مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2019/09/11 18:56
قضايا معاصرة ـ الغزالي وتجديد الفكر الإسلامي
د.محمد يونس

للداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي إسهامات متميزة في تجديد الفكر الإسلامي المعاصر في مجالات عديدة، يمكن أن نتلمس المشروع التجديدى للغزالى - رحمه الله - من خلال جهوده في الفكر والدعوة والتوعية والتربية، وايضاً من خلال عمله في الحركة التجديدية وأن انفرد هو بخصائص فكرية وتربوية تميزه عن فصائل هذه الحركة وتضفي عليه درجة من الاستقلالية.ونتوقف هنا عند منهجه في التجديد قد تميزت تجربة الغزالى التجديدية في الفكر الإسلامي عن سائر تجارب رواد التجديد في مدرسة الاحياء الإسلامية الحديثة، من حيث اقترابه من الناس وتأثيره في قلوب جماهير المسلمين، ربما لان الغزالى قد عايش الناس وامتلك قدرة هائلة على تبسيط فكره سواء كان ذلك في خطبه وأحاديثه أو كتبه ومقالاته. ولكن لم يقم الغزالى بصياغة منظومة فكرية لمشروعه التجديدى، محكومة بآليات المنطق التقنى ومناهج العلم الطبيعي على النحو الذي فعله الكثيرون من المفكرين والفلاسفة، ربما لأن منظومته التي تمثلها وسعى على الدوام إلى نشرها كانت «الإسلام» نفسه، في جملته وفى وجوهه التفصيلية المختلفة الاقتصادية والسياسية والاجتماعي والأخلاقية والروحية، ولأن المبدأ الرئيسي الموجه لتجربته وحياته تمثل في أن (الإسلام للحياة)لكن ذلك لا يعني أبدا أن تجربة الشيخ الروحية كانت تجربة (شاردة) عن الموجهات المنهجية والمبادئ التأسيسية الصلبة التي كانت توجه حراكه النظرى والعملي في دنيا البشر، أو أنها كانت محض تمثلات (عاطفية)أو مجرد وعظ إقناعي يتوجه إلى عامة الناس.فواقع الأمر أن المبادئ الموضوعية التي أسست العقل الإسلامي الغزالى كانت ماثلة على الدوام في جميع أعماله العلمية والفكرية، كما أن الذين استمعوا إلى دروسه أو التقوا به يعرفون ذلك حقاً - على حد قول د.فهمي جدعان في:(العطاء الفكري للشيخ محمد الغزالى) وباستقراء أعمال الغزالى يمكن القول بأن سمة الاجتهاد والتجديد حاضرة بوضوح في كل انتاجه، سواء في تركيبه للأفكار أو في اسلوبه في الطرح والحوار، أو في الوعاء اللغوى الأنيق الذي استخدمه لبث تلك الافكار، وعلى مدى نصف قرن ونيف من جهاده الفكري، هبت في وجهه مختلف الجبهات المتناقضة في تفكيرها، والمتحدة من حيث اعتراضها على أفكاره ومتطلباته التجديدية. و لم يكن الشيخ هو الآخر ممن ينحنون للعواصف، ودارت رحى جدال عنيف حام، أصلى فيه الشيخ معارضيه من العلمانيين وأولياء الجمود والتبعية- مثلما أصلوه- من قارص القول وحديد الكلم ولكن المعركة انجلت في النهاية عن انتصار واضح لصالح الفكر التجديدى المستقبلى الذي نافح عنه الشيخ، وانكسار واضح لقواعد الجمود والتقليد وتيارات الغزو الفكري، التي توطدت في بلادنا منذ زمن بعيد- ويوضح د.محمد وقيع الله أن ذلك البلاء الفكري هو بعض ما أهل الغزالي لأن تعده الدكتورة ايفون حداد- إحدى خبيرات الفكر الإسلامي في الغرب- واحداً من أقوى العلماء الذين تصدوا لغزوة الأفكار الغربية الحديثة التي كان من الممكن- كما قالت - أن تصيب الإسلام بمثل ما أصابت به المسيحية واليهودية في أوروبا». ويرتكز المشروع الإسلامي التجديدى للغزالى على أربعة ركائز أو مبايء موجهة لتجربته هى :الإيمان، والعقل، والعلم، والعاطفة الوجدانية.ويؤكد الدكتور فهمي جدعان- - أنه يمكن رد هذه المبادئ الأربعة إلى حدين مركزيين تتردد بينهما جميع هذه المبادئ هما:حدا الإيمان من طرف اول واليه يرد مبدأ العاطفة الوجدانية، والعقل من طرف ثان واليه يرد العلم أساساً. ويمثل الإيمان الواقعة المبدئية، الصلبة لكل ما صدر عن الغزالى من قول أو نشاط أو فعل.ومن الطبيعي أن يكون الأمر على هذه الحال لأن الرجل أسلم نفسه للإسلام وعلق به حياته كلها، ورهن هذه الحياة لرسالته الدعوية المناضلة.والإيمان عنده لم يكن مجرد إقرار باللسان وتصديق بالقلب، مثلما عرفه أهل الفرق الإسلامية القديمة، فهدا التحديد ناقص، إذ أنه يغفل عن أسس وخصائص أخرى موضوعية يتقوم الإيمان بها. فالغزالى يحدد الإيمان بأنه معرفة بلغت حد اليقين أو هو علم يصحبه الجزم والقطع «(محمد الغزالى، الجانب العاطفة من الإسلام).لاشك أن هذا اليقين تصديق ولكن هذا التصديق ذو أساسين صلبين:أولهما نظري وثانيهما نفسي:عقلي، وقلبي)فمعنى أن نؤمن بالله أننا نعرفه، وأن هذه المعرفة معرفة (ممتلئة)باليقين، لا يساورها أى شك أو ريب أو تردد وأن التصديق الذي يتلبسها هو تصديق عقلي يستند إلى أدلة موضوعية وعلمية، ونفسى يتمثل في الاطمئنان إلى هذه الحقيقة، وفى سريان تيار شعوري في النفس يملؤها ثقة واقبالاً على الحياة وعلى الله ورضوانه. أما العقل عن الشيخ الغزالى فإنه يفارق التيار العقلاني الخالص الذي مثله في الإسلام المعتزلة وابن رشد وجملة المتكلمين والفلاسفة، إذ لم يخص العقل بمطلق المرجعية في المعرفة.كما يفارق تيار أصحاب الحديث القدماء الذين خصوا (النص)بمطلق المرجعية، ولم يتمثلوا لأنفسهم هذا المركب الفريد للمعرفة.لاشك أننا نستطيع أن نتصور أن هذا الموقف ليس إلا تركيباً بين (تيار الرأي)العقلاني على وجه الإجمال وبين تيار (الصوفية)الروحى بإطلاق.كما يمكننا أن نذهب إلى أن الغزالى لم يكن هنا إلا تلميذاً أمنياً على التقليد الراسخ الذي أرساه محمد عبده - على حد قول د.الجدعان- إذ جمع في تأسيس المعرفة الدينية، بين العقل وبين الوجدان، على ما ساقه في (رسالة التوحيد). ولاشك أن هذه العقلانية النقدية قد لعبت دوراً أساسيا في تكوين منهجه ورؤيته التجديدية للفكر الإسلامي، وبهذه العقلانية النقدية يرفض الشيخ الغزالى التقليد الأعمى سواء كان تقليدا للشرق القديم أم للغرب الجديد- كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي - فيقبل مايقبل من الافكار، ويدع ما يدع منها، وفق ما يلوح له من الأدلة والبراهين،وما يرجع إليه من القيم والموازين، ولاتهوله الأسماء، ولا الألقاب، وإنما يبحث عن الحق حيثما كان، ومع أي كان.وربما كان هذا العقل الناقد الثائر هو الذي جلب على الشيخ كثيرا من المتاعب في رفضه لآراء وأقوال يقدسها بعض الناس، ويضفون عليها ما يشبه العصمة، وفى نقده الحاد لبعض الأفكار التي يراها ضارة بدعوة الإسلام، سواء من داخل الساحة الإسلامية أم من خارجها.. فالتصور المبدئي للعقل عند الشيخ الغزالى، هو تصور «توليدي» بمعنى أن العقل لايدرك حقائقه مرة واحدة، وإنما يسير على طريق المجهول، إذ هو يدرك حقائق من جملة الحقائق المستورة، ثم ما يلبث أن يدرك حقائق أخرى فأخرى وهكذا.فالمجهول القابل للاكتناه هو عالمه.و هذا العالم الرحب الممتد يشتمل على قطاعات ثلاثة كبرى- يحددها د.الجدعان، هي: -قطاع الكون بعناصره المادية وآفاقه وقوانينه. -قطاع الشئون الدنيوية البشرية مما يتصل بارتفاق الانسان من الطبيعة، وبالانشطة الصناعية والزراعية والتجارية والحرفية، وجملة الخبرات الانسانية. -قطاع العلاقات الإنسانية القائمة على القوانين النفسية والخلقية والاجتماعية والسياسية التي تحكم الجنس الإنساني في حياته على الأرض. ولابترد الغزالى في بيان حدود العقل في هذه القطاعات الثلاثة. فالكون مفتوح أمام العقل الإنساني، يستطيع أن يرتاده من غير حدود، وكذلك الأمر في الشئون الدنيوية البشرية، أما قطاع العلاقات الانسانية والقوانين التي تحكمها فله شأن خاص. ففي المواطن التي لم تدركها تعاليم الدين ينفرد العقل بالأحكام.أما بعد نزول الشرائع وحيث تصل تعاليمها، فإن الكلمة لها وحدها.وهو يعتقد أن جملة ما تقرر عند الأمم خارج دائرة الدين لايضاد الدين، وإن كان ثمة أخطاء تتحمل البشرية وزرها، وتحتاج إلى الدين للخلاص منها.كما أنه يتابع أبا حامد الغزالى في ما ذهب إليه في (المنقذ من الضلال)إذ اعتقد أن جملة ما هو مقبول من الأمور الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، عند مختلف الأمم مما لايرتد مباشرة إلى الدين، إنما يرجع في اصله إلى الشرائع السماوية القديمة.لكن القول الحاسم النهائي هنا ينبغي أن يكون للدين (محمد الغزالى دفاع عن العقيدة والشريعة).أما ما لم يرد فيه نص أو نص محكم من أمور الشريعة، فإن الشيخ الغزالى يلتزم فيه جانب أهل (الرأي)فيقر للعقل بحق استخدام ملكته الاستنباطية الاجتهادية في الاستدلال للأحكام، وفى استنباطها وفق أصول الاجتهاد التي توجه فقه (أهل الرأي). أي أن للعقل عند الغزالى مجاله الفذ:علوم الطبيعة والكون، وشئون الدنيا وصناعاتها، واستنباط الأحكام الشرعية التي لم يرد فيها نص.أما مجال الدين فهو القوانين والشرائع التي تحكم العلاقات الإنسانية، والعقائد والعبادات التي تصل المخلوق بالخالق.والوحي هو الأصل الذي يرتد إليه كل شئ في هذا المجال. وعندما نستعرض ملامح منهج الشيخ الغزالى نجد أن مصادر المعرفة عنده- التي تمثل الركيزة الأساسية لهذا المنهج- تتمثل في الجمع بين القراءتين:قراءة الوحى وقراءة الوجود، حيث إن الوحى والوجود معا من عند الله (ألا له الخلق والأمر) وعندما أمرنا الله تعالى بالتعرف على الحق أمرنا بالقراءتين (اقرأ باسم ربك الذي خلق..اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم..)أي قراءة الوجود والواقع من حولنا، وقراءة الوحي. وهذا الجمع بين القراءتين هو المقياس الذي يحاكم به الشيخ كل نتاج فكرى سواء من المسلمين أو من غير المسلمين، سواء أكان قديماً أو حديثا - في رأي د.علي جمعة - فالإسلام يأمر بالقراءتين حيث تفسر كل قراءة الأخرى، وحيث التطابق التام لوحدة المصدر وهو رب العالمين، فلا تناقض بين الكتابين :كتاب الله المسطور وكتابه المنظور، ولم يقع تحريف ولا تخريف، كما وقع في الأديان السابقة، عندما فارق الكتاب المسطور الكتاب المنظور، فوقع ذلك الصراع المضحك بين الدين والعلم، أو بين الوحي والوجود.. ويرى الشيخ الغزالى أن الاقتصار على قراءة الوحي خطر عظيم وسير بالأمر على إحدى رجليه دون الأخرى، وأن فصل الوجود عن الوحي والاكتفاء به أعظم من الأول، فالحضارة لا تقوم إلا على القراءتين وسعادة الإنسان لا تتم إلا بهما. ولبناء المنهج الفكري الذي يحقق هذه القراءة الصحيحة، فإن الشيخ ألف المحاور الخمسة في القرآن وبيّن لنا (كيف نتعامل مع القرآن)في مدرسة مع الأستاذ عمر عبيد حسنه، وتجاوز التفسير الموضعي والتجزيئى للقرآن الكريم الذي شاع عبر التاريخ الإسلامي، فكتب (التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم)، كما كتب بهذه القراءة أيضاً «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث »فوضع أسس فهمه ومنهاج تعامله مع الكتاب والسنة.وكان لابد أيضا من قراءة صحيحة للكون فألف (تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل). 


أضافة تعليق