وجدت نفسها وابنتها الصغيرة أسيرة لدى الفصائل الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023، سمعت كثيرا عن وحشية الفلسطينيين «أبناء الظلام» في أدبيات المتطرفين الإسرائيليين «أبناء النور»، وبعد 50 يومًا من الأسر اكتشفت أكاذيب الدعاية السوداء.
تدعى دانييل ألوني، وابنتها تدعى إيميليا، قررت أن تودع آسريها برسالة، رسالة شجن، عبرت فيها عن شكرها وامتنانها للمعاملة الحسنة التى عوملت بها وابنتها، رغم القصف الإسرائيلى الرهيب على رءوس الأطفال والنساء في غزة، وجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل.
كتبت دانييل قبل عودتها إلى منزلها بيوم: “إلى الجنرالات الذين رافقونى في الأسابيع الأخيرة، يبدو أننا سنفترق غدًا، لكننى أشكركم من أعماق قلبى على إنسانيتكم غير الطبيعية التى أظهرتموها تجاه ابنتى إيميليا، كنتم لها مثل الأبوين”.
وفى جزء آخر من الرسالة كتبت: «أنا للأبد سأكون أسيرة شكر، لأنها «إيميليا» لم تخرج من هنا بصدمة نفسية للأبد، سأذكر لكم تصرفكم الطيب الذى منح هنا، بالرغم من الوضع الصعب الذى كنتم تتعاملون معه بأنفسكم، والخسائر الصعبة التى أصابتكم هنا في غزة».
حرصت دانييل على توقيع الرسالة مذيلة باسمها واسم ابنتها إيميليا، متمنية الحياة الطويلة لآسريها الذين أصبحوا أصدقاء! بينما على الجانب الآخر يخرج الأسرى الفلسطينيون، “الأطفال والنساء” من السجون والمعتقلات الإسرائيلية محطمين، وفى حالة نفسية مزرية، يكشفون عن أهوال التعذيب البدنى والنفسي، ومع هذا تقتحم إسرائيل منازلهم بعد الإفراج عنهم بساعات، وتمنعهم من الفرح العابر.
بضع كلمات قليلة من امرأة عادية، عاشت تجربة قاسية بالمصادفة، تغنى عن مجلدات صاغها محللون إستراتيجيون غربيون و”شرقيون” عن “الوحش الفلسطيني” القاتل، وتفصل فصلا حادًا بين وارثى الحضارة، وبين تلاميذ سجون أوروبا النازية.
رسالة دانييل تكشف عن الجوهر الحقيقى للفلسطيني، وتمنحه السمت الذى يستحق، كما فعل الفرنسى الموهوب جان جينيه منذ 40 عامًا، عندما كتب عن ضحايا مجزرة صابرا وشاتيلا في لبنان، وقدم الفلسطينى كمقاتل في سبيل الحرية، مناهضًا بكتابته العبقرية تلك الصور الزائفة التى تقدمها وسائل الإعلام الغربية.
هذه الرسالة العابرة تفتح آفاقًا واسعة للحقيقة الوحيدة، وهى أن اليهود لم يكونوا مسألة لدينا في التاريخ الحضارى القديم، ولا في التاريخ الحديث، ولا في عصر انبثاق العقائد والأديان في الشرقين: المسيحي والإسلامي، بل إنهم كانوا “مسألة” أوروبية، والآن أمريكية، بوصفها القوة الوحيدة المحتكرة لسياسات النظام الدولي.
مسألة امتدت ألف عام، بدأت بالطرد من إنجلترا، وفرنسا، وأسبانيا، والبرتغال، والمجر، والنمسا، وهولندا، وألمانيا، وروسيا، والتشيك، وبولندا، وليتوانيا، دون ترتيب، ووقعت بحقهم مجازر ومحارق، وسن قوانين جائرة، وملاحقة، وسجون ومعتقلات، وصولا إلى ألمانيا النازية في ثلاثينيات القرن الماضي.
بعض الأوروبيين يعتقدون أنهم لم يخرجوا من عصور الظلام إلى عصور الأنوار والنهضة والحداثة إلا بعد حل “المسألة اليهودية”، وهناك مئات بل آلاف الدراسات التى تناقش هذه المسألة.
على الجانب الآخر لا توجد واقعة واحدة شبيهة بأى واقعة أوروبية بالنظر إلى هذه المسألة، ومع هذا كانت نتائج الحرب العالمية الثانية «الأوروبية في الأصل» فادحة على العرب، فقد وضعوا هذه المسألة في قلب الإقليم العربي، فتحولت إلى اصطدام دموي دائم، وعلى أوروبا أن تحل “مسألتها تلك”، وتقرأ رسالة دانييل كإشارة عن تغيير المواعيد عبر الأطلنطي، حيث الشريكان، أوروبا وأمريكا، سوف يعيدان حتمًا التفكير في «المسألة» بالكامل.