إن أردت حقًا فهم العقلية الصينية، وتفسير مغزى ومرامي حركاتها وسكناتها وخططها، ما عليك سوى الرجوع إلى متن حكمة صينية قديمة مفادها: "لا تفصح عن مكامن قوتك قبل اكتمال عناصرها ومعالمها"، ومنها تستلهم وترسم بها بكين خطواتها دوليًا وإقليميًا، وتعتبرها نبراسًا تهتدي به وتقتفي أثره، ولا تحيد عنه.
فالصين ظلت حتى وقت قريب تتمسك بخطاب كونها لا تزال دولة نامية، وتجتهد بغية تحسين أحوال مواطنيها، ومد يد المساعدة للسائرين على مضمار التنمية والإصلاح من البلدان النامية دون شرط ولا قيد، مثلما تفعل الدول الغربية والولايات المتحدة معهم، إلى أن اكتملت مقومات نهضتها الاقتصادية والمالية والتكنولوجية، وكشفت عن وجهها المخفي كقوة اقتصادية عظمى وأزاحت اليابان من موقعها الذي شغلته طويلا كثاني أكبر اقتصاد بالعالم لتحل محلها، ويصبح لها قولها الفصل وقراراتها الحاسمة فيما يخص الاقتصاد العالمي، وبالإمكان القياس على الناحية الاقتصادية بشأن الجوانب العسكرية والسياسية وغيرهما.
ومن ثم، فإن التنين الصيني يتصرف من منطلق ارتقائه لمصاف القوى العظمى، وأنه جدير بما بلغه، ويحق له الإمساك بزمام الريادة على المستويين الدولي والإقليمي، وفرض شروطه ومنطقه، وأن يتم احترام أحقيته في ذلك، ويفاخر من طرف خفي بأنه الوحيد على الساحة الدولية القادر على مناطحة أمريكا ومنافستها كند عنيد على زعامة العالم من فوق أرض ثابتة، والوقوف لها بالمرصاد، لأنها في نظر الحكومة الصينية المسئولة عما آل إليه العالم من اضطراب وعدم استقرار وخراب.
وعبر خطاباتها الرسمية ورسائلها المباشرة وغير المباشرة تعزز بكين وجهة النظر السالفة الذكر بالترويج الدائم لفكرة أنها الأقدر على حماية النظام الدولي من العبث والنزق الأمريكي الذى يدفع به نحو الهلاك والدمار وسوء المآلات، وتتمتع بخاصية الرشادة السياسية التي تجعلها تتعاطى مع القضايا والنزاعات الدولية بحكمة وتريث بعيدًا عن سياسة الانفعال والتشنج، وهو ما زاد من منسوب الثقة فيها للعب دور الوسيط الأمين لإنهاء بعض الأزمات المستعصية والخطيرة، مثل النزاع بين السعودية وإيران واستئناف علاقاتهما الدبلوماسية، والأزمة النووية الكورية، والحرب الروسية الأوكرانية، ولا تتوقف الوفود الأوروبية ودوائر رجال الأعمال عن القدوم لبكين، طلبًا للمشورة، أو لاغتنام فرص استثمارية متاحة أمامها.
ليس هذا فحسب، لكنها أيضا مالكة لنموذج تنموي ملهم مكنها خلال سنوات قليلة في أعمار الشعوب والأمم من مغادرة معسكر الفقر والعوز إلى رحابة الغنى والثراء، وأن ينظر الجميع في أرجاء المعمورة المترامية الأطراف إليها بعين الإكبار والتقدير، ويتقربوا منها، لمعرفة أسرار وخفايا نموذجها المبهر والرائد، الذي تفوق في عرف الصينيين على النموذج الياباني ذائع الصيت والانتشار.
وبإطلالة سريعة على إحصائيات ومؤشرات ٢٠٢٢ فإن إجمالي الناتج المحلي الصيني وصل إلى ١٧،٩٥ تريليون دولار، والصادرات ناهزت الـ ٣،٦ تريليون دولار، والاستثمارات الأجنبية ١٨٢ مليار دولار بزيادة بلغت ٦،٣٪ على العام السابق، وهو ما يبين بشكل جلي حجم ما حققه الاقتصاد الصيني، رغم ما يعانيه عالمنا من متاعب ومشكلات كان لها أبلغ الأثر على الاقتصاديات على كوكب الأرض، بسبب تفشى وباء كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية.
هنا تتحدث الصين بلسان الثقة أكثر من الغرور والتباهي، لأنها تعى أن طريقها لا يزال في بداياته، ومجتمعها به ما به من النواقص والسلبيات والمعضلات الحياتية، التي تلزمها بمضاعفة جهودها ومعدلات نموها الاقتصادى، حتى تتغلب عليها، أو على الأقل الجزء الأكبر منها.
والثقة الصينية لا تنبع فقط مما أنجزته الحكومة الشيوعية وما تسعى لإنجازه وإتمامه على المديين القريب والبعيد، لكنها مستمدة كذلك من إرثها الحضاري وتأثيره الكبير على الإنسانية، وما كان للحضارة الصينية من فضل لا يمكن لكائن من كان إنكاره داخل الإقليم وخارجه، وأنه يشكل القلب النابض لثقلها الراهن، ويتضافر معه ما حققته اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا.
إحساس الصين بالثقة مهد سبيلها لرؤية "الصين الكبيرة"، بتوسيع نطاقات نفوذها، وتأمين مواضع نفوذها في آسيا الجديدة التي سوف تعيش في رحاب "العصر الصينى"، وتشمل هذه النطاقات المناطق البحرية الرئيسة القريبة في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، ونجحت في إقامة جزر اصطناعية في بحر جنوب الصين.
وركزت في تحركاتها بهذا السياق على سريلانكا الواقعة في قلب المحيط الهندى، وتايوان بالمحيط الهادئ الغربي، من أجل تدعيم مصالحها الوطنية الإستراتيجية، وبخاصة في تايوان التي تراها مقاطعة متمردة على الوطن الأم وستعود إليه يوما ما، ولا ملجأ أمامها سوى العودة، مثلما عادت "هونج كونج"، وتتشدد فيما يتعلق بها وبمحاولات أمريكا تشجيعها على التمرد على الصين، وتزويدها بترسانة من الأسلحة المتقدمة، وعادة تكون ردود أفعالها على تلك المحاولات عنيفة للغاية، وتستغل فيها قوتها العسكرية بمناورات حاشدة حول الجزيرة المتمردة البالغ تعداد سكانها ٢٣ مليون نسمة، وتعد المنتج رقم واحد لأشباه الموصلات عالميًا.
وربما يوضح ذلك إصرار وحرص الحكومة الصينية على رصد مزيد من المخصصات المالية للتقنيات المتقدمة التي تساعدها في إبراز قوة الصين خارج شواطئها، بما في ذلك أسطولها البحرى وترسانتها النووية والصاروخية، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الفضاء، حتى تواجه التهديدات الخارجية الرامية لفرض طوق حولها، سعيًا لاحتوائها والحد من تصاعد نفوذها ومداه.
وخصصت السلطات الصينية العام الماضي ٢٢٩ مليار دولار للإنفاق العسكرى، وسمحت الزيادات السنوية المستمرة لأكثر من عقدين من الزمان للجيش الصيني الذى يضم مليوني جندي بزيادة ودعم قدراته، بخلاف امتلاكه مخزونًا هائلا من الصواريخ متعددة المدى، وطائرات الشبح والمسيرة، والقاذفات القادرة على حمل أسلحة نووية، وغواصات تعمل بالطاقة النووية، ودشنت أخيرًا ثالث حاملات طائراتها.
ويبرر المسئولون الصينيون زيادات إنفاقها العسكري بالتحديات الدولية والإقليمية، ومواكبة الإنفاق العسكري الأمريكي الذي بلغ أكثر من ٨٠٠ مليار دولار العام الجارى، ويعتبرون إنفاقهم متواضعًا مقارنة بنظيره الأمريكي، ومواجهة تنامي النزعة العسكرية اليابانية، بعد قرار طوكيو مضاعفة موازنتها العسكرية، وتبني إستراتيجية عسكرية وأمنية جديدة شكلت تحولا عن نهجها السلمى المعهود، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وسعيها للحصول على أسلحة متطورة بمباركة أمريكية وغربية، والهدف المعلن للتحولات اليابانية التصدي للصين التحدي الإستراتيجي الأول والأخطر للساموراي الياباني.
ولا تغفل بكين عن أن رئيس الوزراء الياباني الراحل "شينزو آبى"، كان صاحب شعار "منطقة المحيطين الهادئ والهندي حرة ومفتوحة" والذى احتضنته الولايات المتحدة لاحقا وبدأت في تنفيذه، حتى أن حلف شمال الأطلنطى "الناتو" أعلن رسميًا العام المنصرم أن منطقة المحيطين أصبحت جزءًا من المصالح الأمنية المشتركة لدول التحالف، وهو ما يعني انتقال نشاط "الناتو" المقتصر على المحيط الأطلنطي إلي الجوار الصيني وتشكيل تهديد مباشر له.
لهذا فإن الصين وفي إطار "آسيا الجديدة" تعمل جاهدة لإضعاف بنية التحالف الغربي والأمريكي في القارة الآسيوية، وتمدد نفوذها لكل اتجاه مقابلها، لتضيق مساحات حركة التحالف الهادفة لمحاصرتها، وإنهاك قواها، لكي تظل أمريكا هي القوة المهيمنة، لكنها عازمة على ألا تسمح له بالعبث في فناء نفوذها الخلفي، مهما كان الثمن المطلوب منها دفعه، وتجهز نفسها لكل السيناريوهات المحتملة الآن ومستقبلا، فالأمر مصيري بالنسبة لها ولا يحتمل التقاعس أو التهاون.
كما تقاوم الصين حملات شيطنتها التي تقودها واشنطن وحلفاؤها الغربيون بالزعم بأنها مصدر التهديد الأبرز والأول للأمن والسلم العالميين، وأن طموحاتها غير محدودة والقدر الغاطس يفوق بمراحل الظاهر منها، وأنها تتجسس على الجميع بواسطة تكنولوجيا الجيل الخامس، وكأن الولايات المتحدة لا تقوم بالفعل نفسه مع الأصدقاء قبل الأعداء، وأن وباء كورونا الذى فتك بالعالم لعدة أعوام خرج من معاملها، وراجعوا ما ينشر عن التنين الصيني بالصحافة الأمريكية والغربية لتتأكدوا من وجود حملة ممنهجة لتشويه صورته والحط من شأنه، لا سيما وأنه لم تجد معه وسائل إخضاعه وإدخاله قسرًا بيت الطاعة الأمريكي حتى يومنا هذا.
**تقلاً عن بوابة الأهرام