيقه واقعيا.

- العناصر الأساسية المطلوبة لإنتاج المربي الكفء

ونستطيع أن نقول من خلال الاستقراء العملي والعلمي: إن هناك معطيات معينة تقترب - إذا اجتمعت - من عملية ناجحة لإنتاج مرب ناجح، وهذه المعطيات هي (العمق الإيماني، الشخصية السوية، العلم التطبيقي، البيئة المناسبة للتربية، المهارات المخصوصة، التقويم)

ونحاول أن نتلمس أهم مواصفات كل عنصر من تلك العناصر:

أولاً: العمق الإيماني:
وهو العنصر الأول الذي ينبغي توافره في الشخصية المرشحة للقيام بالعملية التربوية، فبدونه تفشل الشخصية في تحقيق أهدافها، بل لا نبالغ إذا قلنا: إن العملية كلها تتعرض للفشل الذريع، ومن عجب ما رأينا في بعض أوساط العمل الإسلامي أن تسند العمل التربوي إلى بعض المربين لا لشيء غير أنهم نشطاء حركيين – كما يحلو للبعض تسميتهم – وتناسى من كلفهم بتلك الأعمال شرط الإيمان العميق الذي هو الشرط الأول في الشخصية التربوية، والذي يقوم أساسه على عدة محاور نذكر بعضها:

أ- الإخلاص:
فكلام المربي الذي يفتقر إلى الإخلاص كدخان في الهواء لن ينتفع به أحد، وإنما الإخلاص زينة الكلام وعطره، يجذب إلى سماعه السامعين ويقرب منه اللاهين، سمع الحسن يوماً واعظاً يعظ الناس، فقال له: يا هذا إما أن يكون في قلبك شراً أو في قلبي، إن حديثك لا يمس قلبي!!

والمربي المخلص يوفقه الله في انتقاء كلامه وموافقة المناسب من أوقاته والمؤثر من ألفاظه والحديث المخلص هو أشد الأحاديث إقناعاً وثباتاً في قلب السامع، يروي أحد تلاميذ القعنبي شيخ البخاري يقول: كان الشيخ يحدثنا ولحيته ترتش بالدموع!!

ب – الصبر:
ودافع الصبر هو الإيمان العميق الذي نتحدث عنه وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، ومقصودنا في الصبر كعنصر أساسي من عناصر شخصية المربي المكونة أن يستطيع الصبر على متعلميه ومتربيه والمجتمعات التي يتوجه إليها، وكذا الصبر على دعوته وأن يثبت عليها وعلى مبادئه وقيمه ومعتقداته، روى عبد الله بن الإمام أحمد أنه سأل أباه يوماً: يا أبت متى الراحة؟ فقال: عند أول قدم أضعها في الجنة!

ج – الزهد:
وهو مطلب هام وعنصر أساس في شخصية المربي، ومعناه الإعراض عن الزينة والالتفات عن المتاع ورجاء الجنة في الآخرة، فليس شيئاً أسوأ من مرب غارق في ملذات الدنيا ومتاعها وزخرفها وما من شيء أسوأ أثراً على المتربين من مرب منكب على جمع الدينار والدرهم وتغيير الثياب وتبديلها، وتعمير البيوت وبنائها، ومهما اختلف الناس في تعريف الزهد والنظر له يبقى حال النبي _صلى الله عليه وسلم_ والصحابة والتابعين والعلماء هو النموذج المثالي الأوضح للاقتداء به، ولقد علمنا أنه ما من أحد منهم إلا وكان معرضا عن الدنيا وزينتها راغباً في الآخرة وجنتها ... وللأسف فكم رأينا من أحوال لمن يشتغلون بالعملية التربوية في هذه الأزمان وهم غارقون في الإسراف والزخرف، فكيف إذن نتصور صفات الجيل الناتج من هكذا مربين؟!

يروي الذهبي في السير أن الإمام أحمد لما سافر إلى عبد الرزاق انقطعت به النفقة فاشتغل حمالاً بأنصاف الدراهم ليشترى طعاما يتقوت به، فرآه عبد الرزاق وهو يحمل على ظهره المتاع، فانفرد به خلف باب بيته وهو قادم للدرس فقال له: يا أحمد إنه عادة لا تجتمع عندي النفقة ولكنني جمعت لك من أهل البيت بعض الدراهم فخذها وانتفع بها فقال أحمد: لو كنت آخذاً من أحد لأخذت منك يا إمام، ولكنني معي نفقتي التي تكفينى وتزيد حتى أعود!!
.المسلم
أضافة تعليق