حتى يكون العتاب جميلا
فيصل علي البعداني
قال لي: أخي لا يعرف غير التبكيت والعتاب؛ إذ لا يكاد يراني حتـى يـبدأ بلومـي وتقـريعي وكأن لا حسنة لي، وكأني لا أجيد إلا مقارفة الخطأ والولوج في بوابة الزلل؛ بصوابٍ في حين، وتحاملٍ ومبالغةٍ وضعف معلومة في أحيان كثيرة، حتى كرهته، وضجرت منه، ولم أعد أطيق لقياه أو سماعَ صوته!
فقلت له: على رِسْلِك، فما فتئ آحاد الناس في كل بيئة - ومنهم الدعاة والمصلحون - يختلف رأيُ هذا عن هذا، ويخطئ هذا على هذا بدواعٍ عديدة، ومن منطلقات مختلفة، يأتي في مقدمتها: الجهل، والظلم، والغفلة، والعجلة، وحب الذات، واتباع الهوى، وضعف التجرد، وتفاوت العباد في الفهوم والطباع والقدرات، كما هو الحال في كل بيئة تتسم بالتفاعل والحراك الاجتماعي؛ إذ النقص في كل البشر سجية، والأصلُ التنوعُ والاختلافُ وحدوثُ المشاحّة والتنافس، ومن الطبيعي الخطأ:
ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كلُّها؟
كفى المرء نُبْلاً أن تُعَدَّ معايبُهْ!
وأمام هذا الواقع؛ ينقسم من يقع عليهم التجنِّي والخطأ[1] إلى فئتين:
فئة كريمة: كبيرة النفس، واسعة البال، تناست الهفوة، وآثرت الصفح الجميل؛ فأخذت بالعفو، وارتدت ثياب الحِلْم، وتخلَّقت بعبير الصبر، واتسمت بالرفق والسماحة واللين؛ حرصاً منها على استدامة المودة، وعدم تعكير أجواء الصفاء مع الإخوة، وتغليباً منها لحُسن الظن، والإدراك بأن الزلة من سمات البشر، ورجاءَ بلوغ المعالي يوم الدين، والظفر بما جاء في قوله - تعالى -: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: ٢٢]، وقوله - عز وجل -: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِـمِينَ} [الشورى: ٠٤]، {وَلَـمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَـمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: ٢٤ - ٣٤].
وفئة فاضلة: نهجت سبيلَ العدل، وآثرت أخْذَ الحق، قناعةً منها بضرورة معالجة الخطأ، وأنّ إحسان الظن لا يمنع المعالجة والتصويب بل يُحتِّمه؛ لكي لا يزداد الزلل وتنجم أخطاءٌ أكبر، وحفاظاً على المحبة وديمومة الإخاء، فنبَّهت على ما ترى فيه تقصيراً تجاهها، وجنوحاً عليها، وعدم مراعاةٍ لمشاعرها؛ معاتِبةً على الزلل، ومطالِبةً بتصحيح الحال، والبِدار إلى الرجوع عن السقطات، وعدم التمادي في التفريط وإتيان مسببات الفرقة وبذور العداوة.
ولا شك أن الاحتمال وإغضاء الطرف، وعدم الالتفات إلى زلـل الإخـوان مـن دون ما تقريعٍ ولا تأنيب، ولا معاتبة، ولا تنبيه على الخطأ؛ أخير وأكمل، يقول الشاعر:
هبْني أتيتُ بجهلٍ ما قُذِفتُ به
فأين فضلُك والحِلْمُ الذي عُرِفا؟
ويقول الآخر:
هبْني أسأتُ، كما تقولُ
فأين عاطفة الأخوّهْ؟
أو إن أسأتَ كما أسأتُ
فأين فضلك والمروّهْ؟
ويتأكد ذلك في حال كان ذلك باختيارٍ ورضا نفسٍ، فلم يورث حقداً ولا ضغينة، ولا جرّ إلى هجرٍ أو دعا إلى قطيعة. يقول الفضيل بن عياض: «الفتوةُ: العفو عن عثرات الإخوان»[2]، وقال الحسن بن وهب: «من حقوق المودة: أخذُ عفو الإخوان، والإغضاء عن تقصيرٍ إن كان»[3]، وحكى الأصمعي عن بعض الأعراب أنه قال : «تناسَ مساوئ الإخوان يدُم لك وُدُّهم»[4]، وقال بعض الحكماء: «الصبر على مضض الأخ خيرٌ من معاتبته، و المعاتبة خيرٌ من القطيعة، والقطيعة خير من الوقيعة»[5].
فالاحتمال في الأصل أجلُّ وأفضل، لكن متى رجَّح مكلومٌ طرْقَ بوابة المعاتبة؛ فلا بد له حينها من التنبه إلى ما يأتي:
- أن يتوثق قبل العتاب من دِقة النقل، وصحة الفهم، وعدم التجني، ويتأكد من صدور الهفوة ووقوع صاحبه في الزلة، حتى لا يلوم على خطأ لم يقع، فيكون هو الملوم بلومه، وأن يعلم بأنه إن لم يصادف بعتابه العلةَ كان ذلك خادشاً للأُلفة، وحامشاً للمودة، ومفسِداً لصحة الأخوّة، وكان نتاج معالجته لنفسٍ سليمة كتركِه معالجة نفسٍ سقيمة سواء بسواء، إن لم يكن أشد.
- نظره في عواقب العتاب وآثاره، وتفكيره في مآلاته، فإن رأى فيه علاجاً للعلل، وتطهيراً للشحناء، واستدامةً للإخاء؛ أقدم عليه. وإن رأى فيه غرساً للعداوة، وجلباً للبِعاد، وزرعاً للبغضاء؛ ترَكَه ولم يحفل به؛ لأنه رُبَّ هجْرٍ مُولَّد من عتابٍ، وجفاء ناشئ عن كتاب.
- أن يتسم بالنية الصالحة والقصد الحَسَن، ويجعل غرضَه من معاتبة أخيه صيانةَ الصحبة وتعميقَ المحبة؛ لأنها - كما قيل - تصلح بالعتاب وتصدق، وألا يكون مرامه منها تقرير الفضل، والانتصار للذات، والقيام بتعنيف الآخر وتبكيته وإثبات خطئه، إذ (العتاب ضربان: عتاب يحيي المودة، وهو ما كان في نفس الود، وعتاب يميتها، وهو ما كان في ذنب وموجدة. التقى أعرابيان فتعاتبا، وإلى جنبيهما شيخ، فقال: أنعِما عيشاً! إن العتاب يبعث التجني، والتجني ذرء المخاصمة، والمخاصمة أخت العداوة، فانتبها عمّا ثمَرَتُه العداوة)[6]. لذا؛ على المرء ألا يعاتب من إخوانه إلا من يحب، ومن له في مكنون القلب منزلة وود، وفي هذا السياق يقول الشاعر:
أُعاتِب ذا المودّة من صديق
إذا ما رابني منه اجتنابُ
إذا ذهب العتاب فليس وُدٌّ
ويبقى الودُّ ما بقيَ العتابُ[7]
- تقليل العتاب وتخفيفه، وتجميل التأنيب، وسلوك طريق الحسنى به، من خلال مراعاة المفاسد والمصالح، ووضع الخطأ في نصابه، وتجنُّب تضخيمه وإعانة الشيطان على أخـيـه أو إثارة الآخرين عليه، بل يقبل الصواب، ويتجنب التعميم، ويعرض عن بعضٍ، ويخاطب صاحبه برفق وإدلال؛ تاركاً التكرار، مقدِّماً السرَّ على العلن، والتعريضَ على التصريح، والمكاتبةَ على المشافهة؛ لأن المباشرة في المعاتبة والغلظة فيها، والإكثار منها؛ مجلبةٌ لقلة الإخوان، فالكيِّس العاقل هو الفَطِن المتغافل، ومَنْ أكثرَ من معاتبة إخوانه وأعظَمَ من لومهم لم تطُل مودته، ولن يدوم لهم بصاحب. يقول موسى ابن جـعفر: «مـن لك بأخيك كله؟ لا تستقصِ عليه فـتبقى بلا أخ»[8]. وقيل: «من عاتب في كل ذنبٍ أخاه؛ فخليقٌ به أن يملَّه ويقلاه»[9]، ومن لم يتغافل ويغمض عينه عن بعض ما في صديقه؛ يمُت وهو عاتب، فأسوأ الآداب وأجفى الخلال تجاه الإخوان: شدةُ العتاب وكثرته.
وما أجمل مقولة بشار بن برد:
إذا كنتَ في كلِّ الأمور معاتباً
صديقَك، لم تلقَ الذي لا تعاتبُه
فعِشْ واحداً، أو صِلْ أخاك؛ فإنهُ
مُقارفُ ذنبٍ مَرَّةً ومجانبُه
إذا أنتَ لم تشرب مراراً على القذى
ظمئتَ؛ وأيُّ الناسِ تصفو مشاربُه؟[10]
ومقولة سعيد الكاتب:
أقلِل عتابَك فالبقاء قليلُ
والدهر يعدل مرّةً ويميلُ
ولعلّ أيامَ الحياة قصيرةٌ،
فعلامَ يكثُر عتبُنا ويطولُ؟
لم أبكِ من زمنٍ ذممتُ صروفَه
إلا بكيتُ عليه كيف يزولُ[11]
- أن يوضح للمعاتَب أن غرضه من العتاب استدامة المودة وإزالة ما يعكرها، ويبدأ عتابه ويختمه بذكر محاسن أخيه المعاتَب، ويُظهِر له المحبة والإشفاق عليه، ويشوب ملامته له بمدح وثناء صادق، حتى يكون ذلك أدعى للولوج إلى قلبه وتقبُّله تجرُّع مرارة العتاب، وحتى يكون في ذلك كثرة دلالة على اتسام الشخص المعاتِب بالإنصاف، والرغبة في حفظ المودة، وتصحيح الحال، وإتيان رفيقه بالصواب.
- أن يتحين الوقت والمكان المناسبين؛ إذ لكل مقامٍ مقالٌ، ولكل فعلٍ أوان، وللعتاب مواضع، وخير القول ما وافق الحال، وفي حفظ الحدود استمرار الخير الموجود. لذا؛ عليه أن يقصر عتابه على حالات الهدوء والاطمئنان وراحة البال التي لا توتُّرَ فيها، ولا غضب من كلا الطرفين فيها.
- ألا يعاتـب إلا من يرجـو أوْبَتـه ويخال رجوعه، فمن لم يكن له لُبٌّ يردعه، أو كان في حالة تحُول بينه وبين الفهم والاستيعاب، أو كان فاقداً لإرادة التراجع، غيرَ مالكٍ للعزيمة، أو غير قادر على التصويب للعلة المرادة؛ لم يحسُـُن عتابُه، ولو عوتب كان في ذلك وضعٌ للشيء في غير موضعه، وإهمال بيِّن لحظِّ النفس، وعدم صيانتها عمّا لا يجدر بها ويحسُن من مثلها.
- أن يُعنى بمعالجة أصل الخطأ وبواعثه ولا يكتفي بمعالجة مظاهره، وألا يصحب عتابه بجفاء، ويرفقه بهجران وقطيعة أو كلمة قاسية أو لفظ نابٍ، فالحر تكفيه الملامة. وعليه أن يكثر عقِبه من التزاور والصلة، والإحسان والكلمة الطيبة، ويداوم على التبسم والبشاشة، وإظهار المودة.
- ألا يقربَنّ الصنيعَ الذي يعاتـب أخـاه على فـعـله، حتى لا يقع في الملامة الواردة في قوله - تعالى -: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٤٤]، وقوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢ - ٣]، التــي نعى الله - تعالـى - فيها على طائفة من المؤمنين تتمدح بخير لا تأتيه، وتتنـزه عن شر وهـي ملوثـة به جاثيـة في أسْـره، وما أجمل مقولة الشاعر:
عوِّد لسانَك قِلّة اللفظِ
واحفظ لسانَك أيّما حِفْظِ
إياك أن تعظ الرجالَ وقد
أصبحتَ محتاجاً إلى الوعْظِ!
- أن يُحسِن الظن بأخيه، ويتجنب الحكم على النوايا، ويضع نفسه موضعه، فيتلمَّس له ما قد يوجد من أعذارٍ دفعته للوقوع في الخطأ، ويحرص على إنصافه وترك التعسف والمبالغة والتجني في إثبات الخطأ، ويدع الإصرار على اعترافه بخطئه قبل التصافي، بل يعطي أخاه فرصة للتعبير عن وجهة نظره، ويقبل عذرَه، ويرضى عنه، ويعفو عن خطيئته والزلة التي حدثت منه في حقه؛ إذ المؤمن سمحٌ ليِّنٌ، سليم الصدر، حسَن الظن في الأصل، يطلب المعاذير لإخوانه، سواء صمَت الآخر ولم يتمادَ، أو قال: (لم أفعل)، أو قال: (فعلت لأجل كذا)، أو قال: (فعلت وقد أسأت). قال عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه -: «أعقل الناس أعذرُهم لهم»[12]، وقال بعض الأدباء : «من أحبّ أن يسلم له صديقه، فليقبلْ عذرَه»[13]، وقال الشاعر في هذا السياق:
اقبلْ معاذيرَ من يأتيك معتذِراً
إنْ برَّ عندك فيما قالَ أو فَجَرَا
فقد أطاعك من أرضاك ظاهرُه
وقد أجلّك من يعصيك مستتِرَا
كما على من عوتب أن يتنبه إلى الجوانب التالية:
- أن يحمد الله - تعالى - على أن سخّر له من إخوانه من يعاتبه، وأن يعلم أنه بذلك مُنَعَّم محبور، إذ في العتاب حياة بين أقوام، وبعث على الإجلال والإكرام، وهو رائد الإنصاف، وشفيع المودة، ويد للمحافظة؛ تظهر للمرء من خلاله عيوبٌ خافية، ويستطيع أن يزيل به من مسيرة العلاقة بينه وبين إخوته ما يعكر صفاء الوداد، ويهيج البغضاء والحقد، ويقطع أواصر الصحبة. قال بعض الحكماء : العتاب علامة الوفاء، وسلاح الأكفاء، وحاصد الجفاء، وقال آخر: ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد، وضربة الناصح خير من محبة الشّاني[14].
- أن يُحسِن الظنَّ بأخيه المعاتِب له، وينظر إليه على أن غرضه من المعاتبة التنقيب عن علة لأخذ العفو وحدوث التصافي، وأنه عينه التي تريه الزلل، وتنبهه على ما لا يحسن صدوره عنه من الأقوال والفعال التي تسهم في تشتيت الأخوّة، وتضييع حقوق الخلة، فيشكر له تنبيهه له وصراحته معه، وعنايته بحفظ مبنى المودة وأسوار الثقة.
يقول ابن الرومي:
أنت عيني، وليس من حقِّ عيني
غضُّ أجفانِها عن الأقذاءِ
- أن يضع نفسه موضع أخيه، ويتخيّل مشاعره حال وقـوع الخـطأ عليه، فيبادر إلى تطيـيب نفسـه بالمقالة والفعل، ويعـمل على إزالـة كرْبِه وطـمس غضبه بترك الخطأ، ومفارقة مسـببات الجـفاء، والاعتذار له عن الأمر الذي ألجأه إلى نهج سبـيل المعـاتـبة، سـواء أكان ذلك خـطأ صـادراً عنه بقـصد أو غـفلة، أو كان سـوء فهم أو ضعف بيان .. ونحو ذلك، وألا يدع لشياطين الجن والإنس مجالاً لزراعة الضغينة، وإفساد بذور المحبة وما تقـادم مـن إخـاء ووفـاء وثقة، حتى لو كان المعاتِبُ مخطئاً في حقه، لائماً له على أمر لم يصدر عنه أو ليس في يده، متذكِّراً مقولة الشاعر:
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ
جاءت محاسنُه بألف شفيعِ
- أن يتجنب الحلف، ويحذر من مقابلة معاتبة أخيه له بعتاب آخر، بل يعاتب نفسه ويلومها على تسبُّبها في إيذاء أخيه وإقحامه في دركات الغضب، سواء أكان مرد تلك المعاتبة إلى قول أو فعل صادر عنه، أو سوء فهم أو ظنٍّ بُنِيَ على ضعف معلومة ورداءة اتصال؛ إذ ما لام النفسَ مثلها لائم، والإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره.
ومتى تمكّن المرء من الاتصاف بذلك حَمِد للمعاتِب فعلَه، وإن تعجّل في عتابه أو أساء بأخيه الظن.
- أن يصبر ويحتسب على وخزات اللوم ومقارع العتاب، ويعمل على القيام بحق أخيه واحتمال تقصيره، ويحذر الإعراض والجفاء؛ فإن الصدود - كما يقال- هو الفراق الأول، متذكّراً مقولة الشاعر:
صبرتُ على بعضِ الأذى خوفَ كلِّه
ودافعتُ عن نفسي بنفسي فعزَّتِ
فيا رُبَّ عِزٍّ ساقَ للنفس ذُلَّها
ويا رُبَّ نفْسٍ بالتذلُّلِ عزَّتِ
وجرّعتُها المكروهَ حتى تجرَّعتْ
ولو لم أجرِّعها كذا لاشمأزّتِ[15]
والمتأمل في بيئة طلبة العلم والدعاة اليومَ يرى بجلاء أن العتاب الرديء كثيراً ما أسهم في بث الفرقة، وأورث القطيعة والشحناء، وأتلف أكثر مما أثمر، وأنه لا بد من إذاعة ثقافة العتاب الجميل، وتربية الأجيال - ذكوراً وإناثاً - عليها، حتى تحدث الصحة النفسية، ويتحقق الاستقرار الداخلي، فتذهب الحساسية الزائدة، ويزول التوتر، وتنتشر البسمة، وتتجذر المحبة، وتعمّ الألفة.
وحريٌ بمن كان غرضه صون أخوَّته، وتعميق الوداد بينه وبين رفقاء دربه من أهل الفضل والإحسان أن يتأدب بآداب المعاتبة، ويتخلق بأخلاقها الفاضلة، حتى تؤتي أُكُلَها، ويتحقق المقصد من إتيانها.
فاللهم ألهمنا الرَّشد، وزيِّنا بزينة اللين، وارزقنا غاية الرفق، وقوِّ دعائم الأخوة وأواصر الثقة بين علمائنا ودعاتنا وجيل صحوتنا وسائر أمتنا، بمَنٍّ منك وإحسان يا رحيم! وصلّى الله وسلم على أشرف من عوتب وعاتب، نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] من المهم إدراك أن المراد بالخطأ هنا: الخطأ المتعلق بحقوق الأخوّة وواجبات الصحبة، لا وقوع الآخر بالمعصية؛ إذ لا بد في هذه الأخيرة من النصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة، على اختلاف الطرق وتعدد الوسائل الملائمة.
[2] آداب الصحبة، للسلمي: (15).
[3] أدب الدنيا والدين، للماوردي: 216.
[4] أدب الدنيا والدين، للماوردي: 145.
[5] إحياء علوم الدين، للغزالي: 2/186.
[6] محاضرات الأدباء، للراغب: 1/333.
[7] الجليس الصالح، للمعافى بن زكريا: 366.
[8] الآداب الشرعية، لابن مفلح: 1/ 377.
[9] غرر الخصائص الواضحة: 239.
[10] ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري: 233.
[11] العمدة، لابن رشيق: 167.
[12] الآداب الشرعية، لابن مفلح: 1/377.
[13] بهجة المجالس، لابن عبد البر: 155.
[14] بهجة المجالس، لابن عبد البر: 155.
[15] آداب العشرة، للغزي: 3.
* مجلة البيان
فيصل علي البعداني
قال لي: أخي لا يعرف غير التبكيت والعتاب؛ إذ لا يكاد يراني حتـى يـبدأ بلومـي وتقـريعي وكأن لا حسنة لي، وكأني لا أجيد إلا مقارفة الخطأ والولوج في بوابة الزلل؛ بصوابٍ في حين، وتحاملٍ ومبالغةٍ وضعف معلومة في أحيان كثيرة، حتى كرهته، وضجرت منه، ولم أعد أطيق لقياه أو سماعَ صوته!
فقلت له: على رِسْلِك، فما فتئ آحاد الناس في كل بيئة - ومنهم الدعاة والمصلحون - يختلف رأيُ هذا عن هذا، ويخطئ هذا على هذا بدواعٍ عديدة، ومن منطلقات مختلفة، يأتي في مقدمتها: الجهل، والظلم، والغفلة، والعجلة، وحب الذات، واتباع الهوى، وضعف التجرد، وتفاوت العباد في الفهوم والطباع والقدرات، كما هو الحال في كل بيئة تتسم بالتفاعل والحراك الاجتماعي؛ إذ النقص في كل البشر سجية، والأصلُ التنوعُ والاختلافُ وحدوثُ المشاحّة والتنافس، ومن الطبيعي الخطأ:
ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كلُّها؟
كفى المرء نُبْلاً أن تُعَدَّ معايبُهْ!
وأمام هذا الواقع؛ ينقسم من يقع عليهم التجنِّي والخطأ[1] إلى فئتين:
فئة كريمة: كبيرة النفس، واسعة البال، تناست الهفوة، وآثرت الصفح الجميل؛ فأخذت بالعفو، وارتدت ثياب الحِلْم، وتخلَّقت بعبير الصبر، واتسمت بالرفق والسماحة واللين؛ حرصاً منها على استدامة المودة، وعدم تعكير أجواء الصفاء مع الإخوة، وتغليباً منها لحُسن الظن، والإدراك بأن الزلة من سمات البشر، ورجاءَ بلوغ المعالي يوم الدين، والظفر بما جاء في قوله - تعالى -: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: ٢٢]، وقوله - عز وجل -: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِـمِينَ} [الشورى: ٠٤]، {وَلَـمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَـمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: ٢٤ - ٣٤].
وفئة فاضلة: نهجت سبيلَ العدل، وآثرت أخْذَ الحق، قناعةً منها بضرورة معالجة الخطأ، وأنّ إحسان الظن لا يمنع المعالجة والتصويب بل يُحتِّمه؛ لكي لا يزداد الزلل وتنجم أخطاءٌ أكبر، وحفاظاً على المحبة وديمومة الإخاء، فنبَّهت على ما ترى فيه تقصيراً تجاهها، وجنوحاً عليها، وعدم مراعاةٍ لمشاعرها؛ معاتِبةً على الزلل، ومطالِبةً بتصحيح الحال، والبِدار إلى الرجوع عن السقطات، وعدم التمادي في التفريط وإتيان مسببات الفرقة وبذور العداوة.
ولا شك أن الاحتمال وإغضاء الطرف، وعدم الالتفات إلى زلـل الإخـوان مـن دون ما تقريعٍ ولا تأنيب، ولا معاتبة، ولا تنبيه على الخطأ؛ أخير وأكمل، يقول الشاعر:
هبْني أتيتُ بجهلٍ ما قُذِفتُ به
فأين فضلُك والحِلْمُ الذي عُرِفا؟
ويقول الآخر:
هبْني أسأتُ، كما تقولُ
فأين عاطفة الأخوّهْ؟
أو إن أسأتَ كما أسأتُ
فأين فضلك والمروّهْ؟
ويتأكد ذلك في حال كان ذلك باختيارٍ ورضا نفسٍ، فلم يورث حقداً ولا ضغينة، ولا جرّ إلى هجرٍ أو دعا إلى قطيعة. يقول الفضيل بن عياض: «الفتوةُ: العفو عن عثرات الإخوان»[2]، وقال الحسن بن وهب: «من حقوق المودة: أخذُ عفو الإخوان، والإغضاء عن تقصيرٍ إن كان»[3]، وحكى الأصمعي عن بعض الأعراب أنه قال : «تناسَ مساوئ الإخوان يدُم لك وُدُّهم»[4]، وقال بعض الحكماء: «الصبر على مضض الأخ خيرٌ من معاتبته، و المعاتبة خيرٌ من القطيعة، والقطيعة خير من الوقيعة»[5].
فالاحتمال في الأصل أجلُّ وأفضل، لكن متى رجَّح مكلومٌ طرْقَ بوابة المعاتبة؛ فلا بد له حينها من التنبه إلى ما يأتي:
- أن يتوثق قبل العتاب من دِقة النقل، وصحة الفهم، وعدم التجني، ويتأكد من صدور الهفوة ووقوع صاحبه في الزلة، حتى لا يلوم على خطأ لم يقع، فيكون هو الملوم بلومه، وأن يعلم بأنه إن لم يصادف بعتابه العلةَ كان ذلك خادشاً للأُلفة، وحامشاً للمودة، ومفسِداً لصحة الأخوّة، وكان نتاج معالجته لنفسٍ سليمة كتركِه معالجة نفسٍ سقيمة سواء بسواء، إن لم يكن أشد.
- نظره في عواقب العتاب وآثاره، وتفكيره في مآلاته، فإن رأى فيه علاجاً للعلل، وتطهيراً للشحناء، واستدامةً للإخاء؛ أقدم عليه. وإن رأى فيه غرساً للعداوة، وجلباً للبِعاد، وزرعاً للبغضاء؛ ترَكَه ولم يحفل به؛ لأنه رُبَّ هجْرٍ مُولَّد من عتابٍ، وجفاء ناشئ عن كتاب.
- أن يتسم بالنية الصالحة والقصد الحَسَن، ويجعل غرضَه من معاتبة أخيه صيانةَ الصحبة وتعميقَ المحبة؛ لأنها - كما قيل - تصلح بالعتاب وتصدق، وألا يكون مرامه منها تقرير الفضل، والانتصار للذات، والقيام بتعنيف الآخر وتبكيته وإثبات خطئه، إذ (العتاب ضربان: عتاب يحيي المودة، وهو ما كان في نفس الود، وعتاب يميتها، وهو ما كان في ذنب وموجدة. التقى أعرابيان فتعاتبا، وإلى جنبيهما شيخ، فقال: أنعِما عيشاً! إن العتاب يبعث التجني، والتجني ذرء المخاصمة، والمخاصمة أخت العداوة، فانتبها عمّا ثمَرَتُه العداوة)[6]. لذا؛ على المرء ألا يعاتب من إخوانه إلا من يحب، ومن له في مكنون القلب منزلة وود، وفي هذا السياق يقول الشاعر:
أُعاتِب ذا المودّة من صديق
إذا ما رابني منه اجتنابُ
إذا ذهب العتاب فليس وُدٌّ
ويبقى الودُّ ما بقيَ العتابُ[7]
- تقليل العتاب وتخفيفه، وتجميل التأنيب، وسلوك طريق الحسنى به، من خلال مراعاة المفاسد والمصالح، ووضع الخطأ في نصابه، وتجنُّب تضخيمه وإعانة الشيطان على أخـيـه أو إثارة الآخرين عليه، بل يقبل الصواب، ويتجنب التعميم، ويعرض عن بعضٍ، ويخاطب صاحبه برفق وإدلال؛ تاركاً التكرار، مقدِّماً السرَّ على العلن، والتعريضَ على التصريح، والمكاتبةَ على المشافهة؛ لأن المباشرة في المعاتبة والغلظة فيها، والإكثار منها؛ مجلبةٌ لقلة الإخوان، فالكيِّس العاقل هو الفَطِن المتغافل، ومَنْ أكثرَ من معاتبة إخوانه وأعظَمَ من لومهم لم تطُل مودته، ولن يدوم لهم بصاحب. يقول موسى ابن جـعفر: «مـن لك بأخيك كله؟ لا تستقصِ عليه فـتبقى بلا أخ»[8]. وقيل: «من عاتب في كل ذنبٍ أخاه؛ فخليقٌ به أن يملَّه ويقلاه»[9]، ومن لم يتغافل ويغمض عينه عن بعض ما في صديقه؛ يمُت وهو عاتب، فأسوأ الآداب وأجفى الخلال تجاه الإخوان: شدةُ العتاب وكثرته.
وما أجمل مقولة بشار بن برد:
إذا كنتَ في كلِّ الأمور معاتباً
صديقَك، لم تلقَ الذي لا تعاتبُه
فعِشْ واحداً، أو صِلْ أخاك؛ فإنهُ
مُقارفُ ذنبٍ مَرَّةً ومجانبُه
إذا أنتَ لم تشرب مراراً على القذى
ظمئتَ؛ وأيُّ الناسِ تصفو مشاربُه؟[10]
ومقولة سعيد الكاتب:
أقلِل عتابَك فالبقاء قليلُ
والدهر يعدل مرّةً ويميلُ
ولعلّ أيامَ الحياة قصيرةٌ،
فعلامَ يكثُر عتبُنا ويطولُ؟
لم أبكِ من زمنٍ ذممتُ صروفَه
إلا بكيتُ عليه كيف يزولُ[11]
- أن يوضح للمعاتَب أن غرضه من العتاب استدامة المودة وإزالة ما يعكرها، ويبدأ عتابه ويختمه بذكر محاسن أخيه المعاتَب، ويُظهِر له المحبة والإشفاق عليه، ويشوب ملامته له بمدح وثناء صادق، حتى يكون ذلك أدعى للولوج إلى قلبه وتقبُّله تجرُّع مرارة العتاب، وحتى يكون في ذلك كثرة دلالة على اتسام الشخص المعاتِب بالإنصاف، والرغبة في حفظ المودة، وتصحيح الحال، وإتيان رفيقه بالصواب.
- أن يتحين الوقت والمكان المناسبين؛ إذ لكل مقامٍ مقالٌ، ولكل فعلٍ أوان، وللعتاب مواضع، وخير القول ما وافق الحال، وفي حفظ الحدود استمرار الخير الموجود. لذا؛ عليه أن يقصر عتابه على حالات الهدوء والاطمئنان وراحة البال التي لا توتُّرَ فيها، ولا غضب من كلا الطرفين فيها.
- ألا يعاتـب إلا من يرجـو أوْبَتـه ويخال رجوعه، فمن لم يكن له لُبٌّ يردعه، أو كان في حالة تحُول بينه وبين الفهم والاستيعاب، أو كان فاقداً لإرادة التراجع، غيرَ مالكٍ للعزيمة، أو غير قادر على التصويب للعلة المرادة؛ لم يحسُـُن عتابُه، ولو عوتب كان في ذلك وضعٌ للشيء في غير موضعه، وإهمال بيِّن لحظِّ النفس، وعدم صيانتها عمّا لا يجدر بها ويحسُن من مثلها.
- أن يُعنى بمعالجة أصل الخطأ وبواعثه ولا يكتفي بمعالجة مظاهره، وألا يصحب عتابه بجفاء، ويرفقه بهجران وقطيعة أو كلمة قاسية أو لفظ نابٍ، فالحر تكفيه الملامة. وعليه أن يكثر عقِبه من التزاور والصلة، والإحسان والكلمة الطيبة، ويداوم على التبسم والبشاشة، وإظهار المودة.
- ألا يقربَنّ الصنيعَ الذي يعاتـب أخـاه على فـعـله، حتى لا يقع في الملامة الواردة في قوله - تعالى -: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٤٤]، وقوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢ - ٣]، التــي نعى الله - تعالـى - فيها على طائفة من المؤمنين تتمدح بخير لا تأتيه، وتتنـزه عن شر وهـي ملوثـة به جاثيـة في أسْـره، وما أجمل مقولة الشاعر:
عوِّد لسانَك قِلّة اللفظِ
واحفظ لسانَك أيّما حِفْظِ
إياك أن تعظ الرجالَ وقد
أصبحتَ محتاجاً إلى الوعْظِ!
- أن يُحسِن الظن بأخيه، ويتجنب الحكم على النوايا، ويضع نفسه موضعه، فيتلمَّس له ما قد يوجد من أعذارٍ دفعته للوقوع في الخطأ، ويحرص على إنصافه وترك التعسف والمبالغة والتجني في إثبات الخطأ، ويدع الإصرار على اعترافه بخطئه قبل التصافي، بل يعطي أخاه فرصة للتعبير عن وجهة نظره، ويقبل عذرَه، ويرضى عنه، ويعفو عن خطيئته والزلة التي حدثت منه في حقه؛ إذ المؤمن سمحٌ ليِّنٌ، سليم الصدر، حسَن الظن في الأصل، يطلب المعاذير لإخوانه، سواء صمَت الآخر ولم يتمادَ، أو قال: (لم أفعل)، أو قال: (فعلت لأجل كذا)، أو قال: (فعلت وقد أسأت). قال عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه -: «أعقل الناس أعذرُهم لهم»[12]، وقال بعض الأدباء : «من أحبّ أن يسلم له صديقه، فليقبلْ عذرَه»[13]، وقال الشاعر في هذا السياق:
اقبلْ معاذيرَ من يأتيك معتذِراً
إنْ برَّ عندك فيما قالَ أو فَجَرَا
فقد أطاعك من أرضاك ظاهرُه
وقد أجلّك من يعصيك مستتِرَا
كما على من عوتب أن يتنبه إلى الجوانب التالية:
- أن يحمد الله - تعالى - على أن سخّر له من إخوانه من يعاتبه، وأن يعلم أنه بذلك مُنَعَّم محبور، إذ في العتاب حياة بين أقوام، وبعث على الإجلال والإكرام، وهو رائد الإنصاف، وشفيع المودة، ويد للمحافظة؛ تظهر للمرء من خلاله عيوبٌ خافية، ويستطيع أن يزيل به من مسيرة العلاقة بينه وبين إخوته ما يعكر صفاء الوداد، ويهيج البغضاء والحقد، ويقطع أواصر الصحبة. قال بعض الحكماء : العتاب علامة الوفاء، وسلاح الأكفاء، وحاصد الجفاء، وقال آخر: ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد، وضربة الناصح خير من محبة الشّاني[14].
- أن يُحسِن الظنَّ بأخيه المعاتِب له، وينظر إليه على أن غرضه من المعاتبة التنقيب عن علة لأخذ العفو وحدوث التصافي، وأنه عينه التي تريه الزلل، وتنبهه على ما لا يحسن صدوره عنه من الأقوال والفعال التي تسهم في تشتيت الأخوّة، وتضييع حقوق الخلة، فيشكر له تنبيهه له وصراحته معه، وعنايته بحفظ مبنى المودة وأسوار الثقة.
يقول ابن الرومي:
أنت عيني، وليس من حقِّ عيني
غضُّ أجفانِها عن الأقذاءِ
- أن يضع نفسه موضع أخيه، ويتخيّل مشاعره حال وقـوع الخـطأ عليه، فيبادر إلى تطيـيب نفسـه بالمقالة والفعل، ويعـمل على إزالـة كرْبِه وطـمس غضبه بترك الخطأ، ومفارقة مسـببات الجـفاء، والاعتذار له عن الأمر الذي ألجأه إلى نهج سبـيل المعـاتـبة، سـواء أكان ذلك خـطأ صـادراً عنه بقـصد أو غـفلة، أو كان سـوء فهم أو ضعف بيان .. ونحو ذلك، وألا يدع لشياطين الجن والإنس مجالاً لزراعة الضغينة، وإفساد بذور المحبة وما تقـادم مـن إخـاء ووفـاء وثقة، حتى لو كان المعاتِبُ مخطئاً في حقه، لائماً له على أمر لم يصدر عنه أو ليس في يده، متذكِّراً مقولة الشاعر:
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ
جاءت محاسنُه بألف شفيعِ
- أن يتجنب الحلف، ويحذر من مقابلة معاتبة أخيه له بعتاب آخر، بل يعاتب نفسه ويلومها على تسبُّبها في إيذاء أخيه وإقحامه في دركات الغضب، سواء أكان مرد تلك المعاتبة إلى قول أو فعل صادر عنه، أو سوء فهم أو ظنٍّ بُنِيَ على ضعف معلومة ورداءة اتصال؛ إذ ما لام النفسَ مثلها لائم، والإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره.
ومتى تمكّن المرء من الاتصاف بذلك حَمِد للمعاتِب فعلَه، وإن تعجّل في عتابه أو أساء بأخيه الظن.
- أن يصبر ويحتسب على وخزات اللوم ومقارع العتاب، ويعمل على القيام بحق أخيه واحتمال تقصيره، ويحذر الإعراض والجفاء؛ فإن الصدود - كما يقال- هو الفراق الأول، متذكّراً مقولة الشاعر:
صبرتُ على بعضِ الأذى خوفَ كلِّه
ودافعتُ عن نفسي بنفسي فعزَّتِ
فيا رُبَّ عِزٍّ ساقَ للنفس ذُلَّها
ويا رُبَّ نفْسٍ بالتذلُّلِ عزَّتِ
وجرّعتُها المكروهَ حتى تجرَّعتْ
ولو لم أجرِّعها كذا لاشمأزّتِ[15]
والمتأمل في بيئة طلبة العلم والدعاة اليومَ يرى بجلاء أن العتاب الرديء كثيراً ما أسهم في بث الفرقة، وأورث القطيعة والشحناء، وأتلف أكثر مما أثمر، وأنه لا بد من إذاعة ثقافة العتاب الجميل، وتربية الأجيال - ذكوراً وإناثاً - عليها، حتى تحدث الصحة النفسية، ويتحقق الاستقرار الداخلي، فتذهب الحساسية الزائدة، ويزول التوتر، وتنتشر البسمة، وتتجذر المحبة، وتعمّ الألفة.
وحريٌ بمن كان غرضه صون أخوَّته، وتعميق الوداد بينه وبين رفقاء دربه من أهل الفضل والإحسان أن يتأدب بآداب المعاتبة، ويتخلق بأخلاقها الفاضلة، حتى تؤتي أُكُلَها، ويتحقق المقصد من إتيانها.
فاللهم ألهمنا الرَّشد، وزيِّنا بزينة اللين، وارزقنا غاية الرفق، وقوِّ دعائم الأخوة وأواصر الثقة بين علمائنا ودعاتنا وجيل صحوتنا وسائر أمتنا، بمَنٍّ منك وإحسان يا رحيم! وصلّى الله وسلم على أشرف من عوتب وعاتب، نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] من المهم إدراك أن المراد بالخطأ هنا: الخطأ المتعلق بحقوق الأخوّة وواجبات الصحبة، لا وقوع الآخر بالمعصية؛ إذ لا بد في هذه الأخيرة من النصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة، على اختلاف الطرق وتعدد الوسائل الملائمة.
[2] آداب الصحبة، للسلمي: (15).
[3] أدب الدنيا والدين، للماوردي: 216.
[4] أدب الدنيا والدين، للماوردي: 145.
[5] إحياء علوم الدين، للغزالي: 2/186.
[6] محاضرات الأدباء، للراغب: 1/333.
[7] الجليس الصالح، للمعافى بن زكريا: 366.
[8] الآداب الشرعية، لابن مفلح: 1/ 377.
[9] غرر الخصائص الواضحة: 239.
[10] ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري: 233.
[11] العمدة، لابن رشيق: 167.
[12] الآداب الشرعية، لابن مفلح: 1/377.
[13] بهجة المجالس، لابن عبد البر: 155.
[14] بهجة المجالس، لابن عبد البر: 155.
[15] آداب العشرة، للغزي: 3.
* مجلة البيان