أقسى الحروب هي تلك التي يعتقد أطرافُها بأنَّ بابَ التراجع فيها مقفلٌ بإحكام لأنَّ فتحه يعني الهزيمةَ الماحقة وتهديدَ الوجود. الحرب الدائرة بين إسرائيلَ و«حماس» تبدو من هذه القماشة وتنذر بتكاليف إنسانية هائلة علاوة على تبعاتِها العسكريةِ والأمنية والسياسية والاقتصادية.
منذ ساعاتها الأولى، ارتدت معركةُ سحقِ العظام هذه طابعاً مخيفاً. إنَّها مصنعٌ هائلٌ للدمار والأيتام والأرامل واحتقار القانون الدولي خصوصاً لما تنزله بالمدنيين. وأخطرُ الحروب هي تلك التي تجري في غيابِ مرجعية دولية قادرة على وقف مشاهدِ العقاب الجماعي، والتلويح بإحلال نكبة جديدة فوق نكبة قديمة. ولا يحتاج العالمُ إلى مَن يذكّره بالسقوط المدوّي لهيبة مجلس الأمن وقراراته، خصوصاً بعد الحرب الدائرة على الأرض الأوكرانية، والانقسام الذي أحدثته في نادي الدول الكبرى.
في الحرب الصحافة مهنة مؤلمة. عليك أن تسجّل جرائمَها. الجثث الصغيرة المستخرَجة من تحت ركام المنازل. الأطراف التي سرقتها القنابل من أجساد المدنيين. الذعر الصارخ في عيون الأمهات. الانكسار المروّع في وجوه النازحين الذين طالبتهم المناشير بالانصياع لتهجير جديد على أرضهم. وعليك الالتفات إلى الصعود المتسارع لعداد القتلى وانتظام الجثث في صفوف طويلة. والتهام آلة الحرب الأرض ومن عليها ومن دون الإشفاق على المسعفين والصحافيين. كأنَّ كاميرا المصور أشد إيذاء من الصواريخ. كأنَّ عيونَ الصحافيين خناجر لا ترحم. نحن الصحافيين الذين دفعتهم المهنة إلى معاينة عددٍ من المقابر الهائلة الجوالة في الشرق الأوسط الرهيب لا نملك غيرَ الاعتراف أنَّ الحرب الحالية هي الأقسى والأخطر والأفظع.
هاجمتني المشاهد أمس. تذكرت الجنرال آرييل شارون يسكب النار في 1982على بيروت المحاصرة ويحرم أهلها من كسرةِ خبز وقطرة ماء أو كهرباء. تذكَّرت أيضاً المناشير التي ألقتها الطائرات الإسرائيلية يومها ترشد السكان إلى «الطرق الآمنة» لمغادرة المدينة. وتذكَّرت أيضاً أنَّ كوفية ياسر عرفات عاندت واختارت - بعد اضطرار المقاتلين إلى الإبحار إلى منفى جديد - إعادة القضية إلى ترابها وتحديداً إلى الضفة وغزة. وفي تلك الأيام كانت إسرائيل أقوى وقدرتها على الردع أكبر ولم يكن «حزب الله» قد وُلد ولم تكن «حماس» أبصرت النورَ وكانت إيران غارقة في حربها مع العراق. والسؤال الكبير هو هل أصابَ الشعور بالقوة المؤسسةَ السياسيةَ والأمنية الإسرائيلية بعمى الغطرسة فاعتقدت بأنَّه يمكن تأسيسُ أمنٍ واستقرار على ركام حقوق الفلسطينيين؟
الحرب الحالية في غزة أكثر خطورةً من المواجهات السابقة. هزَّ هجوم «حماس» بمجرياته وعددِ ضحاياه ورهائنه المجتمعَ الإسرائيلي. وجَّه ضربة قويةً لصورة القدرة على الردع التي يتمسَّك الجيش الإسرائيلي بعدم التفريط فيها. تصريحات ما بعد الضربة وعلى لسان بنيامين نتنياهو، فضلاً عن وزير الدفاع والعسكريين، تؤكد أنَّ «المعركة مصيرية». تتحدَّث التصريحات عن محو «حماس» وتمزيقها وتغيير كاملِ للوضع الذي كان قائماً في غزة قبل وقوع الهجوم. تشكيل حكومة الحرب في إسرائيل كانَ تعبيراً صريحاً عن درجة الشعور بالخطر. هذا الشعور يطلق يد الجنرالات، ما ينذر بحربٍ مدمرة لا يمكن ضبطُ حدودِها وخسائرها.
الحرب الحالية أخطر من سابقاتها. بين المراقبين من يخشى أن تكونَ الحرب في غزة حلقة أولى في معركة واسعة ترمي إلى رسم حدود الأدوار بالنار على مستوى الإقليم. وقد يكون التخوف من قدرة شرارات حرب غزة على التطاير هو ما دفع إدارةَ جو بايدن إلى إرسال حاملتي طائرات إلى المنطقة وتوجيه رسالة تحذير صريحة إلى الأطراف المؤيدة لـ«حماس» بعدم الانخراط في النزاع. وعلى رغم تفادي واشنطن حتى الساعة اتهامَ طهران صراحة أو تسميتها هدفاً للتحذير، فإنَّ الواضح هو أنَّها المستهدفة وأنَّها الوحيدة القادرة على تحريك جبهتي الجنوب اللبناني والجولان. الغارات الإسرائيلية على مطارَي دمشق وحلب رسالة إسرائيلية بالنار إلى إيران وليس إلى سوريا.
ثمة مَن يلفت إلى الوضع الصعب لنتنياهو. نهاية الحرب قد تدقّ أجراسَ نهايته لاعباً سياسياً. حين تصمت المدافع سيتحمل بالتأكيد مسؤولية الفشل في توقع هجوم «كتائب القسام» والهشاشة التي تكشفت لدى الأجهزة الأمنية والدولة العبرية بمجملها. وهناك مَن سيحمّله أيضاً مسؤولية إغلاق كل النوافذ السياسية وجعل الانفجار خياراً وحيداً. وبدأت بعض الأصوات تحمّله مسؤولية الرهان على الانقسام الفلسطيني لنسف خيار الدولتين والتفاوض واعتقاده بأنَّ وجود «حماس» هو أفضل ضمانة لاستنزاف الصوت الفلسطيني المقبول دولياً، وهو صوت السلطة الفلسطينية.
واضح أنَّ أي هجوم بري واسع على غزة سيفتح الباب على كل الأخطار. مواجهة دموية في شوارع الضفة الغربية ظهرت بوادرها. خطر اشتعال الحرب على الحدود الإسرائيلية - اللبنانية وربما على الحدود مع الجولان. هناك مَن يلمح إلى أن الحرب على جبهتين قد تدفع نتنياهو إلى فتح النزاع على مصراعيه وربما استهداف مواقع أو منشآت على الأرض الإيرانية لاستدراج أميركا إلى مواجهة مع إيران. يصعب أيضاً تصور وضع تسلم فيه طهران بتقدم سياسة نتنياهو المبنية على «قطع الأذرع الإيرانية».
غزة موصولة بشرايين المنطقة. والهجوم البري سيؤدي في حال حصوله إلى كارثة في صفوف المدنيين. وربما يفتح الباب لتوسيع النزاع. ولهذا تصبح المهمة الأكثر إلحاحاً التحرك لإنقاذ المدنيين من الخطر المحدق وتذكر موجبات القانون الدولي الإنساني عن طريق لجم التصعيد والتقدم نحو وقف الحرب. ليس ثمة شك أن العودة إلى الوضع السابق متعذرة. لا بد من سياق يعيد فتح باب الحل السياسي ومراعاة الحقوق. وهذا جوهر ما سمعه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وليس سراً أن أميركا هي الطرف الأقدر على البحث في لجم التصعيد وإعداد المواقف لتقبل وقف الحرب. وهذه المهمة تعني عملياً إنقاذ غزة من كارثة إنسانية وإنقاذ المنطقة من انهيار كبير.
*نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط*