يمكن لأيّ تـفاوُتٍ في تطـوُّر الاجتماع السّياسيّ، في مجتـمعاتٍ متقـدّمـة وأخـرى متـأخّـرة، أن يُـتَـدَارك مع الزّمـن متى أمكـن لعمليّـة التّـنـميّـة السّياسيّـة أن تستـقـيم، استقـراراً، واستمـراراً.
وينتظمَ إيقاعُ تراكُـمها في البـلدان التي تعانـي نقصـاً في ذلك التّـطوّر. هـذه حقيـقةٌ يبعـث على القـولِ بها والاعـتقـادِ ملاحظـةُ ما طـرأ على قسـمٍ كبيـرٍ من دول الجنوب من تطـوّراتٍ هائلـة في بناها السّياسيّـة انْـجَسَـرَتْ بها الفجـوةُ التي انتـصبت، طويـلاً، بينها ودول الغــرب إلى حـدودٍ امَّـحتْ فيها - أو كادت أن تـمّـحي - الفـروقُ بينهما. أثـبـتـتْ هـذه الحقيقـة - في واحـدٍ من أَظْهَــرِ وجوهـها دلالـةً- أنّ ما كان مـن فـارقٍ بين بلدان الغرب وبلدان الجنوب في بنـى السّياسـة وظواهـرها ما كان فارقـاً في النّـوع، على نحو ما كان يجري الكلام على ذلك في ما مضى، وإنّـما كان فارقـاً في الدّرجـة والتّـطـوّر... ليس أكـثـر: وهذا قابـلٌ للتّـدارُك... مثلما وقـع تدارُكُـه فعـلاً في عديـدٍ منها.
نسارع إلى القـول، رفعـاً لكلّ التبـاسٍ ممكن، إنّ التّـنميّة السّياسيّـة التي يجري الكلام عليها، هنا، غيرُ قـابـلةٍ للاختزال في صعيـدٍ واحـدٍ من أصعدتـها، هـو ذاك الصّـعيد الذي دُرِج على اختزالـها فيه؛ أعـني صعيد التّـمثيل السّياسيّ الدّيـمقراطيّ. نحـن لا نجادل في أنّ التّـنميّـة الدّيمقراطيّـة واحـدةٌ من أَظْـهر حلقـات التّـنميّـة السّياسيّـة وأقـواها في المجتمعات الحديثـة، غير أنّ ذلك لا يسـوِّغ الاعتقاد بأنّـها المعياريّـةُ الوحيدة التي تقاس بها درجـةُ التّـنميّـة السّياسيّة المتحقّـقة في أيّ بلد؛ على مثال ما تبغي المنظّمـاتُ الدّوليّـة فَـرْضَ ذلك على مجتمعات العالم بما هـو المعيار الذي يُقـاسُ عليه، وبـه تُحَاكَم تجاربُ السّياسة فيها ويُـشْـتَـقُّ نظامُ الإملاءات السّياسيّـة التي تفرضها الدّول الغربيّـة الكبرى. والأَطَـمُّ من طامّـة هذه العقيـدة السّياسيّة المخادِعـة أنّ من يعتـنـقونها يتناسـون أنّهم، باسم الدّيمقراطيّـة، يمارسـون سياساتٍ تحكُّـميّـةً وتَسَلُّطيّـةً نكراءَ على العالم كـلِّه ومجافيةً، كلّـيّـةً، للقيم الدّيمقراطيّـة، حتّى أنّ بعضَهم لا يمنع نفسه مـن أن يتدخّـل؛ بعنـفٍ، في مناطقَ عـدّة من العالم لوأد الدّيمقراطيّـة كلّمـا أرهصت بها نضالاتُ شعبٍ مّا من شعـوب الأرض!
أمّـا أن يُصِـرَّ مَـن يُـصِـرُّ على القول بتلك المعياريّـة السّياسيّـة من دون سواها من المقولات، فقرينـةٌ على انشداد ذلك القائـل انشداداً - وبخـيوط التّـبعيّـة الإيديولوجيّـة - إلى سرديّـة ليبراليّـة مبتـذلة عن الدّيمقراطيّـة بما هـي علامـةُ («مارْكَـةُ») النّـظام السّياسيّ الحديث التي بها، وحـدها، يتحدّد...! والحال إنّ مثـل هـذه السّرديّـة يكذّبـها ما يعـتري النّظام الدّيمقراطـيّ اللّيبراليّ من أزمات عميقة منذ حـقـبة ما بين الحـربـين! وتَجَـدُّدِ تلك الأزمـات، اليـوم، وولوجِـها طـوراً جديداً انتـقـلت فيه من مجـرّد أزمـةٍ في نظام التّـمثيل - المطابـق للقيم الدّيمقراطيـة - إلى أزمةٍ في نظام الاقتراع (= المهجور شعـبيّـاً)، فإلى شحوب الحزبيّـة السّياسيّـة وصيرورة قـوى المال والأعمال قـوًى «سياسيّـة»: جنبـاً إلى جنـبٍ مع الصّعـود الحثيث لقـوى اليمين العنصريّ في الغرب...! يكفي تدليلاً على احتداد الأزمـةِ تلك انقـلابُ عـلاقـةِ التّـلازُم التي قامت واستـتـبّـت، لأمـدٍ طويل، بين الدّيمقـراطيّـة والاستـقـرار؛ إذِ الأولى ظـلّت - باستمرار- حاضنـةً للثّـاني وشرطـاً لازبـاً له، فيما بتنا نشهد على «ديمقراطيّـات» غربيّة راهنة تفتح مجتمعاتها على فـوضًى ضاربة الأطناب وهـزّات عنيفة في المجال السّياسيّ برمّـته: تطويـر الدّولة وعقلنـة أدائـها؛ التّـقـدّم في عمليّـة الفصل بين السّـلطات؛ بناء النّـظام المؤسّساتيّ وإشاعـة القيم المؤسّـسيّـة؛ تنميّـة قيم الرّقابـة والمحاسبة والشّفافيّـة وتطويـر عمل مؤسّساتها؛ تأهيـل النّظام القضائيّ وتقوية سلطته واحترام استقلاليّـته؛ إحاطة الحريّـات وحقوق الإنسان بالضّمانات القانونيّـة؛ الإصلاح المستمـرّ للمنظومات الدّستوريّـة والقانونيّـة؛ كفالة الحقوق الاجتماعيّـة للمواطنين وتوزيع الثّـروة توزيعاً عادلاً؛ مقاومـة الفساد ومعاقبة المتورّطين فيه... إلخ؛ وهـذه وسواها من أشكال التّـنـميّـة السّياسيّـة - وقـد شهدت عليها بلدانٌ عـدّة من خارج الغـرب- هي التي أَمْـكن بها رتْـقُ الفتـوق بين قسمٍ من عالم الجنـوب والغـرب والحـدُّ من التّـفـاوُت في التّـطوّر بين العالميْـن.
على أنّ النّجاحات التي أحرزتها بلدانٌ من خارج الغرب (أظْهرها اليوم بلدان مثـل الصّيـن والهنـد والبرازيل وروسيا) في سـدّ فجـوة البناء السّياسيّ الدّولـتي بينها وبلدان الغرب، إذْ يقـترب بها من نموذج الدّولة الوطنيّـة الحديثـة - الذي ساد في الغـرب منذ نهايـات القرن الثّـامن عشر- يعيد، في الوقـتِ نفسه، تكويـن هـذا النّـموذج من جديد؛ علمـاً أنّـه نموذجٌ يقطع شوطاً تاريخيّـاً يبتعد فيه، بالتّدريج، عن سمات تكوينـه الأولى، ويـضُـخّ التّـطوُّرُ الجديد في كيانـه وفي مساره معطياتٍ وسمات أخـرى.
*نقلاً عن سكاى نيوز عربية*