بين الإيـديـولوجيـا واليـوتـوپـيـا عـلاقـةٌ مّـا من عـلاقات الدّلالـة، لكـنّهما ليستـا متطابـقـتيـن في المعـنـى، قـطـعاً، ولا بينهما عـلاقةٌ طرديّـة بحيث تـأخُـذُنـا الواحـدةُ منها إلى الأخرى حُـكْـماً. إنّ لـكـلِّ مفـهـومٍ من المفـهـوميْـن دائـرةً من الاستقـلاليّـة الدّلاليّـة عـن الآخَـر.
ومع ذلك، لا أحد من الدّارسيـن المتخصّـصيـن يمـلُـك أن يُـنْـكِـر مـا قـد ينشـأ بينـهما من صـلةِ تَـقـاطُـعٍ واشتـراك، بمـن فيهم أولئـك الذين حرصـوا على بنـاء التّـمييـز النّـظـريّ بينهــما مـثـل كارل مانهـايـم؛ الذي كـرّس تأليفاً للمـفـهوميـن حَـمَـل عـنـوان: الإيـديـولوجيـا واليـوتـوپـيـا.
مَـايَـز كـارل مانهـايـم بين المفهـوميـن محتـفـظاً لـكـلٍّ منهما بمعـناهُ المتـواضَـع علـيه. نعم، إنّـهمـا يوحيـان بقرابـةٍ في المعنى؛ لكـنّـه محـضُ إيـحاءٍ سرعـان ما يتبـدّد حيـن ندقّـق في الفواصـل والتّمايُـزات. نعـم، بينهـما مشتَـرَكٌ جامـع لا خـلافَ عليه بين الدّارسيـن: هـو التّـباعــدُ عن الواقـع وإخطـاءُ إدراكِـه، غير أنّـه وراء هـذا الجامـع ينـتصب معنـى كـلٍّ منهما في مقابلـةِ الآخَـر: الإيـديـولوجيـا بحسبانـها فكـراً يبـرّر الحاضـر، واليـوتـوپـيـا بمـا هـي تفـكيـرٌ يتـمثّـل - تمثيـلاً افـتـراضيّـاً - مستـقـبَـلاً لم يقُـم بعـد. على أنّهما حالتـان من التّـفكـير قـد تــتبادلان المواقـع إنْ تغـيّـرت شروطهـما. وهكذا فإنّ ما يكـون، في ظـرفٍ تاريخـيّ، في عِـداد اليـوتـوپـيـا (أو الطُّـوبَـى)، قـد يتحـوّل فيصيـر إيـديـولوجيـا في ظـرفٍ تاريخيّ آخَـر. من ذلك، مـثـلاً، انقـلابُ فـكرِ طبـقةٍ اجتماعيّـة كانت تحـلُم بمستـقبـلٍ (ليبراليّ أو اشتراكيّ... إلخ) - وتـرفـض الوضـع القائـم - إلى فكـرٍ إيـديـولوجيّ تبـريـريّ يـدافع عن الوضـع القائـم الجديد. إنّ ذهـنـيّـة الطّـبقات الصّـاعدة عادةً ما تكون طوبـويّـة، حسب مانهايـم، في مقابـل ذهـنـيّـة الطّـبقات التي تعيش حالـةَ انحـدار؛ حيث الغـالبُ عليها أن تكون إيـديـولوجيّـة. على أنّ الـفوارقَ هـذه بين المفهـومين - وهـي مـؤكَّـدة ودقيـقـة - لا تنـفي أنّهما يتضافـران في بنـاء نـوعٍ بعـيـنِـه من الوعـي بالأشيـاء هـو الوعـي الزّائـف.
غير أنّ الإيـديـولوجيـا ليست، بالنّـسبـة إلى المـرء، مجـرّدَ قـناعٍ يَـطْـمِـس الواقـع، إنّـما هي - أيضـاً - ذلك الأفـقُ الذّهـنـيّ لـديـه (المـرء) ولـدى المجتمع والثّـقافـة اللّـذيْـن ينتمـي إليهما. نعم هي قـناعٌ يخفي مصالـح فئـويّـة إنْ نحـن نظـرنا إليها في نطـاق مجتمعٍ قائـم في زمنـه الحاضـر، لكنّـها تصبح - مـن وجهـة نظـر التّـاريخ المتعاقـب - نظـرةً إلى العالـم أو رؤيـةً كـليّـةً تشـترك فئـاتُ المجتمع أو الأمّـة في حمْلـها. أمّـا الفارق بين مفـهوم الإيـديـولوجيـا بما هي قـنـاع، ومفهـومها بما هي نظرة كـونـيّـة فـفارقٌ بين النّـظـر إليها من زاويـة المعرفـة والنّظـر إليها من زاويـة اجتماعيّـات الثّـقافـة؛ وهُـما زاويتـان من النّـظـر مختـلِـفَـتَـا المنـطلـقات.
نظيرُ هـذا الفارق هو ذلك الفارق القائـم بين نظـرة فلسفة الأنـوار- في القـرن الثّامـن عشـر- إليها (= أي: الإيـديـولوجيـا قـناع)، ونـظـرة الفلسفـة الألمانيّـة إليها (أي من حيث هي نظـرة كونيّـة). هـذا هـو عيـنُـه الفارق بين مفـهومٍ للإيـديـولوجيا مبْـناهُ على عـقـلانيّـةٍ مجـرّدة تحكـم على الأشيـاء بمعيـار العـقـل الكـونيّ - وهـو العـقـل الفلسـفيّ الأنـواريّ والـدّيكارتـيُّ النِّـصاب - ومفـهـومٍ ثـانٍ لها يَـلْـحظ الفـوارق بين منظـومات المعاييـر في الثّـقافـات والاختـلافات فيها من عـهـدٍ تاريـخيّ لآخَـر، فينصـرف إلى البحـث في كـلّ طـورٍ من التّاريخ عن روحـه (= روح العصـر). لم يكـن الفيـلسـوف الألمانيّ هِـرْدر يـبتـدع من عـدمٍ فكـرةَ «روح العصـر» - التي منها اشـتُـقَّ مـفـهـوم الإيـديـولوجيـا في صيـغـتـه الألمانيّـة - ولا فَـعَـل هيـغـل ذلك، بـعـده، حين تحـدّث عن «الـرّوح الموضوعـيّ» الذي يتجسّـد في ما تخلِّـفه الدّول والحضارات في ثـقافـتها وآثـارها، بـل قـد يكـون مونـتسكيـو سبقهـما إلى ذلك في كتابـه روح القـوانيـن، وتحـديداً حين ربـط سيّـاسيّـات شعـبٍ مّـا بثـقـافـته وأخـلاقـه. هكـذا نـنـتـقـل مع هِـردر ثـمّ هيـغل وماركـس والفلسفـة الألمانيّـة من عـقـل الأنـوار المجـرّد إلى التّـاريخ، وبانـتـقالـه ذاك يـنـتـقـل معنى العـقـل ذاتـه فلا يعـود ما كـانَـهُ في دوائـره النّـظريّـة المجـرّدة.
تـتبـدّى الإيـديـولوجيـا، بما هي نظـرة إلى العالـم، في هـذا الـرّوح المحايـث لتجارب الدّول والأمـم؛ الـرّوح الذي يمـثّـل مفـتاح معرفـتـنا بآثـار تلك الأمم والحضارات لأنّـها تجسّـده. ولا سبيل لـدى الدّارس إلى اكـتـشاف تلك الـرّوح بإعـمال عـقـل الأنـوار، في نظـر هِـردر، بـل بإعمـال معيار الحضارة التي يتـناولها ذلك الدّارس؛ وهـو المعيـار الذي يـفـرض عليه أن يضـع نفسَـه داخلها لكي يعرفها على الحقـيقة. وعليه، تـقـتضي معرفـةُ إيـديـولوجيـا عصـرٍ معيّـن أو حـقبـةً تاريـخيّـة بعينها نـوع نـظـرتها إلى العالـم؛ لأنّ ذلك هـو مفتـاح معـرفـة كـلّ ما ينـتـمي إلى تلك الحقبـة من إنتاجـات وقـيـم ومؤسّسات. هـذا هـو عـيـنُـه ما يفـيـده مفـهـوم «روح العصـر» عند هيـغـل. لقد دخلت هـذه المفاهيـم في نـطاق منظـومـةٍ معرفـيّـة جديدة أنـتـجتْ رؤيـةً مبْـناها على فكـرةِ انتمـاءِ فكـر أيّ مـفـكّـر، في أيّ حـقبـة، إلى ذهـنـيّـةٍ عامّـة أطلـقـت عليها الاجتـماعات الألمانيّـة - مع ديـلـثـاي ومـاكـس ڤـيـبـر- «النّـظـرة - إلى - الكـون».
*نقلاً عن سكاى نيوز عربية