" رمضان يجي هو ورزقه "
كانت هذه الاسطوانة لا تنفك تتردد على ألسنة الشّيَّاب في القرية !
هذي النغمة كانت جديدة على أذني ! فأنا ابن مكة .
كانت حارتنا في شارع التيسير عندما يهل شهر رمضان المبارك تتزين بأضواء الأتاريك الكبيرة .. إضافة إلى إنارات الشارع وكانت بسطات الحلويات الكبيرة والملوّنة تمتد أمام كل بقالة : قوارير شراب الفيمتو .. حلويات اللدّو واللّبنية والمشبّك .. تبرق البسطات بسائر الأصناف .
يرتدي شَيّاب أهل مكة الأزياء التقليدية الكوفية الذهبية من القصب وشال فخم على الكتف وعصا في اليد للعبة المزمار المعروفة .. ويصدحون بتلك المجسّات الحجازية في الصلاة والسلام على رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام . ثم عندما يجلسون .. ينكتون فيما بينهم :
ياقدرية قطّفي الملوخية
يجيبه الآخر :
ويابدرية بخّري الزبدية
يرد عليه آخر :
يلا قوامن قبل المغربية
أما نحن فكان أجمل مواسم كرة القدم شهر رمضان – لاتستغربوا أنا ابن لاعب كرة ومن شابه أباه فما ظلم – لعب الكرة في ليل رمضان لايدرك إحساس الشعور به إلا عاشق لكرة القدم !
كانت ملاعب الحارات تضيء في الليل كأننا في حفل لاستقبال موكب ملكي ! وتبدأ الناس بالتجمهر .. وتبدأ الفرق وجماهيرها تزحف مشياً من حارة لحارة تردد الهتافات والتحديات والتصفيق ، والناس يخرجون لمشاهدتهم كأنهم أمام جوقة موسيقية . رأيت أبي مرة واحدة عن طريق الصدفة على ربوة بين الجماهير حين سجلت الهدف الثالث وفريقي يجري نحوي لمعانقتي !
تلك المباراة أراد المدرب أن يختبر أداء بعض اللاعبين المستجدين .. فجعل الأساسيين على دكّة البدلاء . فتقدم فريق الخصم بأربعة أهداف مقابل هدفين لنا .
كان ملعبنا مستويا رائعاً في أرض منخفضة ترتفع على جانبيه مدرجات من الصخور والبشر . لا أزال أذكر انتهت تلك المبارة بالتعادل .. كم فرحت عندما رأيت أبي جالسا يرمقني من بعيد . لكنه لم ينتظر ليشاهد هدفي الرابع !
وكان أجمل ما في تلك الدوريات الكروية مشاهد الالتحام بالأيادي بين الجماهير إذ كانت كل مباراة لابد أن تختتم بمشاجرة كبيرة !!
أما في اليمن عندما عدنا أزمة الخليج .. فقد كان رمضان في القرية مختلفا بالكلية .. حياة بسيطة .. هادئة .. لاضجيج ولا جلبة ! أناس بسطاء .. جبال ووديان .. وسوائل تزين فضاءاتها أصوات الأغنام والكلاب والحمير !
يبدأ إعلان تباشير رمضان من أول شهر شعبان ! يستشعر الناس نفحات رمضان من بعد ! حتى كنت أقول أن رمضان يبدأ في شعبان !!
يجلس الشياب على الدكك وعلى صرحات المسجد يدعون : اللهم بلغنا رمضان . ونحن ننظر ببلاهة إلى ابتسامات الأمل في عيونهم .
لاتوجد أسواق في القرية ولا مولات وهم يرددون تلك الأسطوانة : " رمضان يجي هو ورزقه " ؟؟!!
ثم يأخذون في سرد القصص عن بركة رمضان . ويذكرون زمانهم عندما كانوا صغاراً . كانوا يظنون أنه لا يفطر في رمضان إلا الأكل والشراب والجماع لكن شرب المداعة .. أمر من المباحات !
يضحكون وهم يسردون عن بعضهم مثل تلك المواقف . وكيف كان بعضهم يستغل نوم الناس في النهار ليقوم بترويض الدجاج !!!
ويبدأ هذا الحشد المعنوي في صدور الأبناء وهذه التعبئة التربوية الممتازة من حين وحين .
لايذهب في خاطركم أني أعيب على مكة وأمتدح قريتي !! معاذ الله ! فمكة منبع الخير ولكني أتحدث عن بيئتي التي صنعتها ظروف معيّنة !
يقوم البنات في القرية بالاهتمام بالمسجد .. ينظفنه .. يبخّرنه من أجل صلاة التراويح .. بترتيب المصاحف بعد أن يخرج الناس من صلاة العصر .
يبدأ موسم شراء المواطير لكن كانت المواطير في التسعينات لايقدر عليها إلا المغتربون . فكنا نؤم بيوتهم لمشاهدة مسلسل دحباش في سمر قات عظيم .. تتوسط المقيل مداعتان عروستان من التتن الفاخر .. تنعقد غمامات الدخان على سقف المقيل كأنك تخزن في بركان !
ما كان ألذ من صلاة التراويح .. خفيفة رغم أننا في القرية نصليها عشرين . يغمغم فيها الإمام إذا نسي آية فلا يرده أحد ! كان جدي رحمه الله إماماً لكن كان عنيدا لا يريد أن يذكره بالآية أحد ! يريد أن يتذكر الآية بنفسه ! شق على الناس الانتظار ذات مرة فصاح المؤذن : إييه الحاج نشَرْ ! قال الذي بجواره : اخرج الله يلعنك بطلت صلاتك ! قال الذي بجواره : ما أنت إلا صلاتك مقبول !! ضج المسجد بالضحك .
ماذا نفعل ؟ شهر رمضان كان موسم البقل والكراث والكوبش . والأطفال يذرعون القرية من أعلاها إلى سفالها وهم ينشدون : "رمضان شهر الشفوت يالله بعجّازي تموتْ" ولأن مسجد القرية كان صغيرا فلكم أن تتخيلوا موقف الناس إذا تجرأ واحد فتقرتع !!! لأنه كيف تكون شفوت بلا بسباس وكوبش وبقل ؟!!
أذكر مرة كان لدينا شيخ كبير في السن عاقل وكلمته مسموعة صلى جوار أحد عشاق الكوبش فبلغت روحه الحلقوم !! كان يضطرب في صلاة المغرب ينتظر متى تنتهي الصلاة حتى ينفجر من الغضب ! فما إن سلم الإمام إلا وبادره الشاب بجواره قائلا : لكن أظنك ياعم قد أكثرت من أكل الكوبش ؟ قال له : والله العظيم كنت أظنك أنت !! قال له : لا لا أنت تعرفني لا أحب هذا الأمور . وهكذا تخلص الشاب بذكاء من ورطة كبيرة ثم انسحب برشاقة في وسط ضجيج في المسجد وصخب .
كان رمضان في القرية ملائكياَ روحانياَ ..
لم يكن ينتمي إلى المدن وأسواقها وشوارعها المزدحمة !
لم يكن ينتمي إلى الحضارات وصراع الدول الكبرى والمنظمات !
لم يكن ينتمي إلى الشاشات والتكنلوجيا والجوالات والحواسيب !
كان قرآنياً .. وهل ينتمي القرآني إلا إلى السماء ؟
رحمة الله على شياب القرية .. ورحم الله من مات من زملائي .. ومتع الله بالصحة من بقي