قال الله تبارك وتعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]، قال ابن عباس وغيره في ظلال هذه الآية: “كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ. فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ”.
فالله جل في علاه قد فطر الناس على توحيده، وظلت البشرية على تلك الفطرة الشاهدة على الوحدانية إلى أن طرأ عليها الشرك، وأول حدوثه كان في قوم نوح، عندما اتخذوا أصناما آلهة يعبدونها من دون الله.
جريمة الشرك لم تحدث بين يوم وليلة، بل مهد لها الشيطان أمدًا طويلا، آخذًا الناس بمبدأ التدرج، وذلك عندما مات بعض الصالحين من قوم نوح، فسول لهم الشيطان أن ينصبوا في مجالسهم أصناما لتذكرهم بهؤلاء الصالحين فينشطوا للتأسي بهم، ففعلوا، ومع طول الأمد وتناسي العلم سوّل لهم عبادتها فعبدوها، فأرسل الله إليهم نوحا عليه السلام لردّهم إلى الصراط السوي.
قال تعالى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23].قال ابن عباس رضي الله عنها: “أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ”.
دخل إليهم الشيطان من هذا المدخل لعلمه أن النفوس المؤمنة تأبى مجرد التفكير في عبادة غير الله، لكنه زحف إليهم هذا الزحف الناعم، ومن هنا ندرك أن الغلو في الصالحين والمبالغة في تعظيمهم وإنزالهم مكانة ليست لهم، هو أبرز الطرق الموصلة إلى الشرك.
ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم مع عظم جنابه، على تربية جيل الصحابة على النأي عن الغلو فيه ذاته، فكان يقول: (لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ) أي لا تبالغوا في مدحي فتنزلوني منزلة لم ينزلنيها الله تعالى.
وعندما رجع معاذ بن جبل من الشام، سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، والذي استنكر ذلك بقوله: (ما هذا يا معاذ؟ قال:أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعلوا فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها).
فمعاذ لم يكن يقصد بسجوده للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعبده، وإنما لإظهار الاحترام والتوقير، ولكن منعه النبي صلى الله عليه وسلم حفاظا على عقيدة التوحيد، امتثالا للتشريع الذي نسخ ما كانت عليه بعض الشرائع السابقة التي كانت تتيح السجود للبشر على سبيل التحية كما في قصة نبي الله يوسف عندما سجد له أبواه.
كما أكد القرآن الكريم على كون النبي صلى الله عليه وسلم بشرا، مغلقا الباب على أتباعه حتى لا يغالوا فيه، وبهذا التأكيد ينسف كل ادعاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور وجه الله، أو أنه يعلم الغيب من دون الله، فهو بشر يوحى إليه، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
فإذا كان هذا يقال بحق أحب خلق الله إلى الله، وأكثر الناس إيمانا وتقوى، فكيف يُغالى فيمن هو أقل منه شأنا!
من ينظر إلى واقع أمتنا، يرى بوضوح مآلات الغلو في الصالحين وتقديسهم، فهناك من هذه الأمة من يسجدون لشيوخهم في الحياة وأمام قبورهم بعد الممات، ويطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله من قضاء الحوائج والشفاء ونحوه، بل هناك من يعتقد أن إمامه يعلم الغيب من دون الله، وكل ذلك سببه تقديس هؤلاء والغلو فيهم.
مهما ظهر الصلاح على الإنسان فصلاحه لنفسه، يُجزى به، لكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن نبالغ فيمن رأينا عليه الصلاح أو نغالي في تعظيمه، فهو بشر، لا يملك لنفسه الضر ولا النفع، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.