الحريّةُ غُـنْـمٌ من المغانم السّياسيّة التي غَـنِمَتْـهُ أممٌ ومجتمعات أَقْدَرَتْـها إراداتُها الجامعة على الاهتداء إلى هدف إقامة الدّولة الوطنيّـة الحديثة.
وهي غُـنْـمٌ بمعانيَ عـدّة: بمعنًى ابتدائيٍّ يُـفيـدُه تحرير الدّولة الوطنيّة - بمجرّد قيامها - مجتَمعها من أوضاع التّسلُّط والعسف التي طبعتْ سلطات الدُّول قبلها وتخليصَه من قيودها، وبمعنى أنّ هـدف تحصيل الحريّـة أتى يمثّـل انتزاعاً لها من براثن الاستبداد و، بالتّالي، اقتضى من الأمم والمجتمعات تلك تقديمَ جسيم التّضحيات في سبيل ذلك؛ وبمعنى تصييرَ الدّولة هذه الحالة (الحريّة) إلى حـقّ تكفله هي لمواطنيها كافّة، وتحيطه بالضّمانات والقوانين والتّشريعات فتردع أيّ لـونٍ من ألوان النّيل منه أو انتهاكـه؛ ثمّ بمعنى صيرورة الحريّة أداةً من أدوات المجتمع والدّولة في تنمية النّظام السّياسيّ والمجتمعيّ على النّحو الذي يتناسب ونوعَ الهندسة السّياسيّة والاجتماعيّة التي قضت بنشأة الدّولة الوطنيّة والمجتمع الحديث.
هذه معاني مختلفةٌ لمفهوم الغُنْم السّياسيّ الذي تحـوّلت به المغـنوماتُ السّياسيّة إلى مكتسبات دستوريّـة وقانونيّة لا تـقْـبَل التّفريطَ بها والتّفويت. لكنّ ما كان في رصيد المجتمع والشّعب مغنوماً، صار في سياسات الدّولة الوطنيّة شيئاً حيويّـاً لا غُـنْيَة لها عنه، أو هو غدا بهذه المثابة، حتّى أنّه يتعسَّر على المرء أن يكتب تاريخاً لنظام الدّولة الوطنيّة من غير أن يلْحظ مكانةَ الحريّة فيها، أو مرتبتَها من نفائس مكتسباتها، أو - وهذا هو الأهمّ - دورَها، هي نفسُها، في صناعة كيان الدّولة الوطنيّة وإعادة إنتاجه. لقد صارت الحريّة والدّولة الوطنيّة صنويْن إلى الحدّ الذي تُعْـرَف فيه الواحدةُ منهما بالأخرى، وصارت العلاقةُ بينهما، بالتّـبِعَةِ، علاقـةَ قيام متبادل، حيث لا قيام للحريّة إلاّ بالدّولة الوطنيّة التي تُقِـرُّها حـقّاً سياسيّاً وتحميها بقـوّة القانون؛ وحيث لا دولة وطنيّة، على الحقيقة، إلاّ التي تتـنـزّل فيها الحريّـة منزلةَ القلب والجوهـر.
ولأنّ الغُـنْمَ بالغُـرْمِ، كما يقال، كان لا بـدّ لمن يتمتّع بهذا المَغْـنَم أن يدفع غَـرَامـةً لقاء ذلك؛ إنّها المشاركة السّياسيّة التي هي ركـنٌ ركيـنٌ في عمران المواطَنة. وهذه إذا كان النّظر إليها من موقع المواطنين يجعلها حـقّاً في جملة حقوق المواطنة التي يتمتّعون بها في أكناف الدّولة الحديثة، فإنّها - من موقع الأخيرة - واجـبٌ سياسيّ على المواطنين لا بـدّ لهم من تأديته مثلما يؤدّون سائر الواجبات الوطنيّة الأخرى، مثل أداء الضّرائب القانونيّة وأداء الخدمة العسكريّة أو احترام القوانين. فأمّا أنّها حـقٌّ فلأنّ المواطنة ونظام الدّولة الوطنيّة لا يستقيمان من دون ضمان حريّـة المواطن وحقوقه ومنها حقُّـه في تقرير مصيره من طريق مشاركته في صُنْع السّياسات؛ وأمّـا أنّ المشاركة السّياسيّة واجبٌ فلأنّ بهذه المشاركة السّياسيّة للمواطنين تحْصُـل التّنمية السّياسيّة للدّولة ومؤسّساتها ويقوم النّظام الدّيمقراطيّ ويتوسّع، ممّا يصبّ في رصيد شرعيّة السّلطة والنّظام السّياسيّ والمؤسّسات.
بهذه الجدليّة المستمرّة بين الحقّ والواجب، وبتكامُل الأخيريْن، نجحتِ الدّولةُ الوطنيّة في أن تبنيَ المجالَ السّياسيّ الحديث وأن تضمن قـوّته وقدرتَه على الصّمود أمام الامتحانات الاجتماعيّة، من طريق تعزيز شرعيّته بالمشاركة السّياسيّة المستديمة، بل من طريق تصميم نظامه على النّحو الذي يكون فيه مجالاً سياسيّـاً مفتوحاً وتـداوُليّاً. وما اقتصرت ثمْراتُ هذا البناء على اكتساب الدّولة وسائلَ استيعاب الأزمات الاجتماعيّة والسّياسيّة وتعظيم الاستقرار فقط، بل تبدَّت - أيضاً - في ما سمح به ذلك من تطويرٍ هائلٍ في منظومة الإدارة السّياسيّة والمؤسّسيّة للشّؤون العامّـة، ومن ترسيخٍ للقيم الدّيمقراطيّة في الحياة السّياسيّة، ومن تصليبٍ لبنيان الدّيمقراطيّة والنّظام الدّيمقراطيّ التّمثيليّ.
الحريّةُ، إذن وبهذا المعنى، وَقـودٌ للدّيمقراطيّة؛ لأنّ بها يشتغل محرِّكُها (= التّمثيل السّياسيّ)؛ هذا الذي لا يكون تمثيلاً صحيحاً ونزيهاً ومطابِقاً إلاّ إذا كان مبْناهُ على الإرادة الحـرّة. لهذا، بمقدار ما ترمـزُ الحريّةُ إلى حـقٍّ رئيسٍ من حقوق المواطَنة، تمثِّـل مورداً لأداء كلِّ مواطنٍ واجباً تجاه الدّولة والجماعة السّياسيّة هو واجب المشاركة في تكوين مؤسّساتها، وخاصّةً تلك التي لا سبيل إلى تكوينها إلاّ بالاقتراع. حين يقع عزُوفٌ إراديّ من المواطنين عن المشاركة السّياسيّة، فيتبدّى ذلك في صورةِ امتناعٍ عن الاهتمام بالشّأن العامّ، وعزوفٍ عن التّصويت، وصرْفِ الحقّ في الحريّة إلى مجرّد التّـمتّع بها على النّطاق الشّخصيّ الصّرف، تُصاب الحياة السّياسيّة - ومعها تُصاب الدّيمقراطيّة - في مقْتل، إذْ يقع إفقارُها من موردها المواطنيّ الحيّ. حينها تتحوّل الحريّة إلى أداةٍ ضدّ الدّيمقراطيّة لتفقد مضمونها السّياسيّ تماماً، ولتفتح الباب أمام اضمحلال السّياسة نفسها. إنّ واحدا من أكبر أعطاب النّظام الدّيمقراطيّ اليوم يَكْمَن في انقلاب الحريّة على الدّيمقراطيّة؛ الانقلاب الذي تولّـدت ديناميّـتُه من الاقتران الجديد بين الحريّـة والفردانيّـة.
*نقلاً عن سكاى نيوز عربية