«لم يُقيد العلمانية، وأطلق يدَ التديّن»، لعل هذا هو أوفى وصف لمسلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في التعامل مع العلمانية التي ترسخت في الجمهورية منذ نشأتها على يد مصطفى كمال أتاتورك.
أردوغان ذو الخلفية الإسلامية المحافظة، لم يقيد العلمانيين، بل أطلق ما قيدته العلمانية من مظاهر التدين، مانحا مساحة كبيرة للتفاعل المجتمعي، ليعرب المجتمع على المدى البعيد عن صبغته ومرجعيته النهائية.
وهو بذلك المسلك ينتصر لرؤيته في إعادة ربط الأتراك بتاريخهم العثماني، الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالإسلام، ولكن في إطار التحرك تحت غطاء صيانة الحريات والتعددية. لم يلغ المناهج العلمانية، ولكنه أنشأ المدارس الدينية. أعطى هذا الجيل الذي نشأ على المبادئ العلمانية حقوقه السياسية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه أسس لجيل يتربى على المبادئ الإسلامية.
ترك تيار الدراما العلماني لإنتاج أعماله المُحملة بالمبادئ الكمالية ومضامين مخالفة للهوية الثقافية الأساسية للمجتمع التركي، ورعى في الوقت نفسه تيارا دراميا محافظا هادفا. ترك محلات الخمور من دون أن يغلقها، وفي الوقت نفسه قام بتقنين مواقيت عملها بما يتناسب مع متطلبات الحفاظ على إنتاجية وفاعلية الشعب التركي. لم يفرض الحجاب لكنه في الوقت نفسه فرض أوضاعا قانونية لحماية حق النساء في ارتداء الحجاب.
والقول بأن أردوغان لم يقيد العلمانية وأطلق يد التدين، يدل عليه واقع الجمهورية التركية اليوم من التدافع بين التيارين الإسلامي والعلماني، ففي الوقت الذي لا يتعرض بسوء لصرخات العلمانيين ومطالباتهم بوقف المد الإسلامي، ومحاولة أسلمة تركيا، والقفز على المبادئ العلمانية التي جاء بها الدستور، أطلق في المقابل يد رئيس الشؤون الدينية علي أرباش، في العمل على ربط الأتراك بدينهم وتغيير مظاهر العلمانية في تركيا والاتجاه صوب المبادئ الإسلامية.
يعد علي أرباش رأس الحربة في هذا التوجّه، باعتباره رئيس المؤسسة الدينية الرسمية في الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، وهو الشخصية التي يصدّرها أردوغان في المحافل والمشاهد المتضمنة للشعائر والمظاهر الدينية، أو المتعلقة بالإرث العثماني، وكان هو الخطيب الذي اعتلى منبر مسجد آيا صوفيا، الذي كان استعادة الصلاة فيه، أحد الأحداث المزلزلة على الصعيد المحلي والدولي، ولم ينس أرباش في ذلك المقام، الإشارة إلى التاريخ العثماني الذي تسعى حكومة العدالة والتنمية لاستعادة أصدائه، وذلك عندما اعتلى المنبر بسيف على طريقة الخطباء العثمانيين، وهو الأمر الذي أخرجه خصومه عن سياقه التاريخي وصبغته التراثية، بالقول إنه نهج إرهابي داعشي. الملاحظ على رئيس الشؤون الدينية علي أرباش، جرأته في التصريحات المتعلقة بالداخل التركي، وانتقاد واقع المناهج التعليمية التي أبعدت الشباب عن نطاق التديّن، وهو تصريح جريء بالنظر إلى المعارضة العلمانية الشرسة، التي لم تنفك عن مواجهة مثل هذه النبرة بالصراخ ورفع الدعاوى القضائية، لأنها تهدد علمانية الدولة والمبادئ العلمانية التي قامت عليها.
كما اشتهر أرباش بتعاطيه مع الواقع السياسي على المستويين المحلي والدولي، فهو دائب على إطلاق التصريحات المتعلقة بالأحداث الساخنة، منها على سبيل المثال ما يحدث في فلسطين من انتهاكات صهيونية بحق الفلسطينيين كان آخرها أحداث جنين. ولن نتجاوز الحقيقة إن قلنا إن فوز أردوغان وحزبه في الانتخابات الأخيرة، قد شدّ ظهر أرباش للإمعان في خطابه الدعوي، الذي يثير سخط العلمانيين ويؤجج مخاوفهم على المبادئ العلمانية. مؤخرا أثار علي أرباش قضيتين ترتبطان بالشعائر الإسلامية، ما أثار جدلا واسعا في الداخل التركي، بين ترحاب وابتهاج من قبل الإسلاميين والمحافظين، وسخط وهجوم واسعي النطاق شنه العلمانيون على المؤسسة الدينية.
القضية الأولى كانت تلك الخطبة الموحدة التي أعدتها الهيئة التي يترأسها أرباش، والتي تطرقت إلى ضرورة تعديل ساعات العمل في المدارس والأسواق وفقا لتوقيت صلاة الجمعة، والتأكيد على حرمة الأموال التي يتم تحصيلها واكتسابها من خلال العمل أثناء صلاة الجمعة، وهو ما رآه العلمانيون توطئة لاعتماد يوم الجمعة عطلة رسمية، وهو بلا شك يثير مخاوفهم من أسلمة وجه الحياة في تركيا، لذلك سارع حزب التحرير الشعبي الشيوعي بتقديم شكوى ضد أرباش، بدعوى انتهاك عدد من مواد الدستور وسوء استخدام منصبه.
القضية الثانية، كانت دعوة علي أرباش لاستخدام تحية الإسلام (قول السلام عليكم) بدل تحية صباح الخير أو مساء الخير، وهو الأمر الذي أثار سخط النائب جمال إنجينورت عن الحزب الديمقراطي في البرلمان، ورفضه الشديد لدعوة أرباش، معبرا عن ذلك بقوله «أنا تركي ابن تركي ولست عربيا»، في إشارة منه إلى رفض تحية السلام عليكم، التي تعود إلى اللغة العربية، إلا أن فئات عديدة قد استنكرت رفضه هذا معتبرة أنه عدم احترام للثقافات الأخرى، خاصة أنها تحية الإسلام الذي تدين به الأغلبية التركية.
يعول أرباش في توجهه هذا على موافقته لمزاج القيادة السياسية، ثم على إيمانه بأن العلمانية لم تؤثر في الشعب التركي بشكل كامل، وأنها تجذرت أكثر ما تجذرت في مؤسسات الدولة، وهذا ما أكد عليه ولفرد كانتويل سميث، أحد أساطين علم مقارنة الأديان في القرن العشرين، من خلال كتابه «الإسلام في العصر الحديث»، حيث قال: «إن القول بأن الأتراك بإيثارهم الدنيوية قد تخلوا عن الإسلام، لا يحظى بتأييد من الباحثين في الشرق أو الغرب، وإنما هو مجرد إحساس شائع بين الأوروبيين والمسلمين في الأقطار الأخرى، والمسألة في حقيقتها لا تعدو الهيئة الحاكمة».
أعتقد أن دعوة أرباش في القضيتين ليست مقصودة لذاتها، ولا يُرجى ترجمتها في الواقع بالوقت الراهن، بقدر ما هي إبراز لصوت التديّن الذي تعالى في تركيا في العقدين الماضيين، والذي يحقق المزيد من الازدحام والالتفاف حول الفكرة الإسلامية. ينأى أردوغان بنفسه عن هذا التدافع بين الإسلاميين والعلمانيين، فهو في النهاية زعيم يسعى لرفعة بلاده وتطورها وازدهارها، لذلك لا مجال للقول بأن أردوغان يفرض مظاهر التدين قسرا على الأتراك، فهو كما أسلفنا أطلق الحريات لمظاهر التدين أسوة بالعلمانية، ليختار الشعب مرجعيته ومنطلقاته، لذلك يقع أردوغان في المنطقة الرمادية بين الجذور الإسلامية والواقع العلماني، وفقا للتصنيف العربي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.