أبو الطيب المتنبي ( مالئ الدنيا وشاغل الناس ) .. لم تطلق الأوساط الأدبية هذا اللقب جزافا ، وهو بالمناسبة لم يطلق على أحد من الشعراء لا من قبل ولا من بعد حتى صار عَلَما على المتنبي لاينصرف الذهن إلا إليه .
ولقد صدقوا وصدق من قال : الشعراء يمشون والمتنبي يطير .. ديوان التنبي هو أكثر الدواوين الشعرية على وجه الأرض حظوة وعناية وجدلا ! وهو أول شاعر يتنبأ بأن ديوانه الشعري سيجوب الجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي إلى العالمية حتى لاتكاد تجد مستشرقا واحداً لايعرف من هو المتنبي :
أنامُ ملءَ جفوني عن شَوَاردها
ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ !
لقد نام المتنبي وغاب .. لكنا لا نزال نقطع الليالي سهراً وتجديفاً علّنا نصل أفقه الشعري المنير وأنَّى ؟!
تخيلوا إماما في اللغة كابن جني صاحب الخصائص يشده الديوان بقوة يعجب من ألفاظه البدوية وتراكيبه البديعة ، فيكون هو أول شارح للديوان .. ثم إماما في تفسير القرآن الكريم كالواحدي يستهويه الديوان فيعمل على شرحه شرحا جعل البعض يقدمه على كل الشروحات الأخرى! .. وشاعر بحجم الدنيا كأبي العلاء المعري الذي كان يحب المتنبي حبا جما وبينهما ما بينهما من تباعد الأيام والسنين يقوم بشرح ديوان المتنبي شرحا بديعاً ، وغيرهم وغيرهم من عشاق العربية .. يوم كان للعربية سطوة على النفوس وهيام وعشق ، لا كبعض المصابين بالجذام الفني اليوم لم يجدوا في العربية وظيفة للعيش فراحوا يهزأون يريدون النيل من هذا الصرح العملاق ! يذكرالدكتور محمد علي محمد جودر في رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراة ( أن ديوان أبي الطيب المتنبي له أكثر من ستين شارح هذا غير الدراسات المعاصرة والشراح المعاصرين ).
المتنبي ظاهرة فريدة في الأدب العربي يقول في إحدى نوادره :
تحسبُ الماءَ خطَّ في لهبِ النَّا ... رِ أدقَّ الخطوطِ في الأحرازِ
يتحدث المتنبي عن سيفه .. هذا السيف الأصيل اللمّاع والبرّاق حتى لتكاد تظن أنه يشتعل ناراً من بعيد ! يشبه بريق سيفه بالنار ، ويشبّه جوهر السيف وما فيه من آثار بخطوط من الماء ، فكأن صفحة سيفه ورقة مكتوبة ، لكنه يقابل بين خطوط الماء الدقيقة التي نرى أثرها في التربة ، وبين نوعٍ من الخطّ دقيق عادةً ما يستعمل للكتابة في الأحراز أو الرقية أو التميمة ، فهذه الأحراز عادةً ما تكتب بخطوط دقيقة وصغيرة ! إذن فهو سيف أثير ومنير ومقدّس ! وهذا غاية في المدح إذ جمع كل ذلك في كلمات قلائل لكن لو تساءلنا ياترى : ما الذي قد كُتب على صفحة السيف ؟ هل يمكننا أن نقرؤه ؟
البيت التالي يوضح ذلك :
كلما رُمتَ لَونَهُ مَنَعَ النَّا ... ظرَ مَوْجٌ كأنّهُ مِنكَ هَازي
إنك كلما حاولت أن تدنو من صفحة السيف لتقرأ أو لتسبر غوره منعك بريق السيف وماؤه وبياضه الذي يتردد فيه كأنه الموج .. كأن السيف يهزء بك قائلاً : هيهات منك الاقتراب !
ثم يأخذنا في وصف سيفه الفريد بصورة بديعة ، فالسيف يجندل العدو بلمح البصر ومع ذلك فإنك لا ترى على السيف أي أثر للدماء ! إنه يظل نظيفا صافيا رغم قتاله واختراقه الأجساد .
فهو لا تلحق الدماءُ غَرَارَيْ ... هـِ ولا عِرْضَ مُنتضيه المخازي
أي لايتطلخ بالدماء رغم قتله الأعداء ولا يتطلخ عرض صاحبه بالعار أيضاً .
ثم يهتف بسيفه :
يا مزيلَ الظلام عني وروضي ... يوم شربي ومعقلي في البرازِ
الله ! أي علاقة حميمة بين العربي وسيفه !
فلأن السيف مغلّف بالنار والبريق فهو يجلي ظلمات الليالي . غير أن البيت الذي أدهشني في القصيدة قوله :
سَلَّهُ الركضُ بعد وَهْنٍ بنجدٍ ... فتصدّى للغيث أهلُ الحجازِ
هنا في هذا البيت تتجلى دقة التصوير وروعة المشهد فهو يقول إنني أثناء ركضي بالخيل ونحن في وهاد منطقةِ نجدٍ .. نخترق أشرعةَ الرياح والأشياء تطاير كان غمد السيف يضطرب أثناء هذا الركض الشديد ، فكان إذا برز أو خرج بعضا من سيفي لمعت سماء الليل لمعانا ملفتاً حتى ظن أهل الحجاز أن السماء ستبرق وترعد ، فإذا هم قد خرجوا يتعرضون للمطر!
يا إلهي !
أجل! إن وراء هذه اللغة وتلك التراكيب والإيقاعات والصور البلاغية روح عبقرية نفحها الله بالطموح والذكاء ، وأمدّها بملك وسلطان عظيم .
رحم الله الإمام المفسّر الإمام الواحدي الذي قال :
ما رأى الناسُ ثاني َالمتنبي ... أيُّ ثانٍ يُرى لبِكر الزَمانِ ؟
هو في شعره نبيٌّ ولكنْ ... ظهرتْ معجزاتُهُ في المعاني
ليس عود الفنان الذي يعزف ولكنه القلب .. لقد رحل المتنبي منذ مئات السنين لكنه ترك لنا من ورائه لهيب الكلمة وعنفوان الشخصية العربية .
لقد ظل أفق الشعر ملبدا بالغيوم منذ أن رحلت أيها المتنبي .. اسمح لي أن أضع على قبرك هذه الباقة من الحب .. مشبوبة الأريج ، يمانيّة الهوى
طارق السكري