د.سيكو توري*
لعل مصطلح البدعة مطية غلو وتطرف وتنطع، وأصبحت البدعة والسنة بمثابة الكفر والإيمان، وتطلقان على كل من خالف موقفا فكريا اجتهاديا، فالأشاعرة مبتدعة عند بعض أهل الحديث في مسائل قابلة للاختلاف، وأهل الرأي في التفسير قد يكونوا مبتدعين عند أهل التفسير بالمأثور، وعلماء الكلام من الجويني والغزالي والبوطي وغيرهم مبتدعة، بل واستبدلت بالمصطلحين الأحكام التكليفية الخمسة، فاضمحلّ المباحُ والمكروهُ والندب، ولم يبق إلا الحرام (وهو البدعة) والواجب (وهو السنة).
وأصبح حكم المولد، والدعاء بعد الصلاة، والتلفظ بالنية، و الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- بصيغ مختلفة، و القنوت في الفجر وغيرها من المسائل بدعة وليس حراما فحسب، ولا شك أنك تستحضِر أن البدعة ضلالة بينما الحرام معصية ولا يشترط أن تكون كبيرة!
التدين المفتوح
أبسط معاني البدعة هي تشريع عبادة في الإسلام بإحداثها بعد أن لم تكن. وهذا يحتاج لفهمٍ دقيق عند تنزيل الحكم، وإلا سيحدث خلطا بين التدين المفتوح وبين البدعة.
التدين المفتوح هو تقرب العبد إلى الله بالمباحات، أو تقرب العبد إلى الله في مسألة مشروعة في الأصل لكن بطريقة مباحة، مثل من يحب أن لا يأكل إلا على طهارة، وأن يتوضأ كلما انتقض وضوءه، ومثل من يحب أن يشرب الماء الذي قُرأ عليه القرآن، ومثل من يحب أن يقبّل المصحف، أو يزين بيته، مكتبه، وسيارته بمصحف، ومثل من يرى أن النقاب ليس واجبا شرعا –قول الجمهور خلافا لقول آخر للإمام أحمد- لكنها تلبسه تقربا إلى الله، ومثله من يرى بإباحة كشف الساق في رياضة كرة القدم لكنه يغطيه تدينا.
مسائل وقضايا التدين المفتوح ليست في الحرام أو الواجب أو المندوب والمكروه بل في المباحات، وقد يكون أكثرها في المتروك والمسكوت عنه أو فعل المشروع بطريقة معينة، إذ لم يحصر الشرع وجها واحدا لعمل ذلك المشروع، ولم يحدد آلية محددة، لذلك تحمل هذه المسائل على الإباحة الأصلية ما أمكن انطلاقا من قاعدة: “الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم ” والتدين المفتوح أوسع أبواب التدين.
“إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ” جعله الألباني حسنا لغيره في شرحه للطحاوية وضعفه في تحقيقة لأحاديث رياض الصالحين بينما حسنه النووي.
وأغلب مسائل التدين المفتوح مقبولة إذا كانت فردية لكن ما إن تنتشر وتصبح شائعة كأن يأخذ دور الواجب أو المندوب أو التدين الجماعي وكأنها شعيرة من حرمات الله فهناك تعظم إشكالية المسألة. ولعل هذا الحديث النبوي الشريف يرمي إلى ذلك: ” النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته”.
بين التدين المفتوح والبدعة
ورد في السنة النبوية أحاديث صحيحة هي في صميم العبادات وهي محتملة الوقوع بين “التدين المفتوح” من باب سكت عن أشياء، كما أن الحكم بالبدعية قابلة عليها أيضا؛ فالصحابة تصرفوا من تلقاء أنفسهم قبل سماع نص فيها. من ذلك ما يأتي:
– وما أدراك أنها رقية: حديث الصحابي الذي رقى سليم الحي بأم الكتاب فبرأ فجوزي بثلاثين شاة. الشاهد أن الصحابي لم يسمع نصا من النبي قبل فعله. فالحكم دائر بين البدعية: تشريع في الدين، وبين التدين المفتوح: إذ الدعاء مشروع وللفاتحة فضلها. بقي ماذا يترجح عند العالم في صناعة الفتوى!
– خشفة نعلي بلال في الجنة: وسر ذلك صلاته بعد كل طَهور. فهذا دائر بين هذا وذاك.
– ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه: عن رفاعة بن رافع: قال كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده قال رجل وراءه ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال أنا قال رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول. الشاهد أن احتمال البدعية والتدين المفتوح وارد في حديث فهو لم يسمعه من النبي عليه السلام.
– أخبروه أن الله يحبه: عن عائشة أن النبيَ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رجلا على سَرِيًّةٍ وكان يقرأُ لأصحابَه في صلاتَهم فيَختِمُ بِقُل هو الله أحد فلما رجعوا ذَكَروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال سَلُوهُ لِأَي شيء يَصْنعُ ذلك فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأَ بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” أَخبِروهُ أن الله يحبُه ” . فهو لم يسمع ما صنع من النبي عليه السلام.
ترداد قراءة سورة الإخلاص: ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن.” الشاهد هنا هو ورود الاحتمالين.
– من هذا الباب المراحل المتنوعة لتدوين المصحف، والعلوم، وما ورد عن البخاري من صلاته ركعتين قبل كتابة الحديث، وما ورد عن الإمام مالك من المشي حافيا في المدينة تدينا، ولبسه أفضل الثياب وتعطره قبل المجلس. وأمثالها كثيرة.
أخيرا، نحتاج لفهم دقيق وسعة صدر ونظرة عميقة لئلا يرمى مسلم بتهمة الخروج عن الإسلام باجتهاد خاطئ في مثل هذه القضايا .
*عميد البحث العلمي وأستاذ مشارك بقسم أصول الدين والدعوة بكلية العلوم الإسلامية بجامعة المدينة العالمية الماليزية