الهدف من تأسيس العملة الأوروبيّة الموحّدة (اليورو)، كان يتعلّق بتقوية الدور الذي يضْطلع به الاتّحاد الأوروبيّ على الساحة الدوليّة من خلال خلق منافس قويّ للدولار الفارض هيمنته على العلاقات النقديّة الدوليّة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، في مجالي الإنتاج والتجارة والاستثمار. فقد ظنَّ كثيرٌ من الاقتصاديّين أنّ اليورو سيكون منافساً قويّاً للدولار وسيهدد موقعه كعملة مهيمنة على منظومة النقد الدوليّ، وأنّه سيُغيِّر شكلَ منظومة النقد الدولي، ويُعيد توزيع القوّة بين الدولار واليورو؛ إذ إن تأسيس العملة الأوروبيّة الموحّدة هو لحظة مصيرية.
لقد كان إطلاق اليورو أهمّ تطوُّر عرفته منظومة النقد الدولي منذ تبنّي أنظمة الصرف العائمة؛ إذ إنّه بات أوّل مُنافِس حقيقي للدولار، بالنّظر إلى أنّ العملة الأوروبيّة تستند إلى اقتصادٍ قويّ، وإحدى أكبر أسواق الرأسمال في العالَم، فإنه من الممكن في خمس إلى عشر سنوات أن تكون كافية لليورو ليتحوَّل عملة دوليّة، على القدر نفسه من الأهميّة كالدولار. إذ إنّ نظاماً نقديّاً قائماً على عملتَيْن رئيسيتَيْن سيظهر، وسيحلّ مكان النظام السائد والقائم على هيمنة الدولار على بقية العملات، حسب اعتقادي.
وقد أظهرت الأحداث، أن الدولار عاجز عن أداءِ دَوره كمخزنٍ للقيمة في ظلّ اقتصادٍ تطبعه الأزمات الماليّة ويفتقر إلى الاستقرار. ولذلك، فقد كان من المُفترض أن يَمنح اليورو للفاعلين الاقتصاديّين الدوليّين، إمكانيّة تنويع محافظهم الماليّة وتوزيع استثماراتهم على نحوٍ يَضمن إدارة المخاطر بشكلٍ أكثر فاعليّة.
غير أنّ استعمال اليورو في التعاملات الدوليّة يبقى متواضعاً للغاية خارج مناطق النفوذ التقليديّة لبعض دول منطقة اليورو. لذلك؛ فإنّ حصّة اليورو في احتياطيّات المصارف المركزيّة عبر العالَم لا تتجاوز نسبة 20 في المائة، بينما تَصِلُ حصّة الدولار إلى نحو 60 في المائة وبقية العملات الأخرى 20 في المائة، ومنها اليوان، وفقاً لإحصائيّات صندوق النقد الدولي في 2022.
لقد أَثبتت التطوُّرات الحاصلة خلال العقد الأخير، أنّ اليورو غير قادرعلى كسر هيمنة الدولار الأميركي، على الرّغم من كلّ المقوّمات الاقتصاديّة التي تملكها منطقة اليورو باعتباره أكبر مصدِّر للسلع والخدمات في العالم. إذ إنّ الاعتبارات الاقتصاديّة لا تكفي وحدها وإن كانت ضروريّة، لتحديد موقع أيّ عملة في منظومة النقد الدولي، وأنّ ثمّة اعتبارات سياسيّة ينبغي أخذها في الاعتبار. إذ إن القدرات المحدودة جدّاً للدول الأعضاء في منطقة اليورو على المستوى العسكري، وتوفير المظلّة الأمنيّة، خارج مناطق نفوذها التاريخيّة، من شأنه أن يفسِّر الأداء الحالي لليورو، والذي لا يرقى إلى مستوى المطلوب عند الأوروبيين. إذ يخلق هذا الوضع موقعاً ضعيفاً لدى الكثير من الدول حول العالَم لإعطاء دور أكثر أهميّة لليورو في شؤونهم النقديّة، على الرّغم من علاقاتهم التجاريّة والماليّة المتميّزة مع دول منطقة اليورو.
و تُعَدّ دول منطقة اليورو الشريكَ الاقتصادي الأوّل لكثيرٍ من الدول النامية المصدّرة للموارد الطبيعيّة الخامّ في أفريقيا وآسيا، وتسجِّل الموازين التجاريّة لهذه الأخيرة عجوزاتٍ كبيرة لمصلحة منطقة اليورو. ومن المفروض نظريّاً أن تقبل هذه البلدان تسوية تعاملاتها التجاريّة مع منطقة اليورو بالعملة الأوروبيّة المُشترَكة، بدلاً من المرور عبر عملة دولة أخرى هي الدولار الأميركي، مع ما يعني ذلك من تحمُّل مخاطر الصرف من الدولار إلى اليورو؛ إذ عند استحضار الجوانب الأمنيّة، والبُعد الجيو - سياسي لعلاقة الأنظمة في هذه الدول مع أميركا، يصبح من المفهوم لماذا تبقى هذه الدول متمسكة بالدولار، للمحافظة على استمرار مظلّتها الأمنيّة التي لا يُمكن للاتّحاد الأوروبي أن يقدّم بديلاً عنها، أو خوفاً من نقمة أميركا عليهم.
ومن أجل هذه الاعتبارات تحديداً، نرى أن بعض الدول، تتّجه نحو استبدال الدولار باليوان الصيني أو غيرها من العملات باستثناء اليورو، في تسويةِ صادراتها النفطيّة. إذ تردد من رد فعل أميركا، وما قد يترتّب عن ذلك من عواقب على أمنها القومي. والسؤال هنا، هل من المُمكن أن تأتي الصين لحمايتها من أميركا، في حال أَقدمت على عملٍ عسكريّ ضدّها تحت أيّ ذريعة؟ أرى ذلك صعباً على الأقلّ في الوقت الرّاهن، لكنه ليس مستحيلاً.
وفي ضوء التغيير الذي يحصل في العالم، وفي إطار سعي الصين وروسيا ومجموعة «بريكس» لبناء نظام اقتصادي دولي جديد؛ إذ إن الصين ثاني اكبر اقتصاد في العالم، حيث قدمت نموذجاً يعتمد على استنهاض قواها ويطور بناها التحتية، وربطت أرجاءها الواسعة بشبكة فعالة للمواصلات والاتصالات، وتتبنى أنماط العمل ووسائل الإنتاج الأنسب لأوضاعها وقدراتها، ولتصبح بضائعها العالية الجودة والرخيصة الكلفة أساساً لتقدمها في العالم. إذ أعجب العالم الثالث بالنهضة الصينية وبمشروع الحزام والطريق، الذي هو ليس مشروعاً جديداً للسيطرة على العالم، بل هو المشروع الدولي الذي انتظمت فيه علاقات القارات والشعوب منذ زمن بعيد.
وقد سعت الصين وروسيا للتعاملات التجارية من خلال اليوان والروبل، حيث إن هذا الاتفاق يعد مؤشراً مهماً لأسباب عدة، منها أن التبادل التجاري بين الصين وروسيا شهد تطوراً كبيراً منذ بدء الحرب الروسية - الأوكرانية، لا سيما في النفط والغاز. كما يعد هذا القرار في مصلحة جميع الأطراف وبشكل خاص في مصلحة روسيا الساعية إلى الابتعاد عن عملات الدول غير الصديقة بحسب وصفها منذ فرض العقوبات عليها. إذ يساهم في الابتعاد عن الدولار واليورو والإسترليني، كما أنه عامل مساعد في استقرار الروبل والأنظمة المصرفية التي بدأت بالفعل بإصدار قروض باليوان الصيني واستغنى بعضها عن نظام التعامل المالي (سويفت).
وفي الختام، لا بد من تجديد الدعوة، إلى إنشاء آلية دولية بديلة عن مؤسسات بريتون وودز، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إضافة إلى إنشاء منظمة تجارة دولية جديدة تستوعب كل المتغيرات الاقتصادية الحاصلة في العالم، تحل محل منظمة التجارة العالمية. وهذه هي مقدمات لإقامة نظام اقتصادي دولي جديد؛ إذ إنّ العملة المُهَيْمِنة في العلاقات الدوليّة تبقى هي عملة الدول الأقوى اقتصادياً وعسكريّاً.
*نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط